إن من أقسى ما مرّ على أهل البیت (علیهم السلام) فی تاریخهم الحافل بالمآسی والآلام أن الأیدی الآثمة قد تجاوزت الحدّ فی خصومتها وعدوانها علیهم، فامتدّت لتهتک حرماتهم، وتکشف أستارهم، وتعتدی على نسائهم بالضرب والسلب والنهب والأسر والتشهیر.
ولیس بعد قتل المعصوم ما هو أفظع وأفجع ممّا جرى على بنات الرسالة وعقائل الوحی، وإذا کان المتآمرون فی السقیفة قد وضعوا الأساس حیث استطالت أیدیهم فضربوا الزهراء (علیها السلام)، وهی بضعة النبی (صلّى الله علیه وآله) ووکزوها بالسیف وأسقطوا حملها فی وحشیّة عدم فیها الضمیر، وإذا کان الأمویون قد ساقوا بنات الزهراء أسارى بعد السلب والنّهب، فإن بنی العباس جاءوا لیکملوا ما تبقّى من حلقات هذا المسلسل، بل زادوا على أولئک فی التعدّی والعدوان، فقد مرّ علینا أنّ أسرى واقعة فخ لما جیء بهم إلى الهادی العباسی وأدخلوا علیه وهم مقیّدون بالحبال والسلاسل ووضعوا أیدیهم وأرجلهم فی الحدید أمر بقتل بعضهم فقتلوا صبراً وصلبوا بباب الجسر ببغداد.(1)
وقد اعترف المأمون بأنّ بنی العباس فاقوا بنی أمیة فی عدوانهم وظلمهم للعلویین، فقال: فأخفناهم، وضیّقنا علیهم، وقتلناهم أکثر من قتل بنی أمیة إیّاهم.
ویحکم إنّ بنی أمیة إنّما قتلوا منهم من سلّ سیفاً، وإنّا معشر بنی العباس قتلناهم جملاً، فلتسألنّ أعظم الهاشمیّة بأی ذنب قتلت؟ ولتسألن نفوس ألقیت فی دجلة والفرات ونفوس دفنت ببغداد والکوفة أحیاء..(2)
اتّفق الرواة على أن محمد بن جعفر خرج فی زمان الرشید أو المأمون، وأعلن الدعوة إلى نفسه، وقد حذّر الإمام الرضا (علیه السلام) من مغبة ذلک وأخبره بأنّه أمر لا یتم وأن حرکته فاشلة، فأرسل العباسیون جیشاً بقیادة عیسى بن یزید الجلودی وأمروه إن ظفر به أن یضرب عنقه، وأن یغیر على دور آل أبی طالب، وأن یسلب نساءهم، ولا یدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً، ففعل الجلودی ذلک، وقد کان مضى أبو الحسن موسى بن جعفر (علیهما السلام)، فصار الجلودی إلى باب دار أبی الحسن الرضا (علیه السلام) وهجم على داره مع خیله، فلمّا نظر إلیه الرضا جعل النساء کلّهن فی بیت ووقف على باب البیت، فقال الجلودی لأبی الحسن (علیه السلام): لابدّ من أن أدخل البیت فاسلبهنّ کما أمرنی أمیر المؤمنین، فقال الرضا (علیه السلام) هنا سقط فلم یدع علیهنّ شیئاً حتى أقراطهن وخلاخیلهنّ وأزرهنّ إلا أخذه منهن، وجمیع ما کان فی الدار من قلیل وکثیر.(3)
ترى ما حال تلک النسوة آنذاک؟ وما حال الإمام علی بن موسى الرضا (علیهما السلام) وهو یرى بنات الرسالة وقد سلبن کلّ شیء؟
وهل تظنّ أن الجلودی اکتفى بالهجوم على بیت الإمام الرضا (علیه السلام) دون بقیة دور آل أبی طالب؟
والذی ذکرته الروایات أن الجلودی أمر بالغارة على دور آل أبی طالب، وأن یسلب نساءهم، والجلودی کان خادماً مخلصاً لبنی العباس، ولا أظنّ أنّه اکتفى بذلک، بل هجم على بقیّة الدور، وربما سلّب النساء بنفسه، وإن لم تفصح الروایات عن ذلک.
والذی یؤید ما ذکرنا ما جاء فی نفس هذه الروایة، من أنّه لمّا أدخل الجلودی على المأمون، وکان الإمام الرضا (علیه السلام) حاضراً وأراد الإمام أن یشفع فیه، فقال (علیه السلام): یا أمیر المؤمنین هب لی هذا الشیخ، فقال المأمون: یا سیّدی هذا الذی فعل ببنات محمد (صلّى الله علیه وآله) ما فعل من سلبهن. فإنّ فیه إشعاراً بذلک. (4)
وإذا کانت الخصومة بین الرجال فما بال النسوة؟ وما هی جنایتهن لیفعل بهنّ ذلک؟ وهن بنات رسول الله (صلّى الله علیه وآله) وودائع النبوة!!!
وإذا لم یکن الدین رادعاً ولا الضمیر وازعاً فلا أقل أن النسب یکون صارفاً فإن لهن رحماً قریبة بأولئک المتسلطین ولکن..
وعلى أی حال فقد نال السیدة فاطمة المعصومة (علیها السلام) من الخوف والترویع والظلم ما جعل أیّام حیاتها القصیرة تمتزج بالآلام والأحزان والمآسی.
قد یتوهّم البعض بأنّ الإمام الرضا (علیه السلام) عاش حیاة مستقرّة آمنة، ولا سیّما أنّه أمضى السنوات الأخیرة من عمره فی البلاط العباسی، فکان فی مأمن من ملاحقة السلطة، بل فی موقع الزّعامة حیث بویع بولایة العهد، فکان الرجل الثانی فی دولة واسعة مترامیة الأطراف، ولم یکن هناک ما یخشاه.
ولکن الحقیقة أمر آخر غیر هذا الظاهر، فإن أقسى السنوات التی مرّت علیه هی السنوات الأخیرة من عمره، وعاش فی حصار قد فرض علیه لم یستطع الخلاص منه، حتى قیل إنّ الإمام الرضا (علیه السلام) کان أکثر الأئمة (علیهم السلام) عملاً بالتقیّة، لشدّة ما عاناه من سلطة بنی العباس.
وتؤکّد الدلائل والشواهد التاریخیة على أن السیاسة العباسیة جعلت من الإمام وسیلة لتحقیق أهدافها، حتى إذا بلغت ما أرادته نکبت به، کما نکبت بآبائه من قبله، وبأبنائه من بعده.
إن ما فعله هارون الرشید وأسلافه من قبله بالعلویین من القهر والبطش والإبادة والتشرید، وما تمخّض عن ذلک من الثورات العلویة فی أطراف البلاد، ومن النقمة العامّة على الحکم العباسی حتى قال أحد الشعراء:
یا لیت ظلم بنی مروان دام لنا***وکان عدل بنی العباس فی النار
کما أن الصراع الدامی بین المأمون وأخیه الأمین الذی أسفر عن مقتل الأخیر، وانتقال إدارة الحکم من بغداد العاصمة العباسیة إلى منطقة أخرى، واعتماد المأمون على الفرس دون العرب فی إدارة شؤون الحکم، الذی أثار نقمة العباسیین وغضبهم علیه، مضافاً إلى شعوره بالنقص لکونه ابن أمّة فارسیّة وغیر ذلک من الأمور.(5)
جعلت من المأمون ابن الرشید ـ وکان ذا نباهة وفطنة وحنکة ودهاء ـ أن یتنبّه ویتخذ سیاسة جدیدة تخالف فی ظاهرها سیاسة سلفه، یخمد بها غضب الناقمین، ویحتوی تلک الحرکات المناوئة، ویحقّق لحکومته استقراراً سیاسیاً، ویضمن لسلطته قوة تحمیه من العباسیین، فیما لو فکّروا فی مناهضته کما یحقّق أغراضاً أخرى، لیتمتّع بسلطة لا یشعر معها باضطراب، کما کان آباؤه یشعرون بذلک.
وکان الموقف یتطلب منه جرأة فی اتخاذ القرار، وحزماً فی تنفیذه، ومضیّاً فی عزمه.
وأول إجراء اتخذه بعد أن قضى على أخیه الأمین أنّه أظهر میله للعلویین، وکانت هذه البادرة غریبة لم تعهد من حاکم عباسی، الأمر الذی أثار التوجّس عند سائر بنی العباس، ودفعهم إلى الاعتراض بل إعلانه، ولم یدرکوا أن المأمون یسعى بذلک لتوطید الحکم وتثبیته عن طریق هذا الإجراء، کما أن فیه توجیه تحذیر خفی إلى العباسیین، ومضمونها أن هناک من یعتمد علیهم ویستند إلیهم، فیما إذا تخلّوا عنه، أو فکّروا فی القیام بعمل مضاد.
ثم أعقب المأمون ذلک برغبته فی استقدام الإمام (علیه السلام) من المدینة إلى عاصمة الدولة، وقد بعث إلیه رجاء بن أبی الضحّاک لحمل الإمام (علیه السلام) وحدّد له طریق المسیر بأن یکون على طریق البصرة والأهواز ولا یمرّ به الکوفة، وفی ذلک غرض أخفاه المأمون ولم یفصح عنه ما کشفت عنه الأبحاث التاریخیة التحلیلیة وأشارت إلى الأسباب والأهداف من وراء استقدام الإمام (علیه السلام) من المدینة إلى مرو، ومنها الخوف من الرضا (علیه السلام) لشیاع أمره فی الحرمین، وانتشار ذکره وإقبال الناس علیه، وغیرها من الأمور التی جعلت المأمون یتخذ قراراً حاسماً فی الحدّ من هذا الانتشار، ولیکون الإمام (علیه السلام) تحت رقابة مفروضة صارمة لا یمکنه الإفلات منها ولیتسنّى للمأمون أن ینفذ خططه السیاسیة المبیّتة.(6)
حتى إذا وصل الإمام (علیه السلام) إلى مرو عاصمة المأمون وأظهر العنایة والاحتفاء به واستقرّ به المقام عرض المأمون على الإمام أمر الخلافة، فأباها الإمام (علیه السلام) أشدّ الإباء، وکان الإمام (علیه السلام) على بصیرة بما یخطّط له المأمون، وإذا کان الإمام (علیه السلام) قد أبى الخلافة فإنّه لم یکن له بدّ من قبول ولایة العهد، وقد کشف الإمام (علیه السلام) سر قبوله لها فی حدیثه مع الرّیان ابن الصّلت الذی قال: دخلت على علی بن موسى الرضا (علیهما السلام)، فقلت له: یا بن رسول الله یقولون: إنّک قبلت ولایة العهد مع إظهارک الزهد فی الدنیا، فقال (علیه السلام): قد علم الله کراهتی لذلک، فلمّا خیرت بین قبول ذلک وبین القتل اخترت القبول على القتل.(7)
ومما یدل على علم الإمام (علیه السلام) بألاعیب المأمون ومخطّطاته أنه (علیه السلام) واجه المأمون ببعض الحقیقة حین قال له: وإنّی لأعلم ما ترید فقال المأمون: وما أرید؟ قال: الأمان على الصّدق، قال: لک الأمان، قال: ترید بذلک أن یقول الناس: إنّ علی بن موسى الرضا لم یزهد فی الدنیا بل زهدت الدنیا فیه، ألا ترون کیف قبل ولایة العهد طمعاً فی الخلافة، فغضب المأمون ثم قال: إنّک تتلقانی أبداً بما أکرهه، وقد أمنت سطوتی، فبالله أقسم لئن قبلت ولایة العهد وإلا أجبرتک على ذلک، فإن فعلت وإلا ضربت عنقک، فقال الرضا (علیه السلام): قد نهانی الله تعالى أن ألقی بیدی إلى التهلکة، فإن کان الأمر على هذا فافعل ما بدا لک، وأنا أقبل ذلک على أنّی لا أولّی أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّة، وأکون فی الأمر من بعید مشیراً. فرضی منه بذلک وجعله ولی عهده على کراهیة منه (علیه السلام) بذلک.(8)
إنّ هذا الموقف من الإمام (علیه السلام) یدلّنا على أنّه عالم بأنّ المأمون یرید أن یحقّق أغراضه السیاسیة، وأهمها إثباته للعباسیین أنّ بإمکانه أن یعتمد على خصومهم فضلاً عن غیرهم.
ومما یدلّنا على سوء نوایا المأمون وعدم إخلاصه فی هذه القضیة إکراه الإمام (علیه السلام) على القبول وتهدیده بالقتل، واکتفائه منه بالقبول الصوری، والتشدید على الإمام (علیه السلام)، ورصد جمیع تحرّکاته (علیه السلام) ومحاسبته علیها، مضافاً إلى ما سبق هذه القضیة وما لحقها من أحداث ممّا یدل دلالة قاطعة على أنّ المأمون إنّما أراد من هذا الإجراء تحقیق طموحاته السیاسیة التی لا تتحقق إلا بهذا النحو من التدبیر، ولسنا فی مقام دراسة هذا الموضوع، ونکتفی بهذه الإشارة التی تدل على أن الإمام (علیه السلام) عاش ظروفاً قاسیة وأیّاماً صعبة عانى منها الآلام.
ولما کان الإمام (علیه السلام) یعلم بقساوة الأیام التی سیعیشها تحت رقابة المأمون فی عاصمة ملکه وبما بیّته له من مکائد، کان خروجه من مدینة جده (صلّى الله علیه وآله) فی حالة من اللوعة والأسى، وقد نعى فیها نفسه.
روى الصدوق بسنده عن مخوّل السجستانی، قال: لما ورد البرید بإشخاص الرضا (علیه السلام) إلى خراسان، کنت أنا بالمدینة، فدخل المسجد لیودّع رسول الله (صلّى الله علیه وآله) فودّعه مراراً کل ذلک یرجع إلى القبر ویعلو صوته بالبکاء والنحیب، فتقدمت إلیه وسلمت علیه فرد السلام وهنّأته، فقال: زرنی، فإنّی أخرج من جوار جدّی (صلّى الله علیه وآله) فأموت فی غربة وأدفن فی جنب هارون.(9)
وما أقسى أن یُخرج الإنسان عن موطنه ویبعد عن أهله وذویه من دون أن یکون له خیار فی ذلک، وما أشبه ذلک بالإلقاء فی السجن حیث یفرض علیه نمط معیّن من الحیاة، ویرى نفسه مقیّداً بالالتزام به، وهو یخالف طبعه وما نشأ علیه.
وإذا کانت السنوات الأخیرة من حیاة الإمام الکاظم (علیه السلام) قد مضت وهو ینقل من سجن إلى سجن، ویعانی من ثقل الحدید، فإنّ السنوات الأخیرة من حیاة ابنه الرضا (علیه السلام) وإن لم تکبّل فیها یداه ورجلاه بالأغلال إلا أنّه کبّل بقیود من نوع آخر، کان یعانی من ثقلها، لیس السجن الذی أودع فیه الرضا (علیه السلام) بأحسن حالاً من السجن الذی أودع فیه الإمام الکاظم (علیه السلام).
ثم إنّ الإمام الرضا (علیه السلام) لما أراد الخروج من المدینة نظر إلى ولده الإمام الجواد (علیه السلام) وأقبل به إلى قبر جدّهما رسول الله (صلّى الله علیه وآله) کما یحدث بذلک (علیه السلام) فیقول: ثم أخذت أبا جعفر ـ ولم یکن له ولد غیره فی أشهر الأقوال وله من العمر سبع سنوات(10) ـ فأدخلته المسجد ووضعت یده على حافّة القبر وألصقته به، واستحفظته رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، فالتفت إلیّ أبو جعفر (علیه السلام) فقال لی: بأبی أنت، والله تذهب إلى الله، وأمرت جمیع وکلائی وحشمی له بالسمع والطاعة، وترک مخالفته، وعرّفتهم أنّه القیّم مقامی.(11)
ومما یثیر الاستغراب أن الإمام الرضا (علیه السلام) قد أقام العزاء على نفسه قبل مغادرته المدینة، فقد روى الصدوق بسنده عن الحسن بن علی الوشاء، قال: قال لی الرضا (علیه السلام): إنّی حیث أرادوا الخروج بی من المدینة، جمعت عیالی، فأمرتهم أن یبکوا علیّ حتى أسمع، ثم فرّقت فیهم اثنی عشر ألف دینار، ثم قلت: أما إنّی لا أرجع إلى عیالی أبداً.(12)
ووجه الغرابة أن العادة جرت على أن إقامة العزاء والبکاء إنّما هی بعد الموت، فما معنى أن یأمر الإمام الرضا (علیه السلام) عیاله بالبکاء علیه لیسمع بکائهم؟! مع أنّهم علموا بشهادته فی یوم وقوعها، فقد روى محمد بن أحمد بن یحیى بسنده عن أمیة بن علی قال: کنت بالمدینة وکنت أختلف إلى أبی جعفر (علیه السلام)، وأبو الحسن (علیه السلام) بخراسان، وکان أهل بیته وعمومة أبیه یأتونه ویسلّمون عله، فدعا یوماً الجاریة فقال: قولی لهم یتهیأون للمأتم، فلمّا تفرّقوا قالوا: ألا سألناه مأتم من؟ قال: مأتم خیر من على ظهرها، فأتانا خبر أبی الحسن بعد ذلک بأیام، فإذا هو قد مات فی ذلک الیوم.(13)
فهل کان أمر الإمام الرضا (علیه السلام) عیاله بالبکاء علیه لأنه یموت فی الغربة بعیداً عن الأهل والوطن؟ أو لأنّه کان یرید إشعارهم بأنّه لن یعود فلا یأملون فی لقائه؟
أو لأنّه اعتبر نفسه میّتاً فأمرهم بالبکاء لشدّة ما سیلاقی من المحن والمآسی؟
وعلى أی حال فقد کان أمراً غریباً لم یعهد من أحد من الأئمة (علیهم السلام).(14)
وبعد، فأین کانت السیدة فاطمة المعصومة من هذا کله؟ وما هی حالها وهی ترى شقیقها یترکها فی المدینة وینتقل إلى خراسان حیث الغربة والعناء وفراق الأهل وجوار الرسول (صلّى الله علیه وآله)؟ ولو کان الأمر بیده أو بیدها لخرجت معه ولسارت حیث یسیر، وعاشت حیث یعیش، ولکنّه خرج مقهوراً تارکاً عیاله وأخواته حتى ابنه الإمام الجواد (علیه السلام)، الذی کان له من العمر سبع سنوات(15)، بل أقلّ من ذلک کما یستفاد ممّا ذکره الشیخ المفید رحمه الله حیث قال: ومضى الرضا علی بن موسى (علیهما السلام) ولم یترک ولداً نعلمه إلا ابنه الإمام بعده أبا جعفر محمد بن علی (علیهما السلام) وکانت سنّه یوم وفاة أبیه سبع سنین وأشهراً.(16)
وکان خروج الإمام الرضا (علیه السلام) من المدینة سنة 200هـ وشهادته سنة 203هـ(17)
وقد اعتصر قلب السیدة فاطمة المعصومة (علیها السلام) من الألم ولوعة الفراق، وعلمت من خلال ما جرى أنّ أخاها لن یعود، وکانت فی جملة الباکین علیه، وقد سمع بکاءها وحسرتها على فراقه، ولعلّه أسرّ إلیها أو علمت من خلال مجرى الأحداث بما سیقدم علیه من آلام ومآسی، ولذا لم تکتف بوداعه بل کما حدّثنی أحد أساتذتی الأجلاّء بأنّه سمع أو قرأ فی کتاب أنّه لما سار رکب الإمام من المدینة صعدت السیدة فاطمة المعصومة (علیها السلام) على السطح وبقیت تنظر إلى أخیها وهو یمشی حتى غاب عن عینیها.
إنّ هذا الموقف یحمل من الدلالات شیئاً کثیراً، ویبیّن مدى الصّلة بین الأخ وشقیقته، کما یدل على مدى أثر لوعتها بفراقه وحزنها علیه.
ولیست هذه الصّلة الوثیقة بین الشقیقین لمجرّد الرابطة النسبیّة وأنّهما یلتقیان فی أب واحد وأمّ واحدة، وإنّما هی لما ذکرناه فیما سبق من علمها ومعرفتها (علیها السلام) بمقام الإمامة المتمثلة فی أخیها الإمام الرضا (علیه السلام).
وسار الموکب الرضوی یقطع البید والمفاوز والقفار میمّماً نحو خراسان حیث مرکز حکم المأمون وسلطانه، ولم یکن للإمام (علیه السلام) مناص من الرّحیل عن المدینة، موطن الأهل وحرم الرسول (صلّى الله علیه وآله)، فرحل الإمام (علیه السلام) عنها تارکاً أهله وعیاله ودیعة عند جدّه المصطفى (صلّى الله علیه وآله)
حتى إذا وصل الموکب إلى مرو ونفذت أولى خطط المأمون من ولایة العهد، وأخذ البیعة وضرب الدراهم والدنانیر، ولم یکن الإمام (علیه السلام) بذلک مسروراً، فقد أسرّ إلى بعض أصحابه أنّ ذلک أمر لا یتم(18)، وأنّه حلقة من سلسلة المخطّط الذی یهدف المأمون إلى تنفیذه، وکان ذلک فی سنة 200هـ، ومرت الأیام بطیئة ثقیلة لم یلق فیها الإمام (علیه السلام) یوم راحة واطمئنان، فقد حقّق المأمون من الإمام أغلى أمانیه.
وکان الإمام (علیه السلام) وهو فی غربته یعانی من فراق أهله وعیاله، فقد انقطعت الأخبار فما حال أولئک الثکالى؟ وما حال شقیقته الوحیدة؟ فهی بالأمس تفقد أباها، وهی فی زهرة العمر، والیوم ینتزع منها شقیقها ولا ترجو له عودة.
ومضى عام على رحیل أخیها عنها فهاجت بها لواعج الحنین والشوق إلى أخیها الغریب، وقد علم الإمام (علیه السلام) بحال أخته، فإنّها لم تغب عن قلبه، وهو یعلم شدّة تعلّقها به، فکتب إلیها کتاباً یطلب منها القدوم علیه، وأعطاه أحد غلمانه، وأمره بالمسیر إلى المدینة ولا یلوی علی شیء، ولا یقف فی طریقه إلا بمقدار الضرورة لیوصل الکتاب فی أسرع وقت ممکن، وقد أعلمه الإمام (علیه السلام) بالمکان والبیت لئلا یسأل أحداً من الناس.
وأغذّ الغلام المسیر یواصل لیله ونهاره، حتى شارف المدینة، وجاء إلى بیت الإمام (علیه السلام) وسلّم الکتاب إلى فاطمة المعصومة (علیها السلام).(19)
وما إن وقع بصرها على خطّ الإمام حتى تذکرت أخاها، وما کان له معها من شأن، وکأنّه لم یمض عام واحد فحسب، وإنّما عشرات الأعوام.
وهذا الأمر هو ما نرجّحه على القول بأنّ فاطمة المعصومة (علیها السلام) غادرت المدینة من تلقاء نفهسا، فإن ذلک ینافی جلالة قدرها، وعظمة شأنها، وسموّ نفسها، وإن کان الخطب جلیلاً، على أنّها کانت فی حمى ابن أخیها الجواد (علیه السلام)، فعلى فرض أنّ موضوع الکتاب لم یثبت من ناحیة تاریخیّة إلا أنّها وهی العالمة بأنّ ابن أخیها إمام معصوم مفترض الطاعة فلابد من استئذانه.
على أن التهیّؤ بموکب قوامه اثنان وعشرون شخصاً من الأخوة وأبنائهم والغلمان(20) فی مسیرها (علیها السلام) لم یکن لیتمّ إلا عن رضا وموافقة وإذن.
ولذا فإنّا وإن لم یثبت لنا الأمر من ناحیة تاریخیة ـ وما أکثر ما ضاع من الأحداث والوقائع وحلّ محلها الزّیف والبهتان ـ إلا أنّنا بملاحظة حال السیدة فاطمة وشأنها ومکانتها فی العلم والمعرفة لا نقبل بل لا نتوهم أنها خرجت من تلقاء نفسها لمجرّد أنّها رغبت فی لقاء أخیها، فإذن ذلک یتنافى مع ما علمناه من مقامها.
وهی وإن کانت على موعد مع مدینة قم وأهلها الذی سیسعدون بها، وسینفتح لهم باب من أبواب الجنّة، وستکون فاطمة المعصومة (علیها السلام) سیدة هذه البلدة الطیبة، وهو السر الخفیّ الذی یحدو بها للمسیر ـ وسیوافیک الحدیث عن ذلک ـ إلا أن جلالة قدرها وعظمة شأنها تقتضیان أن یکون خروجها مرعیاً بنظر المعصوم (علیه السلام) .
هذا، وقد ذکرت المصادر أنّها لما أزمعت الرّحیل إلى لقاء أخیها فی طوس، أعدّت للسفر عدّته، وتهیأ رکب قوامه اثنان وعشرون شخصاً ضمّ بعض أخوتها، وبعض أبنائها وغلمانهم، وساروا یقطعون البید والقفار واتخذوا من الطریق المؤدی إلى قم مساراً لهم إلى طوس.
وفی الوقت نفسه تهیأ رکب آخر من بقیّة أخوتها ومن انضمّ إلیهم، وخرجوا قاصدین إلى طوس حیث الإمام الرضا (علیه السلام)، فقد ذکروا أنّ الإمام الرضا (علیه السلام) قد استأذن المأمون فی قدومهم، وکان قوام هذا الرکب ثلاثة آلاف شخص، فقد التحق بهم عدد کبیر من بنی أعمامهم وأولادهم وأقاربهم وموالیهم، کما التحق بهم فی مسیرهم أعداد کبیرة من الشیعة رجالاً ونساءً حتى بلغوا قریباً من خمسة عشر ألف شخص.(21)
وقد اختاروا المسیر عن طریق شیراز وکان فی طلیعة هذا الرکب أحمد ومحمد والحسین أبناء الإمام الکاظم (علیه السلام).(22)
وقد بلغت أنباء هذا التحرّک إلى المأمون فأثار فی نفسه التوجّس فإن عدداّ ضخماً کهذا العدد لابد وأن یثیر فی نفسه تخوّفاً وتهیّباً، ولا سیّما أنه یعلم أن الإمام الکاظم (علیه السلام) ذهب ضحیّة غدر أبیه هارون الرشید، ولم تمض مدة کافیة ینسى هؤلاء المثکولون فقد أبیهم، وما خلفه موته من أحزان وآلام، ولا شک أن هؤلاء یعلمون أن ما اتخذه المأمون من تدابیر سیاسیة ـ على خلاف ما هو المعهود والمألوف من بنی العباس من الفتک والبطش بالعلویین ـ ما هی إلا مجرّد تغطیة واحتواء للأزمة الخانقة آنذاک.
على أن وصول الرّکب العلوی بهذا العدد إلى عاصمة الحکم قد یشکّل خطراً على سیاسة الحکم، ویفشل الخطط المرسومة، ولذا ما إن وصل الرکب إلى أطراف شیراز حتى أوعز المأمون إلى ولاته بصدّهم ومنعهم عن المسیر وإرجاعهم إلى المدینة.(23)
وما راعهم إلا أربعون ألف شخص من جنود بنی العباس تحت إمرة والی شیراز یقطعون الطریق علیهم، وهم على مقربة من شیراز، ودخل الطوفان فی معرکة دامیة أسفرت عن انکسار الوالی وجنوده، فلجأوا إلى الحیلة فأشاعوا فیهم أنّه إذا کان الغرض الوصول إلى لقاء الرضا فإنّ الرضا قد مات، الأمر الذی قد أدّى إلى زعزعة أفراد هذا الرکب وتشتت شملهم وتفرّقهم فی أطراف البلاد.(24)
وهذه القضیة تکشف لنا سرّاً من أسرار التاریخ، فإن من المعروف انتشار قبور العلویین فی بلدان إیران المختلفة، وقد أشرنا إلى ذلک فی مطلع هذا البحث.
وإنّ انتشار هذه المراقد الطاهرة فی مختلف القرى والمدن ممّا یثیر الالتفات، إذ لا تکاد تخلو مدینة أو قریة من قبر أو أکثر للعلویین حتى أن بعضهم شکّک فی مصداقیّة ذلک، وادّعى أن ذلک من فعل الناس وبمرور الزّمن وتوارث الأجیال تقدیس هذه المواضع وقصدها واللجوء إلیها واقتران ذلک بأهل البیت (علیهم السلام) أصبح عند المتأخرین أنّ هذه القبور لأبناء الأئمة (علیهم السلام)، وإلا فقد تکون هذه القبور لأناس عادیین، ماتوا ودفنوا فی هذه الأماکن من دون أن یکونوا من أهل البیت (علیهم السلام) فضلاً عن أن یکون لهم شأن.
ولکن بالوقوف على قضایا التاریخ، وما جرى فی تلک الحقبة من الزمن فی عهد حکّام بنی العباس، وتتّبعهم لبنی هاشم، ومحاولة استئصالهم والحوادث الدامیة التی جرت علیهم والرّعب والتشرید والملاحقة تکفی للاطمئنان بأنّ انتشار هذه القبور فی أطراف القرى والمدن أمر لا یبعد تصدیقه، والأحداث ومجریاتها تؤیّده.
على أنّنا نقول إنّه لیس کلّ هؤلاء أولاد الأئمة (علیهم السلام) لأصلابهم، بل قد یکون بعضهم أحفاداً وأبناء أحفاد، أو أسباطاً وأبناء أسباط.
ثم إنّنا لا نستبعد أن تکون هناک عنایات إلهیة خفیة کانت وراء إظهار هذه القبور، ولو بعد عشرات السنین، فإنّ أهلها فروع من الشجرة الطیبة.
ومما یؤیّد ذلک ما ورد فی کتب الرجال فی ترجمة السید عبد العظیم الحسنی ـ وهو من أصحاب الهادی والعسکری (علیهما السلام) ـ بیان بعض أحواله، فقد روى النجاشی فی کتابه بسنده عن أحمد بن محمد بن خالد البرقی قال: کان عبد العظیم ورد الرّی هارباً من السلطان، وسکن سرباً فی دار رجل من الشیعة فی سکّة الموالی، فکان یعبد الله فی ذلک السرب، ویصوم نهاره ویقوم لیله، فکان یخرج مستتراً فیزور القبر المقابل قبره، وبینهما الطریق، ویقول: هو قبر رجل من ولد موسى بن جعفر (علیهما السلام)، فلم یزل یأوی إلى ذلک السرب ویقع خبره إلى الواحد بعد الواحد من شیعة آل محمد (صلّى الله علیه وآله) حتى عرفه أکثرهم، فرأى رجل من الشیعة فی المنام رسول الله (صلّى الله علیه وآله) قال له: إنّ رجلاً من ولدی یحمل من سکّة الموالی ویدفن عند شجرة التفاح فی باغ عبد الجبار بن عبد الوهاب، وأشار إلى المکان الذی دفن فیه، فذهب الرجل لیشتری الشجرة ومکانها من صاحبها، فقال له: لأی شیء تطلب الشجرة ومکانها؟ فأخبره بالرؤیا، فذکر صاحب الشجرة أنّه کان رأى مثل هذه الرؤیا، وأنّه قد جعل موضع الشجرة مع جمیع (الباغ) وقفاً على الشریف، والشیعة یدفنون فیه، فمرض عبد العظیم ومات رحمة الله علیه، فلمّا جرّد لیغسل وجد فی جیبه رقعة فیها ذکر نسبه فإذا فیها: أنا أبو القاسم عبد العظیم بن عبد الله بن علی بن الحسن بن زید بن علی بن الحسن بن علی بن أبی طالب.(25)
وأضف إلى ذلک ما شاهده الناس من آثار البرکات واستجابة الدعوات وقضاء الحوائج عند هذه المراقد الشریفة، وذلک ممّا یؤکّد هذه الحقیقة.
وهذا الموضوع حریّ بدراسة مستوعبة یکشف فیها النقاب عن جانب من جوانب تاریخ سلالات الأئمة (علیهم السلام)، ومواطن قبورهم فی مکة والمدینة وأطرافهما والعراق والشام والیمن ومصر وبلاد المغرب العربی وإیران وغیرها من الأماکن، وأسال الله أن یقیّض لهذه المهمّة الکبیرة من یتصدّى للقیام بها.
هذا، ولکن ذکر بعض المحققین فی قضایا التاریخ أن الرکب العلوی إنّما خرج بعد ما بلغه أن المأمون العباسی قد غدر بالإمام الرضا (علیه السلام)، وکان خروجه من أجل الطلب بالثأر.
یقول السید العاملی: کما أنّ بعض المصادر التاریخیة تذکر أنّ أحمد بن موسى أخا الإمام الرضا لما بلغه غدر المأمون بأخیه الرضا، وکان آنذاک فی بغداد خرج من بغداد للطلب بثأر أخیه، وکان معه ثلاثة آلاف من العلویّة، وقیل: اثنا عشر ألفاً.. وبعد وقائع جرت بینه وبین (قتلغ خان) الذی أمره المأمون فیهم بأمره، والذی کان عاملاً للمأمون على شیراز. استشهد أصحابه واستشهد هو وأخوه محمد العابد أیضاً.. ثم نقل السید العاملی عن أحد الکتّاب قوله: إنّ کثیراً من العلویین قد قصدوا خراسان أیام تولّی الإمام العهد من المأمون، لکن أکثرهم لم یصل، وذلک بسبب استشهاد الإمام (علیه السلام) وأمر المأمون الحکام وأمراء البلاد بقتل أو القبض على کل علوی.(26)
وهذا ینافی ما نقلناه من أن الرکب إنّما خرج من أجل لقاء الإمام (علیه السلام) ولیس طالباً للثأر.
وعلى أی حال فإنّ ذلک یؤکّد ما ذکرناه من انتشار قبور السادة العلویین فی مدن وقرى إیران المتنائیة الأطراف وسیأتی ما یعزّز ذلک أیضاً.
وأمّا رکب السیدة فاطمة المعصومة (علیها السلام) فقد اتخذ طریق قم کما أسلفنا، ولکن ما إن وصل إلى ساوة ـ وهی بلدة لا تبعد کثیراً عن قم ـ حتى حوصر الرّکب فقتل وشرّد کل من فیه، وجرحوا هارون أخا الإمام الرضا (علیه السلام)، ثم هجموا علیه وهو یتناول الطعام فقتلوه. (27)
وکان ذلک کلّه بمرأى من السیدة فاطمة المعصومة (علیها السلام) فقد شاهدت مقتل أخوتها وأبنائهم، ورأت تشرّد من بقی منهم، فماذا سیکون حالها آنذاک؟ واکتفى بعض المؤرخین بالقول إنّها مرضت، فسألت عن المسافة بینها وبین قم فقیل لها عشرة فراسخ، فأمرت خادماً لها أن یحملها إلى قم، ومکثت فی قم فی منزل موسى بن خزرج الأشعری سبعة عشر یوماً ثم ماتت.(28)
وذکر آخرون إنّها قد دسّ إلیها السمّ فی ساوة، ولم تلبث إلا أیّاماً قلیلة واستشهدت(29)
واختلفوا أیضاً فی أنّ ما جرى على هذا الرکب من المآسی والقتل والتشرید هل کان بإیعاز من المأمون إلى شرطته وأمره بمحاصرة الرکب وقتل رجاله وتشریدهم؟ أو أنّ أهل ساوة الذین کانوا آنذاک من أشدّ الناس عداوة لأهل البیت (علیهم السلام)، فلمّا وصل الرکب إلى ساوة حاصره أهلها، ثم حملوا علیه ووقعت معرکة دامیة قتل فیها أخوة السیدة فاطمة وأبناؤهم وتشرّد من بقی منهم، ولما شاهدت السیدة فاطمة أخوتها وأبناءهم صرعى وقد قطّعت أجسادهم أصابها الحزن الشدید وضعفت قواها وعلى أثر ذلک اشتدّ بها المرض؟(30)
ولا نملک السند التاریخی لترجیح أحد القولین، وبناء على أن الجمع أولى من الطرح وصحة تطبیقه فی المقام فیمکن أن یقال بأنّه لا تنافی بین الأمرین، وکلا الطرفین قد اشترک فی إحداث هذه الفاجعة، وساهم فی القضاء على هذا الموکب بمن فیه.
ولعلّ ما یؤید ذلک انحراف أهل ساوة عن أهل البیت (علیهم السلام)، على ما ذکره یاقوت الحموی فی معجم البلدان حیث قال: ساوة مدینة حسنة بین الرّی وهمذان فی وسط بینهما، وبین کل واحد من همذان والری ثلاثون فرسخاً، وبقربها مدینة یقال لها آوه، فساوة سنیّة شافعیة، وآوه أهلها شیعة إمامیة وبینهما نحو فرسخین ولا یزال یقع بینهما عصبیّة وما زالتا معمرتین إلى سنة 617هـ..(31)
ومن الطبیعی أن العصیبة ـ ولا سیما العصبیّة المذهبیّة ـ تدعو إلى العداء، وهو قد یجرّ إلى سفک الدماء، وقد کانت الظروف آنذاک وسیاسة الحکّام یوم ذاک إنّما تقوم على تأجج نار العصبیة وإلقاء الفتن بین الناس تفریقاً لکلمتهم وعملاً بالمقولة المشهورة (فرّق تسد).
وأمّا ما ذکره بعض الباحثین من قضیّة دسّ السمّ للسیدة فاطمة المعصومة (علیها السلام) فهی وإن کنّا لا نملک دلیلاً قاطعاً على وقوعها أو عدمه إلا أنّنا لا ننفی ذلک، نظراً إلى أن السمّ کان أحد أمضى الأسلحة الفتّاکة التی کان العباسیون یستخدمونها ضدّ مناوئیهم، وکم لهم من قتیل ذهب ضحیّة شربة من سمّ دسّها بنو العباس، وکان أکثر ضحایاهم من آل أبی طالب (علیهم السلام)، حتى أنّ ستة من أئمة أهل البیت الاثنی عشر (علیهم السلام) قد استشهدوا عن هذا الطریق.
ولذا فإنّا لا نستبعد وقوع هذه الحادثة ـ وإن کانت تفتقر إلى السند التاریخی کما هو مقتضى الصناعة ـ إذ لم یکن ثمّة ما یحول بینهم وبین الفتک بمن یتوهمون فیه أن وجوده یشکّل خطراً یتهدّد دوام حکمهم وسلطتهم ومصالحهم، وأیّ حاجز کان یمنعهم وهم الذین قتلوا الأطفال والشیوخ ووضعوا أجسادهم فی أساس البنیان، ودفنوا بعضهم أحیاء، وسلبوا النساء، وفعلوا ببنی عمّهم ما لا یخطر على بال، حتى أنّه لو أوصى النبی (صلّى الله علیه وآله) بقتل ذریّته وتشرید عترته لما زادوا على ما صنعوا بهم.
وقد اعترف المأمون نفسه بفظاعة ما ارتکب العباسیون من جرائم الإبادة فی حقّ بنی علی وفاطمة (علیهم السلام)، وإن بنی أمیة برغم بشاعة ما اقترفوا کانوا أخف وطأة على العلویین منهم، فقال یخاطب بنی العباس: ویحکم إنّ بنی أمیة إنّما قتلوا منهم من سلّ سیفاً، وإنّا معشر بنی العباس قتلناهم جملاً، فلتسألنّ أعظم الهاشمیّة بأیّ ذنب قتلت؟ ولتسألنّ نفوس ألقیت فی دجلة والفرات؟ ونفوس دفنت ببغداد والکوفة أحیاء؟..(32)
وعلى أی حال فقد کانت الأیام الأخیرة من حیاة السیدة فاطمة المعصومة (علیها السلام) مریرة مؤلمة عانت فیها آلاماً فی الروح وآلاماً فی الجسد حتى آذنت شمسها بالمغیب.
المصادر :
1- تاریخ الطبری: ج8، ص198-200 والکامل فی التاریخ: ج6، ص93.
2- الطرائف: ج1، ص278.
3- عیون أخبار الرضا: ج2، ص161.
4- عیون أخبار الرضا: ج2، ص161.
5- الحیاة السیاسیة للإمام الرضا (علیه السلام)، ص149.
6- للاستزادة یراجع کتاب الحیاة السیاسیة للإمام الرضا (علیه السلام).
7- عیون أخبار الرضا: ج2، ص139.
8- عیون أخبار الرضا: ج2، ص140.
9- عیون أخبار الرضا: ج2، ص217.
10- منتهى الآمال: ج2، ص451.
11- منتهى الآمال: ج2، ص450.
12- عیون أخبار الرضا: ج2، ص217-218.
13- أعلام الورى: ج1، ص100.
14- منتهى الآمال: ج1، ص110.
15- منتهى الآمال: ج2، ص451.
16- الإرشاد: ج2، ص271.
17- منتهى الآمال: ج2، ص451 و499.
18- عیون أخبار الرضا: ج2، ص202.
19- کریمة أهل البیت (علیهم السلام)، ص493-494.
20- سیدة عش آل محمد (صلّى الله علیه وآله)، ص73.
21- سیدة عش آل محمد (صلّى الله علیه وآله)، ص69.
22- سیدة عش آل محمد (صلّى الله علیه وآله)، ص71.
23- سیدة عش آل محمد (صلّى الله علیه وآله)، ص69-70.
24- سیدة عش آل محمد (صلّى الله علیه وآله)، ص70-71.
25- رجال النجاشی: ج2، ص66-67.
26- الحیاة السیاسیة للإمام الرضا (علیه السلام)، ص427-428.
27- حیاة الإمام موسى بن جعفر (علیهما السلام): ج2، ص435.
28- تاریخ قم، ص213.
29- الحیاة السیاسیة للإمام الرضا (علیه السلام)، ص428.
30- الحیاة السیاسیة للإمام الرضا (علیه السلام)، ص428.
31- معجم البلدان: ج3، ص201.
32- الطرائف: ج1، ص278.
source : .www.rasekhoon.net