عربي
Friday 22nd of November 2024
0
نفر 0

الإمام الباقر (ع) وبناء التجربة العلمية في الأمة الإسلامية

الإمام الباقر (ع) وبناء التجربة العلمية في الأمة الإسلامية

من مؤلفات الاستاذ راشد الراشد، باحث اسلامي وقيادي في تيار العمل الإسلامي البحريني.

الإمام الباقر (ع) وبناء التجربة العلمية في الأمة الإسلامية

لقد اتيحت الفرصة للأمام السجاد (ع) لإستثمار ظروف مابعد معركة عاشوراء وعلی مدار 33 عاماً، ركز فيها علی تحقيق الأهداف التي أرادت نهضة الإمام الحسين (ع) ايجادها في الأمة.

وظلّ خلال هذه المدة الزمنیة يعكس تفاصيل المعركة والقيم التي أرادت غرسها في الأمة.

وبالفعل اتت ثورة الإمام الحسين أكلها حين تغذت الأمة بشكل كافٍ بروح المسؤولية واخلاقيات الصراع واندفعت بقوة للمطالبة بحقوقها، ورد المظالم التي كانت تفتك بها من قبل آل أمية، فنشبت أحداث ثورات عديدة في الساحة حركت بل وغيرت الكثير من معادلات الجمود التي كانت تلفها فيما مضی من الوقت.

ويجيء الإمام الباقر (ع) ليستلم مهام القيادة الشرعية والأمة معبأة بشكل كافٍ لمقاومة عوامل الإنحراف السياسي والإجتماعي الذي يحاول الحزب الأموي تكريسها وتعميقها في صفوف الأمة.

والسؤال: ما هو الدور الذي قام به الإمام الباقر (ع) وأداه في هذه الفترة الزمنية من عمر الصراع؟

قبل الحديث عن دور الإمام (ع) لابد من المرور علی مجمل معطيات الواقع حينها، لتكون خليفة واضحة لما سيقوم به الإمام (ع) لمواصلة المسيرة الرسالية المباركة في الأمة.

يمكن لنا تلخيص أبرز ملامح الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي الذي كانت تعيشه الأمة خلال الفترة الزمنية التي تلت العام الهجري 94، بمايلي:

1/ القوی السياسية:

أ_ الحزب الأموي: الذي بدأت عوامل الضعف تنخر في كيانه لأسباب عديدة أبرزها: عمل ونشاط المؤمنين الرساليين وسط جماهير الأمة لتعرية الحزب الأموي وكشف زيف ادعاءاته بالإسلام، واتجاه آل أمیة الإستهتار بكل القيم والمبادیء التي جاء بها الإسلام.

ب_ الخوارج: الذين تنامت قوتهم في هذه الفترة لما يبذلونه من جهد وتضحية من أجل تصديق قناعاتهم وأفكارهم في الساحة، حتی إنهم قادوا بعض الحملات ضد الحزب وانتصروا في بعضها(1). وهم يشكلون إحدی القوی السياسية الفاعلة في هذه الفترة.

ج_ المرجئة: وهم أصحاب الفكرة التي إنطلقت لتبرير ملك آل أمية وسيطرتهم علی سدة الخلافة، وهم يكفرون عثمان بن عفان والإمام علي (ع) ومعاوية. ولديهم من القوة مايمكنهم من مقاتلة ومحاربة كل من يعترض أفكارهم وقناعاتهم التي يؤمنون بها.

د_ المعتزلة أو القدرية: التي رغم أنَّها إبتدأت أول الأمر طائفة دينية لا دخل لها في السياسية لكنها لم تلبث أن دخلت في معارك سياسية لصالح معتقداتها.

* * *

من مجموع هذه القوی الأربع إضافة إلی تيار الحركة الإسلامية بقيادة الإمام الباقر (ع) تتشكل خارطة القوی السياسية التي كانت تمثل أطراف معادلة الصراع حينها.

وتتفق كل هذه القوی رغم التباين والإختلاف الجوهري الواضح بينها علی ضرورة إزالة آل أمية من سدة الخلافة الإسلامية، مستندين في ذلك إلی أسباب عديدة أبرزها فساد هذه الأسرة وتحويلهم مسألة الخلافة الإسلامية إلی نظام ملكي وراثي إستبدادي.

2/ الوضع الإجتماعي:

أمّا بالنسبة للواقع الإجتماعي فكان منقسماً لطبيعة عمل التيارات السياسية والفكرية التي كانت تتحرك حسب قناعاتها في وسط الناس.

وما يمكن أن يقال بالنسبة لحجم التفاعل الجماهيري بالنسبة لخط أئمة أهل البيت (ع) هو وسعة انتشاره خاصة وأن الأئمة (ع) شجّعوا بعض كوادر الأمة لتبني إطارات عمل مختلفة لمواجهة آل أمية عبر حركات ثورية ضارية. وتؤكد معظم المصادر التاريخية علی أن الأئمة (ع) كانوا يقفون وراء الحركات الثورية التي قامت لضرب الحزب الأموي وقد مرّ قبل ذكر نماذج من هذه الثورات.

إن الشعور بالإثم الذي توّلد بعد التقصير في نصرة الإمام الحسين (ع) في معركة يوم عاشوراء، ومن جهود الإمام السجاد (ع) لتغذية هذا الشعور ولّد إندفاعاً قوياً نحو القيام بعمل ثوري ما للتخفيف من وطأة ألم الشعور بالإثم، وأصبحت الساحة الجماهيرية معبأة ومهيأة للمشاركة في أي عمل جهادي ثوري يخدم الإتجاه الشرعي الذي يمثله الائمة (ع) باعتبارهم الإمتداد الشرعي للرسول الأعظم (ص).

لقد تجمع الرسالييون في تحريك إرادة الأمة نحو ما يحييها ويعيد لها ما فقدته خلال سنوات الانحراف، ولكنها الآن بحاجة إلی عمل فكري دقيق يعمق فيها الوعي والفهم والادراك السليم للإسلام كمفهوم حياتي وحضاري.

وتأتي أهمية مثل هذا العمل بالذات لأنّ مسرح الصراع السياسي هو الذي طغی وكون خط أهل البيت (ع) إحدی اطرافة القوية مما جعل من مسألة إدخال الثقافة الإسلامية ترتبط بما يخدم التوجهات السياسية الحاكمة في تلك الظروف الحساسة، رغم أن الأئمة (ع) كانوا يلتمسون مختلف الطرق لتوضيح الأبعاد الحضارية والفكرية لكل أعمالهم السياسية التي قاموا بها. أضف إلی ذلك بروز تيارات فكرية تدعوا لبعض أفكارها الهدامة رغم صبغة «التوحيد» التي كانت تلبسها (كالخوارج، والمعتزلة، والقدرية، والمرجئة) ومما يُعدخطراً ما حقاً علی وعي عامة المسلمين برسالة الإسلام التي جاء بها الرسول الأكرم (ص).

ومن هنا ولكي لاتقع الأمة في منزلق فهم الإسلام كأنما هو رسالة للتعاطي فقط مع الواقع السياسي القائم، ولكي يصبح الإسلام قادراً علی مجابهة تيارات الإنحراف التي بدأت تجد آذانا صاغية في الأمة. لكي لايحدث ذلك كان لابد من القيام بعمل فكري وعلمي مركز لشرح أبعاد رسالة الإسلام المختلفة، دينياً، إجتماعياً، إقتصادياً وثقافياً.

ولاشك إن بلورة نظرية إسلامية متكاملة في هذا المجال، وحتی تصبح ثقافة حية في نفوس الأمة، وتتحول إلی وعی سليم بجوانب التحرك الإسلامي بحاجة إلی مدة زمينة غير قليلة، بالذات إذا نظرنا إلی جانب التحديات الموجودة التي كانت تعرقل مسار مثل هذا العمل في مثل هذه الفترة والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:

في مثل هذه الفترة والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:

1/ تحدي العمل السياسي الموجود إذ لابد للإمام الباقر (ع) من تغذية الأمة بنشاطات وفاعليات تحدد الموقف الرسالي السليم إزاء الأوضاع والحوادث اليومية المختلفة وكذا القوی الفاعلة حينها.

2/ تحدي العمل الفكري الذي يتمثل ببروز تيارات واتجاهات فكرية أخری في الساحة، ولها نشاطاتها وفاعليتها المتعددة لكسب المؤيدين والأنصار ومن ثم للتأثير علی مجمل الساحة.

ومن هنا اتجه الإمام الباقر (ع) إلی العمل فوراً لتأسيس نواة المدرسة العلمية التي يقوم من خلالها بتربية واعداد الكوادر العلمية المؤهلة والكفؤة لتحمل أعباء نشر رسالة الإسلام، خاصة ولأن التيارات الفكرية التي نشأت سابقاً(2) بدأت تأخذ حيِّزاً لابأس به في الساحة، وأخذت بعض الأفكار تروج بسرعة رهيبة، مما هيأ الأرضية لولادة بعض المدارس الفكرية من رحم الحركة الإسلامية التي قادها الرسول (ص)، ومن هذه المدارس: المالكية، الشافعية، الحنبلية، والحنفية.حيث ابتدءت ملامح تشكلها في عهد الإمام الباقر (ع).

يضاف إلی ذلك تنامي التيارات الفكرية الأخری، التي ساهمت في إيجاد ثقافة تبريرية واسعة بين جماهير الأمة.

ولأهمية الحد من خطر انتشار مثل تلك التيارات كان لابد للإمام الباقر (ع) من أن يمارس عملاً متواصلاً ومراكزاً لبلورة النظرية الإسلامية بمختلف جوانبها وأبعادها، السياسية والإقتصادية والإجتماعية والعبادية.

وهنا اتجه العديد من الؤرخين إلی إثارة الجوانب الفقهية الصرفة التي أثارها الإمام الباقر (ع) مدة إمامته، متجاهلين الجوانب الأخری في حركته.

فالجوانب الفقيهية رغم أهميتها وضرورتها للمجتمع الإسلامي حينها إلّا أن طبيعة الصراع الذي كانت تخوضه الأمة الإسلامية في ذلك الوقت كانت تفرض إعطاء وطرح النظرية الإسلامية بكاملها لكي تعالج مختلف القضايا المعاصرة التي كانت تعيشها الأمة، وبالتالي مَكَّنها من مواجهة سيل الأفكار التي تنحدر من التيارات المحرّفة والمنحرفة في الأمة.

فمن جملة الاطروحات النظرية الهامة التي عاجلها الإمام (ع) في هذه الفترة «المسألة القيادية في الأمة» و «الشيعة والتشيع».

لقد تحدث الإمام (ع) ذات مرة عن المسألة القيادة وقضية الخلافة الإسلامية، أمام هشام بن عبدالملك، الذي أزعجه كثيراً إثارة مثل هذه الموضوعات التي تثير عليه السخط الشعبي العام فيما لو قدر لها الإنتشار في صفوف الناس(3).

وهكذا يكون الإمام الباقر (ع) هو واضح الحجر الأساس في المدرسة العلمية الرسالية التي أخذت تتسارع في النمو في العهود اللاحقة من عمر الصراع الرسالي مع قوی الإنحراف والضلال في الأمة.

وقد وردت روايات عديدة عن إنه (ع) «بقر العلم بقراً» وكان المسلمون يتقصدونه من جميع الأقطار لاسيتضاح الغوامض من أمورهم. مما جعل له شعبية ونفوذاً واسعاً في نفوس المسلمين. رغم أنّ العديد من الفقهاء والعلماء التابعين للمدارس الفكرية الأخری حاولوا تعجيز الإمام (ع) في بعض المسائل النظرية، لكنهم عجزوا عن تحقيق ذلك واستفاد الإمام (ع) من محاولاتهم لتأكيد أهليته للتصدي لأمور الناس.

تقول الروايات إنه لمّا حمل أبو جعفر (ع) إلی الشام إلی هشام بن عبدالملك وصار ببابه قال هشام لاصحابه: إذا سكت من توبيخ محمد بن علي، فلتوبخوه ثم أمر أن يؤذن له فلما دخل عليه أبو جعفر (ع)، قال بيده السلام عليكم، فعمهم السلام جميعاً ثم جلس، فازداد هشام عليه حنقاً بتركه السلام بالخلافة وجلوسه بغير إذن، فقال: يا محمد بن علي لايزال الرجل منكم قد شق عصی المسلمين ودعا إلی نفسه وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم، وجعل يوبخه، فلما سكت أقبل القوم عليه رجل بعد رجل يوبخه فلما سكت القوم نهض قائماً ثم قال: أيها الناس أين تذهبون وأين يراد بكم، بنا هدی الله أولكم، وبنا ختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجل فإن لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك لأنّا أهل العاقبة، يقول الله عزوجل (والعاقبة للمتقين) فأمر به الی الحبس، فلم يبق في الحبس رجل لا ترشفه _خدمه_ وحسن عليه، فجاء صاحب الحبس إلی هشام وأخبره بخبره، فأمر به فحمل علی البريد هو وأصحابه يردوا إلی المدينة(4).

وأمّا بالنسبة لأطروحة الشيعة والتشيع فتوجد رواية عن إن الإمام الباقر (ع) حج إلی بيت الله الحرام وقد إصطحب إبنه الإمام الصادق (ع) حتی إذا بلغ المسجد الحرام والألوف من الناس محتشدين في المسجد وبحضور هشام بن عبدالملك، وقف الصادق (ع) يوضح لهم المفهوم الشيعي عن أهل البيت (ع) ويقول لهم بكل صراحة بأنهم هم الذين يتمعون بهذه الصفات والخصوصيات وهم أصحاب الزعامة الروحية والإجتماعية في المجتمع وهم وارثوه الحقيقيون(5).

وهذه نماذج بسيطة تعبر عن مواقف واتجاهات جديدة أراد الإمام الباقر (ع) تربية الأمة عليها ومن ثم هدايتها وإرشادها إلی الطريق القويم الذي يجب ان يتبع. وكانت المدرسة العلمية التي أسسها مركزاً ومقراً لبث المفاهيم والمعارف الرسالية تمكن من خلالها الإمام (ع) من تخريج وتأهيل العديد من الكواردر الكفوءة التي تُعد اليوم من أعلام المدرسة الرسالية ومنهم كما جاء في الرواية: «قال ابن شهر اشوب وقد روی عن الإمام (ع) معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقها المسلمين، فمن الصحابة: جابر بن عبدالله الأنصاري، ومن التابعين: جابر بن يزيد الجعفي، وكيسان السختياني صاحب الصوفية، ومن الفقهاء نحو: ابن المبارك، والزهري، والأوزاعي، وابي حنيفة، ومالك، والشافعي، وزياد بن المنذر النهدي، ومن المصنفين نحو: الطبري والبلاذري، والسلامي، والخطيب في تواريخهم(6).

وقال إجتمعت العصابة علی أنّ أفقه الأولين، ستة وهم أصحاب أبي جعفر، وأبي عبدالله عليهما السلام، وهم زرارة بن أعين، ومعروف بن خربوذ المكي، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي، وبريد بن معاوية العجلي.

واستطاع الإمام الباقر (ع) مدة إمامته وتصديه لقيادة الأمة أن يقدم مسارها خطوات متسارعة إلی الأمام مجذِّراً مدرسته الفكرية في الأمة علی مرّ القرون والأعصار رغم التحديات الصعبة الجمة التي حالت دون ذلك، كالضغوطات والمضايقات السياسية التي كان الإمام (ع) وأصحابه يتعرضون لها من قبل حكام آل أمية، وكذا وجود مدارس فكرية عديدة تنتمي إلی اتجاهات مختلفة ومتباينة كانت نشطة وفاعلة في الساحة.

--------------

1) قیل إن 40 رجلاً من الخوارج استطاعوا أن یهزموا جیش عبدالله بن زیاد و کانت عدته ألفي رجل ... ذکره تاریخ الاسلام/ ج2 ص3

2) کالمرجئة والقدریة والصابئة وغیرها

3) لتفاصیل الحدیث راجع «التاریخ الاسلامي» / للعلّامة المدرسي/ ص 142 ـ بجار الأنوار ج 46 ص 307.

4) المناقب/ ج ص 280 ـ أصول الکافي / ج ص 471

5) الائمة الأثني عشر/ عادل الأدیب/ ص 159.

6) المناقب/ ج 2 ص 284.

 


source : www.abna.ir
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

علوم باقر العلوم عليه السلام
ولادة الإمام الباقر ( عليه السلام )
بعض مناظرات الإمام الباقر (عليه السلام)
علم الباقر (عليه السلام) من علم الأنبياء
ولادة الإمام الباقر ( عليه السلام )
من وصايا الامام الباقر عليه السلام
تراث الإمام الباقر ( عليه السلام ) التفسيري
أدب الإمام الباقر (ع)
مدرسة الإمام الباقر ( عليه السلام )
العلم والاقتصاد عند الامام الباقر (ع)

 
user comment