هل أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة ( عليهم السلام ) يعلمون الغيب ، الذي اختُصَّ به الله عزَّ وجل ؟
نحن ندَّعي علم الغيب للنبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة ( عليهم السلام ) ، ولكن لا على نحو الاستقلالية ، بل نقول : إن الله أطلع نبيه ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) على الأمور الغيبية التي لم يطَّلِع عليها أحد .
وإن شئت قلت : علم الغيب لذات الشخص وبلا توسط من الغير ، هو العلم الثابت لواجب الوجود ، والذي هو عين الذات ، وهذا مختص بالله ، ولغيره تعالى يعتبر كُفراً .
أما العلم بالغيب الذي هو بتوسط الله تعالى ، وليس هو عين الذات ، فهذا الذي يعلمه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، والأئمة ( عليهم السلام ) ، وقد دلَّت عليه الآيات ، والروايات ، نذكر منها :
الأولى :
حينما كان الإمام علي ( عليه السلام ) يخبر عن الملاحم بالبصرة ، وما يجرى فيها في المستقبل ، فقال له بعض أصحابه : لقد أُعطيتَ يا أمير المؤمنين علم الغيب ؟!!
فضحك ( عليه السلام ) وقال للرجل - وكان كلبياً - : ( يا أخَا كلب ، ليس هو بعلم غيبٍ ، وإنما هو تعلُّم من ذي علم ، وإنما علم الغيب عِلم الساعة ، وما عدَّده الله سبحانه بقوله : ( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) لقمان : 34 .
فهذا هو علم الغيب الذي لا يعلمه أحدٌ إلا الله ، ما سوى ذلك فعلمٌ علَّمه الله ، وما سوى ذلك فعلمٌ علَّمه الله نبيَّه فَعلَّمَنِيه ، ودعا لي بأن يَعيه صدري ، وتضطمَّ عليه جوانحي ) نهج البلاغة / الخطبة 128 .
الثانية :
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) لهشام : ( إنا نحن نتوارثُ الكمالِ والتمام ، اللَّذَين أنزلهما الله على نبيه في قوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا .. ) المائدة : 3 ، والأرض لا تخلو مِمَّن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا ) .
فلما سمع ذلك هشام انقلبت عينه اليمنى فاحْوَلَّت ، واحمرَّ وجهه ، وكان ذلك علامةُ غضبه إذا غضب ، ثم أطرق هنيئة ، ثم رفع رأسه فقال للإمام ( عليه السلام ) : ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( نحن كذلك ، ولكن الله جلَّ ثناؤه اختصَّنا من مَكنون سِرِّه ، وخالص عِلمه ، بما لم يختص أحداً به غيرنا ) .
فقال : أليس الله جلَّ ثناؤه بعث محمداً من شجرة عبد مناف إلى الناس كافَّة ، أبيضها وأسودها وأحمرها ، من أين ورثتم ما ليس لغيركم ، ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة ؟ وذلك قول الله تبارك وتعالى : ( وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .. ) آل عمران : 180 ، الحديد : 10 .
فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبي ، ولا أنتم أنبياء ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( من قوله تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ )) القيامة : 16 .
فالذي أبداه فهو للناس كافة ، والذي لم يحرك به لسانه ، أمر الله تعالى أن يخصَّنا به من دون غيرنا ، فلذلك كان ( صلى الله عليه وآله ) يناجي أخاه عليا ( عليه السلام ) من دون أصحابه ، وأنزل الله بذلك قرآناً في قوله تعالى : ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) الحاقة : 12 .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأصحابه : ( سألت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي ) .
فلذلك قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بالكوفة : ( علمني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ألف باب من العلم ، يُفتح من كل باب ألف باب ) ، خَصَّه به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من مَكنون علمه ، ما خَصَّه الله به ، فصار إلينا ، وتوارثناه من دون قومنا ) .
فقال هشام : إن عليا كان يدَّعي علم الغيب ، والله لم يُطلِع على غيبه أحداً ، فمن أين ادَّعى ذلك ؟
فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن الله جلَّ ذكره أنزل على نبيِّه ( صلى الله عليه وآله ) كتاباً ، بَيَّن فيه ما كان ، وما يكون ، إلى يوم القيامة ، في قوله : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) النحل : 89 .
وفي قوله : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) يس : 12 ، وفي قوله : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) الأنعام : 38 .
وفي قوله : ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) النمل 75 .
وأوحى الله تعالى إلى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن لا يُبقِي في غَيبه ، وسِرِّه ، ومكنون علمه شيئاً ، إلا يناجي به علياً ، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده ، ويتولَّى غُسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه .
وقال ( صلى الله عليه وآله ) لأصحابه : ( حرام على أصحابي ، وأهلي ، أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي ، فإنه مني ، وأنا منه ، له ما لِي ، وعليهِ ما عَلَيَّ ، وهو قاضي ديني ، ومنجز موعدي ) .
ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) لأصحابه : ( علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله ، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند علي ) .
ولذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأصحابه : ( أقضاكم علي ) ، أي هو قاضيكم ، وقال عمر بن الخطاب : لولا علي لهلك عمر ، أفيشهد له عمر ويجحد غيره ) ؟!
الثالثة :
عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : ( ألا إنَّ للعبد أربع أعين : عينان يبصر بهما أمر دينه ودنياه ، وعينان يبصر بهما أمر آخرته ، فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح له العينين في قلبه فأبصر بهما الغيب في أمر آخرته ) الخصال 1 / 240 ح 90 باب الأربعة .
وذكر المتقي الهندي الحديثَ في كتابه كنز العمال 2 / 42 ح 3043 ، بلفظ مشابه لهذا الحديث .
الرابعة :
أخبر الإمام الرضا ( عليه السلام ) ابن هذَّاب بما يجري عليه في المستقبل ، حيث قال ( عليه السلام ) له : ( إنْ أخبرتُك أنك سَتُبلى في هذه الأيام بذي رحم لك ، كنتَ مُصدِّقاً لي ) ؟ قال : لا ، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى .
قال ( عليه السلام ) : ( أوَ ليس الله يقول : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ .. ) الجن : 26 - 27 .
فرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عند الله مرتضى ، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه ، فعلمنا ما كان ، وما يكون ، إلى يوم القيامة .
وإن الذي أخبرتُك يا ابن هذاب لكائنٌ إلى خمسة أيام ، فإن لم يَصحُّ ما قلتُ فبهذه المدة ، وإلا فإني كذَّاب مُفتَرٍ ، وإن صَحَّ فَتعلَمُ أنَّك الرَّادُّ على الله ، وعلى رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولك دلالة أخرى ، فَتُصاب بِبَصرك وتصير مكفوفاً ، فلا تبصر سهلاً ولا جبلاً ، وهذا كائن بعد أيام ، ولك عندي دلالة أخرى ، إنَّك ستحلِفُ يميناً كاذبة فَتُضرَب بأبرص ) .
قال محمد بن الفضل : بالله لقد نزل ذلك كله بابن هذاب [ الخرايج والجرايح للراوندي 306 الباب التاسع ] .
نقول : هذه رواية صريحة في علمهم ( عليهم السلام ) للغيب .
الخامسة :
وفي خطبة للإمام علي ( عليه السلام ) يذكر فيها صفات الإمام ، جاء فيها : ( ويلبسُ الهيبةَ ، وعلم الضمير ، ويطَّلع على الغيب ، ويعطي التصرُّف على الإطلاق ) مشارق أنوار اليقين : 115 .
السادسة :
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( نبئت وآدمَ بين الروح والجسد ) .
وقال ( صلى الله عليه وآله ) أيضاً : ( وجبت لي وآدم بين الروح والجسد ) فضائل ابن شاذان : 34 ، كنز العمال 12 / 426 .
نقول : فكونه ( صلى الله عليه وآله ) نبيّاً ينبأ ، في غاية الوضوح والدلالة على تلقيه العلوم في ذلك العالم ، إذ يستحيل أن الله اتَّخذ نبيا ونبأه وهو فاقد للعلم ، وفيما ذكرناه من الروايات كاف لمن ألقي السمع وهو شهيد .
source : www.tebyan.net