من مؤلفات الاستاذ راشد الراشد، باحث اسلامي وقيادي في تيار العمل الإسلامي البحريني.
الإمام الهادي (ع) بين المرونة والصلابة في العمل الإسلامي(القسم الأول)
حينما تكون المعارضة السياسية ضعيفة، ولا تمتلك أي من مقومات القدرة والقوة، وليست لديها قاعدتها الجماهيرية الواسعة التي تستند إليها في معارضتها لنظام الحكم القائم، فإن النظام السياسي القائم علی أساس المصالح الذاتية يقوم بممارسة مختلف الأعمال والأدوار، مستنفذاً أقصی طاقاته وإمكاناته من أجل سحق تلك المعارضة وتفتيتها وشرذمة عناصرها وكوادرها القيادية في الساحة، فتمتلأ السجون بابناء المعارضة، ويُشرد الكثيرون منهم، كما يتعرض للموت البعض الآخر منهم إمعاناً في تمزيقها ومحوها من الوجود ومنع تفاعلات نشاطاتها من الوصول إلی جماهير الأمة.
أما إذا إمتلكت المعارضة السياسية شيئاً من القدرة والقوة والإتساع في صفوف جماهيرها فإن السلطة القائمة لاتتخذ أي إجراء تريد القيام به إلّا بحساب قوة المعارضة وقدرتها علی تحويل تلك الإجراءات لصالح خطتها وأهدافها العامة في الساحة.
وأما إذا أصبحت المعارضة في موقع القوة بشكل متقدم فيه علی امكانات السلطة وقدراتها، فإن الأخيرة تلجأ إلی ممارسة أساليب عدة من أجل احتواء المعارضة أو شل قدراتها من التأثير في مجريات الأمور خاصة فيما يرتبط بفاعلياتها وسط جماهير الأمة، أما عن طريق تذويب اطروحتها في اطروحة السلطة وأما عن طريق بث الفتن وإثارة الإختلافات في صفوف الأمة أو عن طريق مشترك بين الإحتواء والقمع.
الإمام الهادي (ع) تسلم زمام الأمور بعد إستشهاد أبيه الإمام الجواد (ع) في ظروف دقيقة، فمن جهة تغيّرت خطة بني العباس في مواجهة الأوضاع، بعد وصول الأتراك إلی سدة الحكم، ومن جهة ثانية إعتاد الكثيرون من مؤيدي التحرك الإسلامي وأتباعه علی أجواء المشاركة السياسية في الحكم.
أما المعتصم الذي بدأ عهده بمطاردة الرساليين في كل مكان، والذي وضع إمامهم الجواد (ع) تحت رقابته المباشرة ثم دس إليه السم ليقتله، وتم له ذلك بالفعل، وجاء بالأتراك لتتحول إليهم مهام الأمور شيئاً فشيئاً وثم يصبح الحكم الإسلامي في يد مجموعة من العسكريين الأتراك الذين وجدوا في ذلك ضالتهم للتلاعب والتحلل تضييع الحقوق لحساب ملذاتهم وأهواءهم الذاتية المحضة، كل تلك الممارسات في وجه الحركة الرسالية تصاعدت علی نحو خطير، وكان علی الإمام الهادي (ع) كرمز للأمة الإسلامية وقائد أعلی للحركة الرسالية أن يواجه هذه التحديات الجديدة بخطط وإجراءات تتوافق مع التطلعات التي تحملها الحركة من جهة، وتحمي قاعدتها وتيارها الواسع من التشتت والضياع من جهة ثانية، وكذا المحافظة علی الإنجازات والمكاسب التي حققتها حركة الائمة الأطهار (ع) خلال الفترات الماضية من عمر الصراع.
والسؤال هنا:
ما هي أبرز التطورات السياسية والفكرية والإجتماعية التي عاشتها الساحة الإسلامية في عهد الإمام الهادي (ع)؟
وكيف واجه الإمام الهادي (ع) جملة هذه التطورات؟
وبعبارة ثانية:
ما هي أهم وأبرز ملامح التحرك عند الإمام الهادي (ع)، التي واجه بها تلك المتغيرات في السياسة العباسية؟
قبل الإجابة علی تلك الأسئلة لابد من الإشارة إلی أن الحياة الفكرية والإجتماعية لأية أمة من الأمم تتم صياغتها عبر محددات كثيرة، ولكن ما يؤثر فيها جميعاً هو المناخ السياسي الذي تعيشه أية أمة من الأمم. فإما أن يكون الإرهاب هو سيداً في الساحة ومهيمناً علی الأجواء في شتی النواحي السياسية والفكرية والعقائدية، فتصبح حياة الأمة من الناحية الحضارية في موقع متأخر جداً، وأما أن تكون هناك نسبة من الحرية وهامش منها فإن الحياة الحضارية لأية أمة تأخذ طريقها إلی التقدم بشكل نسبي مع مساحة هامش الحرية المسموح به من قبل القوی التي بيدها ذلك.
وفي أجواء الإنفتاح ووجود نسبة ما من الحرية علی مختلف الفاعليات، القوی السياسية الموجودة، أن تستفيد قدر إمكاناتها وطاقتها من ذلك كفرصة سانحة لتركيز العمل خدمة لأهدافها وتحقيقاً لتطلعاتها.
أمّا في أجواء الكبت والقمع والإرهاب وكافة أنواع التكبيل السياسي والفكري والعقائدي علی القوی الأخری المنافسة أن تنتبه إلی أن الخطأ الواحد ربما يجر إلی نهايات وعواقب غير محمودة غالباً وكذلك يلزم أن يكون التخطيط دقيقاً، محكماً لضمان التواصل والإستمرار في مسيرة العمل التي تحقق الأهداف والتطلعات التي تحملها في الساحة. حياة الائمة الأطهار (ع) دورة متكاملة لتجارب العمل والصراع الحضاري في جميع مفاصله المهمة، سياسياً، إقتصادياً، فكرياً، عقائدياً، وأخلاقياً، إذ إنهم عاشوا مختلف الظروف التي من الممكن أن تمر به أي جهة وأية جماعة تنوي التحرك والانطلاق في سبيل تحقيق أهدافها.
وعلينا كإسلاميين أن نستفيد من هذه المدرسة المباركة لترشيد مسيرة التحرك الإسلامي الذي نهتم به الآن وفي مختلف الحقول التي تقتضيها عملية الصراع الحضاري، وأن نفهم بعض الأبعاد المختلفة في حياة الائمة (ع) كدورة حضارية متكاملة غير منفصلة ولا مجزأة.
وعند دراستنا لحياة الإمام الهادي (ع) فإننا نقف أمام واحدة من التجارب العظيمة في حقل العمل الحضاري التغييري، لأنها كانت تجربة انتقالية من دور المشاركة السياسية في الحكم أو بالقرب منها إلی دور آخر يتسم بالتعارض من قبل السلطة القائمة ضد اتجاهات الحركة الرسالية.
أشرنا في البداية إلی أن المعتصم العباسي جاء بالعسكر من الأتراك، وقد سيطروا الآن تماماً علی مقدرات البلاد الإسلامية عبر إستيلاءهم علی مقاليد الحكم والإدارة في شئون الدولة الإسلامية وبعيداً عن الأسباب والدوافع والخلفيات التي تم من وراءها مجيء العسكر إلی الحكم، فإن مجرد مصادرة القرار في الدولة العباسية يعني أن العقلية العسكرية هي التي أخذت تدبر شئون البلاد والعباد، بعيداً عن أية أصول إنسانية وحضارية في طريقة الإدارة والرعاية.
فالاتراك إنما جاء بهم المعتصم ليكونوا مرتزقة بديلة عن القيمين علی شئون الدولة العباسية الذين فضلوا حياة اللهو والمجون واللعب علی تحمل أعباء المسئولية، والذين جعلوا المسئولية جسراً يعبرون عليه لتحقيق كل ما من شأنه أن يصب في خانة الشهوة، فشاعت في وسط الدولة العباسية ألوان متعددة من الفساد والتحلل والميوعة مما جعل وضعها مهدداً بالإنهيار، فكان المرتزقة الأتراك هو الخيار الأمثل الذي رآه المعتصم لإنقاذ دولته من خطر السقوط في الهاوية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية ليكون هؤلاء المرتزقة سداً منيعاً أمام أي تحرك ثائر يحول الإنقضاض علی الدولة. وهذا ما حدث بالضبط إذ إن الأتراك أصبحوا القوة الرادعة التي تعتمد عليها الدولة في تسيير أمورها، وأصبحوا بعد المعتصم جيشاً ضخماً يسيطر تماماً علی كل مصادر القرار في الدولة العباسية(1). وكان من مهام هذا الجيش الجديد مواجهة أي انتفاضة أو أي عمل جماهيري ضد الدولة العباسية.
ولما كان الإمام الهادي (ع) يشكل مركز إشعاع حضاري وإسلامي وهّاج في المدينة المنورة، وتقصده عموم الأمة الإسلامية من شتی اقطار المعمورة، إلی حد أشار فيه بعض المؤرخين إلی أن وجود الإمام الهادي (ع) في المدينة وبهذه الصورة يمثل في حقيقة الأمر دولة داخل دولة، يمارس أدواره ومهامه القيادية في الأمة، دون أن يستطيع العباسيون أن يفعلوا شيئاً للحد من نشاطاته وفاعلياته في الساحة.
وفي هذه الفترة التاريخية التي بقي فيها الإمام الهادي (ع) في المدينة المنورة يمكننا تلخيص الوضع بالشكل الآتي:
_ من الناحية السياسية إستطاعت الحركة الرسالية أن تبني وجودها كقوة منافسة بل ومتقدمة علی السلطة القائمة.
_ ومن الناحية الجماهيرية تمكنت من إستقطاب قطاعات واسعة من الأمة، كانت الحركة قد إستفادت من أجواء الإنفتاح والمشاركة السياسية في الحكم في الفترات السابقة لتحقيق هذا الغرض.
_ ومن الناحية النتظيمية فإن وجود الإمام الهادي (ع) خلال مدة زمينة تتجاوز العقد من الزمن، هيأ الفرصة بشكل كبير لإعداد جيل من الكوادر المؤهلة علمياً وسياسياً لتحمل المهام الرسالية المختلفة التي ترمي الحركة الرسالية تحقيقها في الساحة تحت ظل قيادة الإمام المعصوم.
وهناك من الروايات العديدة ما يكشف لنا عن هذين الموضوعين الهامين وهما وضع الإمام الهادي (ع) بالنسبة للأمة، ووضع الدولة العباسية، إليك _ عزيزي القاریء الرواية الآتية(2).
قال المسعودي في إثبات الوصية أن بريحة العباسي صاحب الصلاة بالحرمين كتب إلی المتوكل إن كان لك في الحرمين حاجة فخرج علي بن محمد منها أنه قد دعا الناس إلی نفسه وأتبعه خلق كثير وتابع بريحه الكتب في هذا المعنی، وقال السبطاني الجوزي في تذكرة الخواص قال علماء السيرة، إنما أشخصه المتوكل من المدينة إلی بغداد لآن المتوكل كان يبغض علياً وذريته فبلغه مقام علي الهادي (ع) بالمدينة المنورة وميل الناس إليه فخاف منه فدعی يحيی بن هرثمة وقال إذهب إلی المدينة وانظر في ماله وأشخصه إلينا، قال يحيی فذهب إلی المدينة فلما دخلتها ضج أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً علی علي وقامت الدنيا علی ساق لأنه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد ولم يكن عن ميل إلی الدنيا فحصلت أسكنهم وأحلف لهم إنما أؤمر فيه بمكروه وأنه لا بأس عليه ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلّا مصاحف وأدعية وكتب فعظم في عيني وتوليت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته.
ولا يخفی أن هذا الإجراء الذي قام به العباسيون إنما يؤكد مدی الخوف والهلع الذي أصابهم تجاه الحركة الرسالية.
أمّا في عهد المتوكل العباسي فقد عانی الإمام الهادي (ع) وعانت الحركة الرسالية الأمرين، لأنه كان شديد الوطأة علی الرساليين وعلی قيادتهم الربانية متمثلة في شخص الإمام الهادي (ع(.
ومن أخطر الإجراءات التي قام بها المتوكل العباسي لإحتواء تحرك الإمام الهادي (ع) وللحد من نشاطاته الخيرة في صفوف الأمة، استدعاءه إلی بغداد.
وعلی الرغم من أن الرواية المتقدمة قبل قليل قد كشفت ولحد كبير الدوافع الرئيسية وراء إستدعاء الإمام إذ جاء فيها:
«إنما أشخصه المتوكل من المدينة إلی بغداد لأن المتوكل كان يبغض علياً وذريته فبلغه مقام علي الهادي (ع) بالمدينة وميل الناس إليه فخاف منه».
فبالرغم من ذلك يكتب له (ع) المتوكل كتاباً مليئاً بعبارات التبجيل والتكريم والتفخيم مظهراً الحب والشوق علی أمور السياسية والصراع.
ولكي تقف علی حقيقة ذلك الأمر إليك نص ذلك الكتاب كما في بعض كتب التاريخ(3).
بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعد فإن أمير المؤمنين عارف بقدرك راع لقرابتك موجب لحقك مؤثر من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح الله به حالك وحالهم ويثبت عزك وعزهم ويدخل الأمن عليك وعليهم يتبعني بذلك رضی ربه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم وقد رأی أمير المؤمنين صرف عبدالله بن محمد عما كان يتولاء من الحرب والصداه بمدينة الرسول (ص) إذا كان علی ما ذكرت من جهالته بحقك واستخفافه بقدرك وعندما قرفك به ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيتك في ترك محاولته وانك لم تؤهل نفسك لم قرفت بطلبه وقد ولی أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل وأمر بإكرامك وتبجيلك والإنتهاء إلی أمرك ورأيك والتقرب إلی الله وإلی أمير المؤمنين بذلك وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك والنظر إليك فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت شخصت ومن أخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك علی مهلة وطمأنينة ترّحل إذا شئت وتنزل إذا شئت وتسير إذا شئت وإن أحببت أن يكون يحيی بن خرثمه مولی أمير المؤمنين ومن معه من الجند يرحلون ويسيرون بسيرك فالأمر في ذلك إليك وقد تقدمنا إليه بطاعتك فاستغفر الله حتی توافي أمير المؤمنين أحد من إخوانه وولده وأهل بيته وخاصته ألطف منك منزله ولا أحمد له أثرة ولا هو لهم أنظر ولا عليهم أشفق وبهم أبر ولا هو إليهم أسكن منه إليك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. فلما وصل الكتاب إلی أبي الحسن (ع) تجهز للرحيل وخرج معه يحيی بن هرثمة.
إذن كانت للإمام الهادي (ع) سلطة روحية بالغة الأثر في نفوس المسلمين خاصة في المدينة المنورة حيث يجتمع عنده كبار الرسالين كوادراً وعلماء ويبذل لهم التوجيهات اللازمة، كما كانت تحمل إليه الأموال الطائلة من مختلف أصقاع البلاد الإسلامية.
وخشية من تطاول هذه الإمتدادات للسلطة الروحية للإمام (ع) في نفوس جماهير الأمة أرسل إليه وفداً يطلبه إلی الإنتقال إلی سامراء حيث عاصمة الحكم العباسي، وقد نقلنا الرواية قبل قليل، ولعل من الأهداف التي سعی إليها المتوكل العباسي وراء ذلك الآتي:
1_ الحد من تأثيرات الإمام (ع) المباشرة في جماهير الأمة.
2_ جعل الإمام (ع) تحت الرقابة المباشرة لأعين السلطة وأذيالها.
3_ تطويق الإمام (ع) ليكون في خدمة البلاط العباسي.
4_ شل قدرات الكوادر الرسالية في التحرك عبر محدودية الإتصال بقيادتهم الشرعية.
ففي المدينة المنورة كانت أبواب الإمام (ع) مفتوحة لجميع السائلين والطالبين من أنصار وأتباع الحركة الرسالية، أمّا الآن فإنّ مجرد الإتصال بالإمام (ع) يعين الوقوع تحت المراقبة الشديدة التي كانت تفرضها السلطة العباسية في وجه كل الرساليين كقوة مناسفة بديلة عن الحكم العباسي.
ولكن بالرغم من ذلك، لم تنجح خطة المتوكل العباسي لتحقيق تلك الأهداف، بل إستفاد الإمام (ع) ومن خلفه الحركة الرسالية الرشيدة من كافة الفرص التي تتيحها أخطاء بني العباس في إدارة البلاد والعباد، لتكون المدخل والبوابة التي من خلالها كشف الحقائق المكتسبة في أذهان الناس حول شرعية حكم بني العباس وظلامة أهل البيت (ع(.
source : www.sibtayn.com