أشارت الروايات إلى الكثير من خصائص مصحف الإمام علي(ع)، بعض هذه الخصائص قد ذكرتها مصادر الإمامية وأهل السنة معاً، فلذلك سنذكرها في الفصل الأول، وبعضها قد إختصت مصادر الإمامية بذكره، وسنذكرها في الفصل الثاني، ولكن قبل الشروع في كلا الفصلين، لابد من ذكر مقدمة هي أشبه بالتمهيد، وهي في بيان الطريقة والمنهج الذي سنسلكه في التعاطي مع روايات المصحف العلوي لكي ننتزع منها الخصائص وغير ذلك من المباحث التي ترتبط بالمصحف العلوي، فنقول:
إن الروايات المتواترة تثبت لنا أصل وجود مصحف الإمام علي(ع)، لكن الروايات الدالة على كل خصيصة من خصائص المصحف العلوي ليست متواترة، فلابد من ملاحظة سندها ودرجة إعتبارها، والحال إن الكثير منها ضعيف السند، فهل تسقط الرواية فيسقط مدلولها حينئذ أو لا؟ والجواب:
إن الرواية الضعيفة ليس معناها أنها موضوعة ومزيفة، وانما معناها أن الدليل لم يقم على إعتبارها، فلايصلح الإحتجاج بها بمفردها، لكن يمكن أن نضم إليها غيرها لكي نحتج بها.
إذن الرواية الضعيفة لايمكن أن تنضم لغيرها للإحتجاج إذا ثبت أنها موضوعة، كما أن الرواية الواحدة قد يثبت أن بعضها موضوع إلا أن بعضها الآخر ليس بموضوع، فوضع بعضها لايسقط قابلية الإحتجاج ببعضها الآخر غير الموضوع إذا انضم إلى غيره.
إذن المنهج المتبع في التعاطي مع روايات المصحف هو تحصيل الإطمئنان من خلال تجميع القرائن التي تدل على المطلوب، ولايضيرنا أن تكون القرائن قد وردت في رواية ضعيفة السند إلا اذا قام الدليل على وضعها، وهذه نقطة مهمة للباحثين في التاريخ وغيره، فالبحث الفقهي يختلف عن البحث التاريخي؛ إذ أن الفقه والأحكام كانت مورد عناية الأئمة والرواة؛ فلذلك وصلتنا الكثير من الروايات الصحيحة، بخلاف التاريخ فقد تصدى لكتابته الكثير من الحكام ووعاظ السلاطين، فالمنهج التاريخي يعتمد على تجميع القرائن الموجبة للإطمئنان.
ومن المعلوم أن أخبار المصحف العلوي ليست من الروايات الفقهية، بل من روايات التاريخ وعلوم القرآن فلابد من تلمس القرائن الموجبة للإطمئنان، ولانرد الرواية بمجرد ضعف سندها، أو وضع بعضها، فمثلاً أكثر روايات المصحف العلوي في مصادر أهل السنة تثبت أن الإمام علياً(ع)، قد بايع أبابكر طوعاً، وهذا مخالف لما عليه الإمامية من أنه لم يبايع، وإذا بايع فعن إكراه بعد شهادة فاطمة الزهراء(س)، مما يكشف عن أن هذا المقطع موضوع في رواياتهم، لكن نفس هذه الروايات تثبت المصحف العلوي، فهل نطرحها بمجرد وضع بعضها؟!
كلا، نظراً لأن مضمونها موافق للروايات الواردة من طرق الإمامية التي تثبت وجود المصحف العلوي، وهذا ما سنجري عليه في بحث الخصائص وغيره، فسنحاول تجميع القرائن التي لم يثبت وضعها، فإذا حصل الإطمئنان إلتزمنا بها نظراً لحجية الإطمئنان.
وإليكم الآن خصائص المصحف العلوي التي ذكرتها مصادر الإمامية وأهل السنة معاً، وهي:
1- ترتيب المصحف على وفق النزول:
من المسلم به بين الشيعة والسنة أن الإمام علياً(ع)، قد رتب القرآن الكريم في مصحفه على حسب ترتيب نزوله، لا على حسب طول حجم السورة كما هو الحال في المصحف العثماني المتداول اليوم، وإليكم بعض كلمات علماء الفريقين الدالة على ذلك:
أ- كلمات علماء الشيعة:
1- الشيخ المفيد(ت413هـ): (وقد جمع أمير المؤمنين(ع) القرآن المنزل من أوله إلى آخره، وألفه بحسب ما وجب من تأليفه، فقدم المكي على المدني، والمنسوخ على الناسخ، ووضع كل شيء منه في محله)(1)، فتقديم المكي على المدني وغيره يدل على ذلك.
2- الشيخ البلاغي(ت1352هـ): (من المعلوم عند الشيعة أن علياً أمير المؤمنين(ع) بعد وفاة رسول الله(ص) لم يرتدِ برداء إلا للصلاة حتى جمع القرآن على ترتيب نزوله، وتقدُّم منسوخه على ناسخه)(2).
3- السيد شرف الدين(ت1277هـ): (أول شيء دونه أمير المؤمنين كتاب الله عز وجل، فإنه (ع) بعد فراغه من تجهيز النبي(ص) ، آلى على نفسه أن لا يرتدي إلا للصلاة، أن يجمع القرآن، فجمعه مرتباً على حسب النزول)(3).
4- السيد الطباطبائي(ت1402هـ): (بعدما ارتحل النبي(ص) إلى الرفيق الأعلى جلس علي(ع)- الذي كان بنص من النبي أعلم الناس بالقرآن - في بيته حتى جمع القرآن في مصحف على ترتيب النزول) (4)، وقال في تفسير الميزان مانصه: (قد ورد عن علي انه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي(ص) أخرجه ابن أبي داود وهو من مسلمات مداليل روايات الشيعة)(5)، فلاحظ كيف أشار صاحب الميزان إلى أنه من مسلمات مداليل روايات الشيعة، وستلاحظ فيما يلي، كيف أن ابن كثير قد فهم من رواية السجستاني أن المصحف العلوي مرتب على حسب النزول، على الرغم من أنه قد شكك في سند الروايات الدالة على أصل وجود مصحف الإمام علي(ع).
ب- كلمات علماء السنة:
1- محمد بن جزي الكلبي(ت741هـ):(قعد علي بن أبي طالب(ع) في بيته فجمعه على ترتيب نزوله ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير) (6).
2- اسماعيل ابن كثير(ت774): (وقد روي أن علياً(ع) أراد أن يجمع القرآن بعد رسول الله(ص) مرتباً بحسب نزوله أولاً فأولاً كما رواه(7) ابن ابي داود)(8)
3- ابن الخطيب(809هـ): (فمنهم من رتبه على ترتيب نزوله، كعلي(ع)، فقد كان أول مصحفه: سورة اقرأ، ثم المدثر، ثم نون، ثم المزمل، ثم تبت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي، فالمدني)(9).
4- ابن حجر العسقلاني(ت852هـ): (أن تأليف مصحف ابن مسعود على غير تأليف العثماني وكان أوله الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ولم يكن على ترتيب النزول ويقال ان مصحف علي كان على ترتيب النزول أوله اقرأ ثم المدثر ثم ن والقلم ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير ثم سبح وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني والله أعلم)(10).
إذن قد اتضح من هذه الكلمات لكلا الفريقين أن كون ترتيب المصحف العلوي مرتباً على حسب النزول من المسلمات بين الفريقين، بل إننا نجد تسليم هذه الخصوصية حتى ممن شكك في أحاديث المصحف العلوي كابن كثير وابن حجر، فعلى الرغم من تشكيكهم في دلالة الروايات على المصحف، لكنهم يسلمون بهذه الخصوصية على تقدير التسليم بوجوده، فمن الغريب أن يشكك في هذه الخصوصية بعض الكتاب من المعاصرين(11)، ولذلك سنحاول إقامة الأدلة على أن المصحف العلوي قد كتب على حسب ترتيب النزول، وهي كما يلي:
الدليل الأول-الروايات:
وهي على طوائف:
الطائفة الأولى- ما جاء فيها لفظ (ما أنزل)، ومايشبهه، مثل:
1- ما رواه الصفار: فقد جاء فيها: (فقال لهم هذا كتاب الله كما انزل الله على محمد وقد جمعته بين اللوحين)(12).
2- ما رواه المسعودي: فقد جاء فيها: (فقال لهم: هذا كتاب الله قد ألفته كما أمرني وأوصاني رسول الله(ع) كما أنزل)(13).
3- ما في ذيل رواية القمي: (لو أن الناس قرأوا القرآن كما أنزل الله ما اختلف اثنان)(14).
4- ما رواه البلاذري: فقد جاء فيها: (ولكني حلفت أن لا أرتدي بعد وفاة النبي (ص) برداء حتى أجمع القرآن كما أنزل.)(15).
5- ما رواه ابن ابي الحديد: (فكتبه عليه الصلاة والسلام كما أنزل، بناسخه ومنسوخه) (16).
6- ما رواه ابو رافع: (فلما قبض النبي(ص) جلس علي (ع) فألفه كما أنزله الله وكان به عالما)(17).
لو تأملنا في لفظ (ما أنزل الله)، لوجدنا أنه يحتمل أحد معنيين، وهما:
المعنى الأول: ما أنزل الله واقعاً، فيحمل اللفظ على إرادة المعنى الواقعي والمراد الحقيقي لله تبارك وتعالى، فيكون معنى الروايات، أن الإمام علياً(ع) قد كتب مصحفه على طبق ما أنزله الله واقعاً من الآيات والسور القرآنية، من دون زيادة، ولا نقيصة.
المعنى الثاني: موافقة ترتيب النزول، فيكون المعنى، أن الإمام علياً(ع)، قد كتب مصحفه على طبق الترتيب الذي نزل به القرآن، فيراد بما أنزل الله، الترتيب الذي على وفقه وغراره أنزل الله القرآن على نبيه، ومن الواضح أن المعنى الثاني هو الذي يثبت المطلوب لا الأول.
لو تأملنا في روايات الطائفة الأولى، لقلنا بنظرة أولية أنها جاءت بحسب المعنى الأول لا الثاني، فهي على غرار هذه الرواية: (عن جابر قال: سمعت أبا جعفر(ع) يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب(ع) والأئمة من بعده(ع))(18)، فالمراد بما أنزل في الرواية، هو ما نزل واقعاً من عند الله، لا ترتيب كتابة القرآن على حسب ترتيب النزول، والقرينة على ذلك، عطف الأئمة(ع) على الإمام علي(ع) في الرواية، مع أنه لم يعرف لأحدهم جمع خاص للقرآن الكريم يتمايز عن القرآن المتداول(19)، ومن هنا حملنا الجمع في هذه الرواية على الحفظ في الصدر أو المعرفة الواقعية للقرآن الذي أنزله الله، كما تقدم سابقاً.
لكننا لو تأملنا في بعض روايات الطائفة الأولى لوجدنا بعض القرائن التي توجب زوال المعنى الأول الذي نراه بدواً، وتثبت المعنى الثاني، ومن هذه القرائن لفظة (فألفه)، (وكان به عالماً) في رواية أبي رافع، وهي الرواية السادسة، ولفظة (قد ألفته كما أمرني وأوصاني) في رواية المسعودي، وهي الرواية الثانية، ومن هنا لابد من معرفة معنى لفظ التأليف في اللغة وفي الحديث، فالتأليف معناه بحسب المتبادر العرفي عندنا اليوم هو بمعنى الكتابة والتدوين، فإذا قيل هذا الكتاب تأليف فلان، فهمنا أن المراد هو أن هذا الكتاب قد دونه وكتبه فلان... هذا بحسب المعنى المتعارف في زماننا، لكننا لو رجعنا إلى اللغة لرأينا اللغويين يذكرون معنى آخر للتأليف، إذ يخصه بعضهم بالتنظيم والترتيب؛ فإذن لابد أن نسلط الضوء على معنى التأليف في اللغة، والحديث، وكلمات المفسرين وأرباب علوم القرآن، وسنورد قولاً واحداً فقط لكل منها:
1- التأليف في اللغة: (ألفت الشئ تأليفاً إذا وصلت بعضه ببعض، ومنه تأليف الكتب. وألفت الشئ أي وصلته....، وألفه: جمع بعضه إلى بعض، وتألف: تنظم)(20).
إذن التأليف في اللغة قد أخذ فيه جمع الأبعاض ووصلها، وقد يؤخذ فيها النظم والترتيب.
2- التأليف في الحديث: روى البخاري، قال: (حدثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش عن شقيق قال قال عبد الله قد علمت النظائر التي كان النبي(ص) يقرؤهن اثنين اثنين في كل ركعة فقام عبد الله ودخل معه علقمة وخرج علقمة فسألناه فقال عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود آخرهن الحواميم)(21)، ومن الواضح أن المراد من تأليف ابن مسعود في الرواية، هو ترتيب مصحفه، فاستخدم التأليف بمعنى الترتيب والتنظيم.
3- التأليف في كلام المفسرين والمحدثين: عادة ما يذكر المحدثون وأرباب علوم القرآن باباً تحت عنوان تأليف القرآن، يتحدثون فيه غالباً عن كيفية ترتيب القرآن، وهذا يدلل على أن مرادهم من تأليف القرآن هو خصوص ترتيبه، لا تدوينه، والقرينة على ذلك أننا نجدهم في كتاب فضائل القرآن يذكرون أولاً باباً تحت عنوان جمع القرآن، ثم يعطفون بعد ذلك عليه باباً تحت عنوان تأليف القرآن، فمرادهم من الجمع، ضم المتفرق، ومرادهم من التأليف هو كيفية ترتيب ذلك المتفرق، فراجع هذين البابين في مختلف كتب الحديث وعلوم القرآن للشيعة والسنة تجد ذلك(22)، ولنذكر لكم عبارة ابن حجر السابقة فهي تدل على المطلوب، حيث قال:
(إن تأليف مصحف ابن مسعود على غير تأليف العثماني وكان أوله الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ولم يكن على ترتيب النزول ويقال ان مصحف علي كان على ترتيب النزول أوله اقرأ ثم المدثر)(23)، فلاحظ أن ابن حجر تارة استخدم لفظة التأليف، وتارة استخدم لفظة الترتيب، مما يدلل على أن مراده واحد منهما.
إذن نستنتج من هذه الشواهد أن لفظ التأليف يطلق على التنظيم والترتيب، فإذا ضممنا هذه القرينة إلى لفظة(ما أنزل الله)، يصبح معنى ما ورد في رواية ابي رافع (فألفه كما أنزله الله)، أي رتبه كما أنزله الله، بمعنى أن الإمام علياً(ع) قد رتب مصحفه على حسب ترتيب نزول الايات التي أنزلها الله على نبيه(ص)؛ ولذلك عطف الرواية بالقول: وكان به عالماً؛ إذ أن أمير المؤمنين كان عالماً بأسباب النزول، وقد عرف الكثير مما يرتبط بالآيات من رسول الله(ص) وهكذا يصبح معنى ما ورد في رواية المسعودي من قوله (هذا كتاب الله قد ألفته كما أمرني وأوصاني رسول الله(ص) كما أنزل).
إذن روايات الطائفة الأولى فيها ما يحتمل المعنيين، كرواية الصفار والقمي والبلاذري وابن ابي الحديد، ومنها ما هو ظاهر في المعنى الثاني(ترتيب النزول) كرواية ابي رافع والمسعودي، فيتم المطلوب، فالطائفة الأولى إذن تدل على أن المصحف العلوي قد جمع وفق ترتيب النزول.
الطائفة الثانية- ما جاء فيها لفظ(تنزيله) وما يشبهها، مثل:
1- ما جاء في رواية سليم: (فلما جمعه كله وكتبه بيده على تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ)(24).
2- ما جاء في رواية الطبرسي: (ولقد أحضروا الكتاب كملاً مشتملا على التأويل، والتنزيل)(25).
3- ما جاء في رواية الشريف الرضي: (فإذا قبضت وفرغت من جميع ما أوصيك به وغيبتني في قبري فالزم بيتك، واجمع القرآن على تأليفه، والفرائض والاحكام على تنزيله)(26).
4- ما جاء في رواية ابن سعد: (حتى أجمع القرآن قال فزعموا أنه كتبه على تنزيله)(27).
هذه الطائفة تحتمل معنيين:
المعنى الأول: أن يكون المراد بالتنزيل، ما نزل واقعاً من عند الله، ولعل ذلك يستظهر من مقتضى المقابلة بين التنزيل والتأويل، فيراد بالتنزيل ما أنزله الله، وبالتأويل المعنى الذي تؤول إليه الآيات المنزلة من عند الله، وهذا المعنى لا يثبت المطلوب، وإن كان ظاهراً من بعضها كرواية الطبرسي التي عبرت بإشتمال المصحف على ذلك مما يوحي بأن المراد هو احتواء المصحف لما نزل واقعاً من عند الله، مع تضمنه لمعنى ما نزل.
المعنى الثاني: أن يراد بلفظ(تنزيله) ترتيب نزوله، ولعل ذلك ظاهر من رواية ابن سعد حيث جاء فيها(فزعموا أنه كتبه على تنزيله)، فعبر بالزعم، وفيها ما يشعر بالإنكار، وحينئذ نقول لا معنى لأن ينكر ويشكك في كتابة مصحف الإمام علي(ع) على طبق ما أنزله الله واقعاً فهو رابع الخلفاء الراشدين عند أهل السنة، وإنما المعقول أن ينكر أن المصحف العلوي مخالف في الترتيب مع المصحف العثماني، فلذلك قال: فزعموا، إلا إذا قلنا بان زعم هنا بمعنى قال، فلا تتم هذه الدعوى. لكن لو تأملنا فيما ورد في رواية الشريف الرضي(واجمع القرآن على تأليفه)، للاحظنا لفظة التأليف، فيصير المعنى: (واجمع القرآن على ترتيبه)، أي على ترتيب نزوله، وكيف كان فبعض روايات الطائفة الثانية فيها ما يشعر بترتيب المصحف العلوي على حسب النزول، فهي تامة في المطلوب، وإن كانت الطائفة الأولى أوضح منها، وسنلاحظ أن الطائفة الثالثة هي أوضح الروايات في الدلالة على المطلوب.
الطائفة الثالثة- ما جاء فيها تعبير يمكن أن يشكل قرينة على الترتيب، مثل:
1- ما رواه ابن الضريس: (قال محمد: فقلت له: ألّفوه كما أنزل الأول فالأول؟ قال: لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه ذلك التأليف ما استطاعوا)(28).
2- ما رواه الحاكم الحسكاني: (قال ابن سيرين: فنبئت أنه كتب المنسوخ وكتب الناسخ في أثره)(29).
3- مارواه الحاكم الحسكاني ايضاً: (قال: فكتبه على تنزيله، فلو أصبت ذلك الكتاب كان فيه علم كثير. قال محمد بن سيرين: فسألت عكرمة فلم يعرفه)(30).
4- ما رواه المستغفري في الفضائل: (قال محمد: فطلبت ماألّف فأعياني، ولم أقدر عليه، ولو أصبته كان فيه علم كثير.)(31).
5- ما رواه ابن شهرآشوب: (وحدثني أبو العلاء العطار والموفق خطيب خوارزم في كتابيهما بالاسناد عن علي بن رباح أن النبي أمر علياً بتأليف القرآن فألفه وكتبه)(32).
6- ما رواه المفيد: (إذا قام قائم آل محمد(ع) ضرب فساطيط لمن يعلم الناس القرآن على ما أنزل الله جل جلاله فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لأنه يخالف فيه التأليف)(33).
7- مارواه النعماني: (قال أمير المؤمنين(ع): كأني أنظر إلى شيعتنا بمسجد الكوفة، قد ضربوا الفساطيط يعلمون الناس القرآن كما أنزل)(34).
روايات الطائفة الثالثة هي أوضح الروايات في الدلالة على أن الإمام علياً(ع) قد رتب المصحف العلوي على حسب نزول الآيات، ورواية ابن الضريس أوضحها؛ إذ جاء فيها(قال محمد:ألّفوه كما أنزل الأول فالأول)، وهذا تعبير يستخدم في اللغة العربية للدلالة على الترتيب والتعاقب، ولم يشكك المستشكل(35) في دلالة هذه الرواية، وانما قال إن هذا التعبير ورد على لسان محمد بن سيرين وليس من الرواية، ولم يطلع هو على المصحف حتى يقول ذلك، لكننا نقول في مقام الإجابة إن المصحف العلوي لم يطلِّع عليه أحدٌ فضلاً عن محمد بن سيرين بعد أن أعرضت عنه الخلافة عندما اطلعت على بعض ما فيه، وقد حجبه الإمام علي(ع) عن الناس بعد ذلك، وضمه للأئمة من أولاده، إلى أن يظهر القائم(عج) على ما يستفاد من رواية سليم، وغيرها، لكننا وصلتنا نقولات عن ذلك المصحف العلوي تنقل وتشير عن حس وسماع لاعن معاينة واطلاع على تلك المضامين، وهذا كاف في المطلوب، إذ يكفي في حجية خبر الثقة أن يكون نقله عن حس ولو كان سماعاً، ولا يشترط النقل عن معاينة، ولو اشترطنا ذلك لسقطت أكثر الروايات، إذ أن أكثر الرواة قد سمعوا ولم يعاينوا، فالمهم أن يكون الراوي ينقل عن حس لاعن حدس واجتهاد، وهذا ظاهر الرواية، ولو تنزلنا وشككنا أنه ينقل عن حس أو حدس، لأجرينا أصالة الحس؛ إذ لاقرينة في البين تدلل على أن النقل كان عن حدس، فإذا شكننا في أن النقل كان عن حس أو حدس، حملناه على الحس في حق الرواة المتقدمين؛ إذ أن هذا هو ظاهر نقلهم لكلام الآخرين.
وأما الروايات الأخرى فقد جاء في بعضها أنه(ع) قد كتب في مصحفه المنسوخ وقد كتب الناسخ في أثره مما يشعر بتقديمه عليه رعاية لترتيب النزول، وجاء في بعضها الآخر لفظ التأليف وهو ظاهر في الترتيب، مثل ماورد في المصحف الذي يخرجه القائم(فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لأنه يخالف فيه التأليف)، وهذا اشارة إلى أن مصحف الإمام علي(ع) يخالف في ترتيبه القرآن المتداول، فلذلك من حفظ القرآن المتداول وتعوّد عليه، يصعب عليه قراءة المصحف العلوي؛ نظراً لتغاير الترتيب بينهما؛ ولذلك نجد محمد بن سيرين قد بحث عنه وتعب ولم يحصل عليه، لأنه كان قد ألف ورتب بشكل آخر، فتضمن العلم والخير الكثير، وبالتالي لو اجتمع الانس والجن على أن يرتبوه ويؤلفوه على هذا النحو ما استطاعوا.
إذن الطائفة الثالثة تدل على المطلوب بلا أدنى إشكال.
خاتمة المطاف:
الروايات بطوائفها الثلاثة تدل على أن المصحف العلوي قد جمع على حسب ترتيب النزول، ولو تنزلنا وأنكرنا دلالة الطائفة الثانية ثم الأولى، لكفتنا دلالة الطائفة الثالثة.
الدليل الثاني- ما أوردته المصادر القديمة من ترتيب مصحف علي(ع):
ذكرت بعض المصادر ترتيب مصحف الإمام علي(ع)، ولم تنص على أنه موافق في ترتيبه للمصحف المتداول مع أنه مشهور الآن، بل إن بعضها قد نص على المخالفة، أو يفهم منه أن المصحف العلوي، قد كتب على حسب ترتيب النزول من خلال ملاحظة ترتيب السور، وإليكم بعض الكتب القديمة التي تطرقت إلى ترتيب المصحف العلوي:
1- ما نقله الشهرستاني(ت548هـ)(36)عن مقاتل بن سليمان(ت150هـ)، من ترتيب مصحف الإمام علي(ع)، وهذا الترتيب المذكور فعلاً موافق لترتيب النزول، وقد وضحنا مسبقاً أن الشهرستاني، لم ينص على أنه قد نقل هذا الترتيب من تفسير مقاتل بن سليمان حتى يشكل عليه بأنه غير مذكور في التفسير المطبوع لمقاتل، فلعله نقله من كتبه الأخرى، وهذا النقل من أكبر الشواهد على أن مصحف الإمام علي(ع) قد كتب على حسب ترتيب النزول.
2- تاريخ اليعقوبي(ت292هـ)(37)، وقد نقلنا ترتيبه مسبقاً، واتضح أنه مغاير للمصحف المتداول اليوم، وإن كان قريباً منه أيضاً، لكنه ليس على وفق ترتيب النزول، إذ قسم القرآن إلى سبعة أجزاء، وجعل سورة البقرة في الجزء الأول، مع أنها مدنية.
3- فهرست ابن النديم(ت380)(38)، حيث كتب العنوان التالي: (ترتيب سور القرآن في مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجههه)، ثم جاء بالرواية التي نقلناها مسبقاً إلى أن قال: (وهذا ترتيب السور من ذلك المصحف....)، والغريب أنه لم يذكر الترتيب في النسخ المطبوعة، فهل لم يكتبه ابن النديم أصلاً؟ وهذا خلاف ظاهر عبارته، أم أنه سقط من سهو النساخ؟ وهذا بعيد في هذا المورد بالخصوص لأن الكتاب هنا في مقام الذكر والتعداد، أم أن أحدهم عمد إلى إسقاط ذلك الترتيب من نسخة الفهرست؟وهذا لايعلمه إلا الله عز وجل.
والمهم في هذا النقل أنه نص على ترتيب المصحف العلوي، ولم ينص على أنه مطابق للمصحف العثماني المتداول، مما يدلل ويشعر بأن المصحف العلوي له ترتيب خاص عند ابن النديم، وهذا لربما يحكي عن مرتكز ذهني عام في ذلك الوقت عن ترتيب المصحف العلوي.
4- ما ذكره كتاب المباني في علم المعاني(39) المؤلف في سنة425هـ، ونلاحظ أن ترتيبه أيضاً كان يلحظ التفريق بين السور المكية والمدنية.
إذا لاحظنا ماذكرناه نلاحظ أن القدر المتيقن المتفق عليه بينها أن المصحف العلوي لم يكن موافقاً في ترتيبه للمصحف المتداول اليوم، لكنها لاتثبت أن المصحف العلوي قد كتب مرتباً على حسب النزول إلا نقل الشهرستاني عن مقاتل، وأما البقية فلا تثبت ذلك؛ نظراً لجهالة مؤلف كتاب المباني، ومخافة ترتيب اليعقوبي لترتيب النزول، وعدم ذكر الترتيب في فهرست ابن النديم، لكن مجموع هذه النقولات يؤكد أن المصحف العلوي له ترتيب خاص معروف.
إذن الدليل الثاني يمكن أن يثبت أن الإمام علياً(ع) قد كتب مصحفه على حسب نزول القرآن، إذا قبلنا نقل الشهرستاني المعتضد بتأييد الروايات له، ولو تنزلنا ورفضنا ذلك لقلنا إن هذه النقولات تشكل قرينة قد تسهم في تحصيل الإطمئنان على المطلوب إذا ضممنا إليها الروايات الواردة في الدليل الأول، وما سيأتي في الدليل الثاني.
الدليل الثالث- العقل:
ذُكِرت(40) بعض المقدمات التي يمكن أن تصلح لتشكيل دليل عقلي على المطلوب، وهي:
1- القرآن مؤرخ، والمناسب في تدوين الأحداث و المناسبات التاريخية أن تكتب مرتبة على حسب التسلسل التارخي.
2- يوجد في القرآن الناسخ والمنسوخ، فالطريقة الصحيحة لعرض الآيات تكمن في كتابته على وفق ترتيب النزول.
3- القرآن فيه إجمال وتفصيل، وأمر ونهي، وشدة ولين، وقد نزلت آياته في ظروف مختلفة، فلابد من كتابته على حسب ترتيب النزول حتى يفهم بشكل صحيح، ولايرى متناقضاً.
4- يظهر المتن التاريخي الذي يرتب متسلسل الأحداث بشكل منظم وأنيق، بخلاف المتن الذي تخلط فيه الوقائع والأحداث.
5- النظم مطلوب وممدوح في كل شيء، وعدم النظم مذموم وغير مطلوب، وأفضل نظم ميسور للقرآن الكريم، هو النظم التاريخي الموافق للنزول.
فلو نظرنا إلى هذه المقدمات، ولاحظنا علم علي(ع)، لقلنا من المحتم أنه سيرجح طريقة تدوين القرآن على وفق النزول على سائر الطرق الأخرى للجمع.
لكن الإنصاف: إن هذه المقدمات لو سلمنا بها- على مافيها من تكرار- لاتثبت لزوم ترجيح هذه الطريقة، وفرق كبير بين الرجحان، ولزوم الرجحان، فهذه المقدمات إنما تثبت رجحان التدوين على حسب النزول، ولاتثبت حتميته ولزومه، وهذا ما ينفعنا لإثبات كون المصحف العلوي قد كتب على حسب ترتيب النزول.
إذن الدليل الثالث لايدل على المطلوب، لكنه قد يشكل قرينة إثبات ناقصة قد تعضد بقية الأدلة في إثبات أن المصحف العلوي قد كتب على حسب ترتيب النزول.
-----------------
(1) المسائل السروية ص78- 82، المسألة التاسعة: صيانة القرآن من التحريف، لزوم التقيد بما بين الدفتين.
(2) آلاء الرحمن في تفسير القرآن ج1 ص51 هامش (2)، مقدمة المؤلف.
(3) المراجعات ص411، المراجعة رقم 110 فقرة رقم 2.
(4) القرآن في الإسلام ص135.
(5) الميزان في تفسير القرآن ج12 ص128، تفسير سورة الحجر، الآيات 1-9.
(6) التسهيل لعلوم التنزيل ج1 ص4، المقدمة الاولى، الباب الأول.
(7) نلاحظ أن ابن كثير قد فهم من رواية ابن ابي داود ترتيب النزول، وهذا ماسنثبته عندما نتطرق للروايات.
(8) تفسير القرآن العظيم ج5 ص585، كتاب فضائل القرآن، وهو ذيل لتفسير ابن كثير، جمع القرآن.
(9) الفرقان ص47.
(10) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج9 ص38.
(11) وهو السيد محمد علي ايازي، فقد كتب حوالي ثلاثين صفحة في كتابه مصحف امام علي(فارسي) ص81-111، الفصل الرابع، وناقش الادلة الدالة على جمع المصحف العلوي بحسب ترتيب النزول وردها، لكن رد عليه الدكتور جعفر نكونام في أكثر من ستين صفحة في الفصل الثالث من كتابه پژوهشي در مصحف امام علي(فارسي) ص99-162، والحال إن ترتيب المصحف العلوي على وفق النزول من المسلمات في كلمات الفريقين كما ذكرنا، بل من الواضحات، ولو أردنا مناقشة جميع ملاحظات السيد ايازي، لاحتجنا الى كتابة رسالة مستقلة أحرى أن نسميها (القول الجلي في ترتيب مصحف علي)، لكننا سنناقش بعض ما أورده رعاية للإختصار، وسنكتفي بإقامة بعض الأدلة حتى لا يطول بنا المقام، ويخرج الكلام عن أصل موضوع البحث.
(12) محمد بن الحسن الصفار(ت290هـ)، بصائر الدرجات الكبرى ص213، باب ان الأئمة عندهم جميع القرآن.
(13) علي بن الحسين المسعودي(ت346هـ)، كتاب إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب(ع) ص146.
(14) علي بن ابراهيم القمي(ت320هـ)، تفسير القمي ج2 ص452، تفسير سورة الناس في أواخر التفسير.
(15) أحمد بن يحيى البلاذري، أنساب الأشراف ج1 ص587، حديث 1187.
(16) ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ج6 ص40.
(17) محمد بن علي بن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب ج1 ص320، في المسابقة بالعلم.
(18) محمد بن يعقوب الكليني(ت329هـ)، أصول الكافي ج1 ص286، كتاب الحجة، باب 35، حديث 1، محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي ج5 ص312، الفيض الكاشاني، تفسير الصافي ج1 ص20، محمد الريشهري، أهل البيت في الكتاب والسنة ص202.
(19) يقول السيد مير محمدي الزرندي: (الظاهر أن المصحف الذي نسب إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق هو نفس ذلك المصحف الذي ورثه عن آبائه عن علي(ع)، فلا يعد مصحفه(ع) مصحفاً آخر في قبال مصحف أبيه علي(ع))، بحوث في تاريخ القرآن وعلومه ص141.
(20) ابن منظور، لسان العرب ج1 ص180، مادة ألف.
(21) محمد البخاري، صحيح البخاري ص1287، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، حديث4996.
(22) فراجع مثلاً: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ج89، باب7 ص40، محمد بن اسماعيل البخاري، صحيح البخاري ص1284، باب جمع القرآن تحت رقم 3، وباب تأليف القرآن ورقمه6 من كتاب فضائل القرآن.
(23) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج9 ص38.
(24) سليم بن قيس(ت76هـ)، كتاب سليم بن قيس الهلالي ص148، أحمد الطبرسي، الإحتجاج ج1 ص107.
(25) أحمد الطبرسي، الاحتجاج ج1 ص383، محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج90 ص98، 126
(26) خصائص الأئمة ص72، محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ج22 ص483-484، تاريخ الأنبياء، باب وصيته عند قرب وفاته، حديث 30.
(27) ابن سعد، الطبقات الكبرى ج2 ص338، باب ذكر من كان يفتي بالمدينة ويقتدى به، ترجمة الامام علي.
(28) محمد بن أيوب بن الضريس، فضائل القرآن ص36، باب فيما نزل من القرآن بمكة، حديث22.
(29) عبيدالله الحاكم الحسكاني، شواهد التنزيل ج1 ص38، حديث 27.
(30) نفس المصدر.
(31) جعفر بن محمد المستغفري، فضائل القرآن ج1 ص358، باب ماروي في جمع القرآن للمصحف كيف كان، حديث 420.
(32) محمد بن علي بن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب ج1 ص320، في المسابقة بالعلم.
(33) محمد بن محمد بن النعمان المفيد، الارشاد ج2 ص386.
(34) محمد ابراهيم النعماني، كتاب الغيبةص33، محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ج52 ص364 حديث 139.
(35) وهو السيد محمد علي ايازي في كتابه مصحف امام علي(فارسي) ص88، ص93.
(36) تفسير مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار ج1 ص120.
(37) ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي ج2 ص135.
(38) ابن النديم، الفهرست ص30.
(39) هذا الكتاب لأحد الأشخاص من بلاد المغرب العربي، ولم يعرف على مانقله آرتور جفري، كما في المقدمة ص3-4، فراجع كتاب مقدمتان في علوم القرآن.
(40) ذكرها الدكتور جعفر نكونام في كتابه: پژوهشي در مصحف امام علي(فارسي) ص99، وسنذكرها بتصرف.
source : www.aban.ir