آیة الله الشیخ بشیر النجفی
ربّما یتخیّل البعض أنّ الروایات التی تتعلّق بالتاریخ ـ سواء کانت تتحدّث عمّا مضى من الحوادث أو تحکی عمّا فی المستقبل القریب والبعید ـ لا ینبغی الاهتمام بسندها ما لم تتضمّن حکماً شرعیاً ، ویکتفی بورودها فی الکتب المعتبرة وعلى ألسنة مَن سبق وفحص ومحّص الأخبار والأحادیث ، فمثلاً یُکتفى بوجود الروایة فی الکافی ونحوه من المصادر المعتبرة لدى أهل التحقیق والتمحیص ، إلا أن هذا المبدأ لا نرتضیه ، لأن الروایة مهما کان مضمونها فهی تشتمل على نسبة فعلٍ إلى شخصٍ ما أو وصفه بوصفٍ ما ونحوها من الأمور التی لا یصحّ نسبتها إلى أحد ما لم یکن هناک مسوّغ ومبرّر ، وینحصر هذا المسوّغ فی وثاقة الخبر أو وثاقة الراوی .
نعم ربّما یکون کثرة الروایات فی شأن قضیةٍ معینة توجب الاطمئنان بحصولها فی ظرفها وإن لم یمکن التأکّد بالخصوصیّات المرتبطة بها والمحیطة لها ، وذلک شیء آخر بعید عن المبدأ الذی نتحدّث عنه . وینبغی أن یُعلم أنه ربّما یجد الباحث فی کلمات بعض المحقّقین ما مغزاه عدم ضرورة التمحیص والبحث عن سند القضایا التاریخیة ، ولکن ذلک لیس منه التزاماً بمضمون تلک الروایات ، بل یعنی ـ فی معظم الأحیان ـ ما أشرنا إلیه ؛ أو أنه یعلم قصور الأیدی فی العصور المتأخّرة عن التأکّد من صحّة الأخبار التاریخیة لانعدام العلم بالوسائط التی وصلت الأخبار إلینا عن طریقها .
وهناک مبدأ آخر قد یظهر المیل من البعض إلیه ، وهو أن الأخبار التاریخیة ـ ومنها روایات علامات الظهور ـ تندرج فی قاعدة التسامح فی أدلّة السُّنن ، وهو خبط وخلط ، لأن قاعدة التسامح ـ مع الشکّ فی ثبوتها ، بل نفیناها فی محله ـ مغزاها هو الالتزام بروایات <مَن بلغ> التی مفادها أنّه مَن بلغه عن رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم ) ثوابٌ على عملٍ وعَمِلَ به رجاء ذلک الثواب الموعود فالله سبحانه یمنحه الثواب کرامةً للنبی ورفقاً بالعبد ومراعاة لعزمه على الطاعة ورغبته فی الثواب الإلهی ، وعمّم بعضُهم مفاد هذه الروایات لتشمل المکروهات أیضاً ، لکن هذا المعنى ـ کما ترى ـ بعید عن الروایات التاریخیة ، فإنّ تصدیق الروایات والجزم بتلک القصص المرویّة غیر داخل فی مضمون تلک الروایات ، بل التصدیق بقضیّةٍ ما من القضایا التاریخیة الماضیة أو المستقبلیة یعنی التصدیق بما لم یثبت ، وربّما تصل الحال بالمصدّق إلى الافتراء على أحد من المسلمین أو الطعن والنیل من بعضهم ، وأین هذا من ذلک ؟
والذی نتمکّن أن نقوله فی هذه العُجالة أنّ الأخبار المشتملة على العلامات صنفان :
ما یمکن إحراز مقوّمات الاعتبار والحجّیة فیه ، خصوصاً ممّن یرى کفایة وثاقة الراوی أو وثاقة الخبر بنحو العموم ویکتفی بکلّ واحد منها ، فالناظر النقّاد البصیر قد یتمکّن من إحراز وثوق الخبر من القرائن المحیطة به أو التی اشتمل الخبر علیها أو القرائن البعیدة الموجودة فی بعض الروایات المعتبرة ، ومغزى هذا الاتجاه الالتزام بصنف واحد من هذین الصنفَین ، والذی یتمّ من الأخبار على هذا المقیاس ، ویخرج سلیماً من الخدشة بقسطاس مستقیم قلیل جداً .
ولنا اتّجاه آخر قد ننتهجه ونرجّحه ، وهو یتمثّل فی النظر إلى مجموع روایات العلامات على أنّها بجملتها تتحدّث (ولا سیّما التی تتحدّث عن العلائم الحتمیّة مثل الخسوف فی البیداء ، والصیحة بین السماء والأرض ، وبزوغ الشمس من المغرب ، وکسوف الشمس فی وسط الشهر ، وخسوف القمر فی أوّله ، على خلاف الموازین الهندسیة والجغرافیا الفلکیة) أنّها بجملتها تتحدّث عن حدوث أمور غیر طبیعیة وعلى خلاف ما یقتضیه النظام الکونی القائم المعتاد الذی استأنست النفوس للتعایش معه منذ قرون جیلاً بعد جیل ، ومعلوم أنّه کما یصعب ـ حسب الموازین العلمیة المقرّرة فی محلّها ـ الجزم بصحّة کلّ واحد من هذه الأخبار ، کذلک نجزم بصدق بعضها ونقطع بعدم کذب جمیعها لکثرتها وتشعّب خصوصیاتها واتّساع دائرة رواتها ومَن رُویت عنه ، فاحتمال التواطؤ على الکذب مرفوض بحکم العادة ، فعلیه هی متواترة إجمالاً ونلتزم بما اتّفقت علیه من المعانی ، وأبرزها حدوث أمور کونیّة غیر معتادة ، وهذه الأحادیث ـ أحادیث علائم الظهور ـ تمثّل إرهاصات لظهور الحقّ على غرار ما حدث حین ولادة الرسول الأعظم (صلى الله علیه وآله وسلم) ، کسقوط شُرف طاق کسرى وخمود نار فارس فجأة وغَور بحیرة ساوة وفیضان وادی السماوة وغیرها ، وقد سطرها أهل التحقیق فی مصادرهم . فما روی فی علامات الظهور یجری فی هذا المجرى ، فهی تتحدث عن حدوث کوارث أو آیات مقدّمة لظهور الحجّة (علیه السلام) ، فهی أشبه شیء بجلبة وهزّة نسمعها قبیل وصول الجیش العرمرم بعدّته وعدده ، وکذلک اهتمام علمائنا الأبرار بهذه الروایات بالجمع والمبالغة فی استقصائها فی کتب مستقلّة أو ضمن مؤلّفاتهم الموسّعة ، ومعلوم أن هناک ارتباطاً وثیقاً بین التشریعات الإلهیة التی تنبعث من ملاحظة المصلحة والحکمة فیها أو فی مصبّها وبین تسلسل الحرکة الکونیة والتسابق والتنافس من الحقائق التکوینیة فی الانصیاع للإرادة الحقیقیة المنطلقة من عموم فیض المبدأ الاعلى والرحمة الشاملة والنور الحقیقی الذی أزاح بُهم الظلمة عن الکائنات کلها ، فاستقت الأودیة وارتوت وفاضت بنور ربّها ، ودارت الممکنات فی فلکها ، کما یکشف ذلک تقیّد التکالیف الإلزامیة والاعتبارات الشرعیة أو متعلّقاتها بالأوضاع الکونیة من حیث الزمان والمکان المحیطة بالمکلّف ، مع الأخذ بعین الاعتبار مراحل تکوّنه وتدرّجه فی مراقی التکامل التکوینی ، ویوجب ذلک الارتباط الاحتزاز والتدافع والتجاذب حسب تنجّز التشریعات والاعتبارات المتشابکة والمتعلّقة بمظهر الرحمة الربانیة ومحور السعادة الکونیة ، فتظهر بوادر الصلاح بزوال العقبات والعوائق الناشئة من طول الانحرافات من المکلّفین وخروجهم الطویل عن الصراط المستقیم المانعة فی سبیل انتشار الصلاح وشموله للعالم کلّه ضمن إنذار وتحذیر لکلّ مُعادٍ ، وإتمام الحجّة على کلّ مناوئ .
وقد ورد فی التوقیعات الشریفة المرویّة عنه (سلام الله علیه) بطریق الخلّص من أصحابه انقطاع السفارة بینه وبین شیعته منذ وقوع الغیبة الکبرى ، فمن ینتحل زوراً وبهتاناً شخصیة معینة کوکیل خاص للإمام (علیه السلام) أو سفیر بینه وبین شیعته وأنه یتلقّى الأوامر والنواهی منه (علیه السلام) مباشرة فهو کذّاب أشِر فاسد ومُفسد ویکذب على الإمام المعصوم ، ویجب ردعه بکلّ وسیلة ممکنة وفضحه وفضح نوایاه لیأمن المسلمون شرّه ، ولو تمکّن الحاکم الشرعی لوجب تعزیره وتعزیر من یصدّقه . وأمّا انخداع بعض العوام وتصدیق مثل هؤلاء الباهتین فلا یُستغرب ، فإن الناس فی کلّ زمان هم الناس ، وقد روى القرآن الکریم قصّة عبادة الیهود لعجل السامری مع وجود هارون بینهم ، ومیل الناس عن أشرف مخلوق بعد رسول الله إلى مَن لایکاد یدرک شأن علی (علیه السلام) ولا ینال غباره ، ولکن الزمان هو الزمان . یقول سید الاوصیاء (متى اعترى بی الریبُ مع الأوائل حتّى صرت أُقرن إلى هذه النظائر ؟! أنزلنی الدهر ثم أنزلنی حتّى قیل : علی ومعاویة) .
کما أن الارتباط بالإمام المهدی (علیه السلام) ممکن بل مطلوب شرعاً ، إذ هو إمام زماننا ونُحشر یوم القیامة فی قیادته ، لقوله سبحانه (یَوْمَ نَدْعُوا کُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) ونحن نعیش تحت رعایته ، وسلّمنا الله تعالى ویسلّم سائر المؤمنین ببرکته ودعائه ، بل بیمنه رُزق الورى ، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء . وعن رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) : إنّ أهل بیتی أمان لأهل الأرض ، کما أنّ النجوم أمان لأهل السماء . ولکن ینبغی أن یُعلم أن فقدان الارتباط بالإمام لا ینبغی أن یُعزى إلى انقطاع الفیض منه وانصراف عطفه عنّا ، فإن ذلک یُعاب على الکریم ، بل هو کآبائه الطاهرین مصدر کلّ خیر ومنبع کلّ رحمة ، وإنّما ینشأ للقصور أو التقصیر فینا نحن ، فإنّا نجد أنّ سید الشهداء (سلام الله علیه) صرف بعضَهم عن الخروج معه إلى القتال ودعا آخرین الالتحاق به ، ویُفسّر ذلک باختلاف مراتب الأشخاص وتفاوت الصلاحیات الذاتیة المکتسبة والموهوبة .
ومن هذا المنطق یجب على کلّ مکلّف إعداد نفسه وإصلاحها لیستعدّ لقبول الفیوض الربانیة ، وأن یطهّر عیونه لتکتحل بالنظر إلى الغُرّة الحمیدة والطلعة الرشیدة . وینبغی أن نعلم أنّ أول الأوائل فی هذا السبیل ترسیخ العقیدة بالمبادئ الاسلامیة وضروریات الدین الحنیف ، ثمّ ترویض النفس بالأخلاق الحسنة بالابتعاد عن المعاصی والسعی فی خلع الملکات الرذیلة ، والاستعانة بالمرشدین العلماء الأبرار ـ ولو من خلال مؤلّفاتهم ـ وتزیین النفس بالمستحبّات ، واللجوء إلى الله تعالى بکلّ کیانه لیُعینه على نفسه ، ویطلب منه الثقة به تعالى ، ویستجدیه التوکّل علیه ، ویستفیضه العون والهدایة والقوة والتسدید فی السلوک إلیه . وقد ورد فی غیر واحدٍ من الروایات أنّ ولایة أهل البیت لا تُدرک إلاّ بالتقوى والجهاد مع النفس ، وقد ورد أن شیعتهم هم المتّقون ، نرجوه سبحانه أن یُعیننا على أنفسنا ویهب لنا الثقة به ، ویجود علینا ـ بالتوکّل علیه ـ بالمغفرة عمّا سلف والعون على ما بقی .
المصدر: موقع الموعود
source : .www.rasekhoon.net