قال أمیر المؤمنین علی بن ابی طالب علیه السلام:«الحق أوسع الأشیاء فی التواصف، وأضیقها فی التناصف، لا یجری لأحد إلا جرى علیه، ولا یجری علیه إلا جرى له، ولو کان لأحد أن یجری له ولا یجری علیه لکان ذلک خالصاً للّه سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله فی کل ما جرت علیه صروف قضائه. ولکن جعل حقه على العباد أن یطیعوه، وجعل جزاءهم علیها مضاعفة الثواب تفضلاً منه، وتوسعاً بما هو من المزید أهله. ثم جعل سبحانه من حقوقه حقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتکافأ فی وجوهها، ویوجب بعضها بعضاً، ولا یستوجب بعضها إلا ببعض».
الانسان مدنی بالطبع، لا یستغنی عن أبناء جنسه، ولا یستطیع اعتزالهم والتخلف عن مسایرة رکبهم، فانه متى انفرد عنهم أحسن بالوحشة والغربة، واستشعر الوهن والخذلان، ازاء طوارئ الأقدار وملمات الحیاة، وعجز عن تحقیق ما یصبو الیه من أمانی وآمال، لا یتسنى له تحقیقها الا بالتضامن والتآزر الاجتماعیین.
فهو فرع من دوحة أسریة وشجت على الآباء، وتفرعت عن الأبناء، فالأعمام والأخوال، وامتدت أغصانها حتى انتضمت سائر الأقرباء والأرحام.
وهو عنصر من عناصر المجتمع، ولبنة فی کیانه، تتجاذبه أواصر شتى وصلات مختلفة: من العقیدة، والصداقة، والثقافة، والمهنة، وغیرها من الصلات الکثر.
وهذا الترابط الاجتماعی، او المجتمع المترابط، لابد له من دستور ینظم حیاته، ویوثق أواصره، ویحقق العدل الاجتماعی فی ظلاله، بما یرسمه من حقوق وواجبات، فردیة واجتماعیة، تضمن صالح المجتمع، وتصون حقوقه وحرماته المقدسة.
وبذلک یغدو المجتمع زاهراً، سعیداً بالوئام والسلام، والخیر والجمال. وباغفال ذلک یغدو المجتمع بائساً شقیاً، تسوده الفوضى، ویشیع فیه التسیب، وتنخر فی کیانه عوامل التخلف والانهیار.
وقد حوت الشریعة الاسلامیة - فیما حوته من ضروب المعجزات الاصلاحیة - انها جاءت بدستور أخلاقی هادف بناء، ینظم حیاة الفرد وحیاة المجتمع أفضل وأکمل تنظیم، بما یرسم له من حقوق وآداب اجتماعیة فی مختلف الحقول والمجالات، ما یحقق للمسلمین مفاهیم السلام والرخاء، ویکفل إسعادهم أدبیاً ومادیاً.
من أجل ذلک کان لزاماً على المسلم أن یستلهم ذلک الدستور، ویعرف ماله وعلیه من الواجبات والحقوق، ویعنى بتطبیقه والسیر على هداه، لیکون مثلاً رفیعاً فی جمال السیرة وحسن السلوک، ورعایة حقوق من ینتسب الیهم، ویرتبط بهم من صنوف الروابط والصلات الاجتماعیة، ولیحقق بذلک ما یهفو الیه من توقیر وحب وثناء.
وهذا ما حدانی إلى وضع هذا الکتاب، الذی خططته ورسمت مفاهیمه على ضوء القرآن الکریم، وأخلاق أهل البیت علیهم السلام ووصایاهم الحکیمة الجلیلة. وعرضت فیه طائفة من أهم الحقوق، وأبلغها أثراً فی حیاة الفرد
والمجتمع، مبتدئاً فیه بحقوق اللّه على العباد، فحقوق رسوله الأعظم صلى اللّه علیه وآله، فحقوق الأئمة المعصومین من آله علیهم السلام. ثم استعرضت الحقوق واحداً إثر آخر، متدرجاً من حقوق العلماء الى حقوق الأساتذة والطلاب، فالوالدین والأولاد، والزوجیة والرحمیة، الى الحقوق الاجتماعیة الأخرى التی یجدها المطالع فی حقول الکتاب.
وأملی أن یجد فیه المؤمنون رائد خیر، وداعیة صلاح، ومنار هدایة. وان یحظى بشرف قبول اللّه تعالى، وجمیل رضوانه، وواسع لطفه ورحمته إنه قریب مجیب.
الحقوق الالهیة
تتفاوت الحقوق بتفاوت أربابها، وقیم عطفهم وفضلهم على المحسنین الیهم.
فللصدیق حق معلوم، ولکنه دون حق الشقیق البار العطوف، الذی جمع بین آصرة القربى وجمال اللطف والحنان.
وحق الشقیق دون حق الوالدین، لجلالة فضلهما على الولد وتفوقه على کل فضل.
وبهذا التقییم ندرک عظمة الحقوق الالهیة، وتفوقها على سائر الحقوق، فهو المنعم الأعظم الذی خلق الانسان، وحباه من صنوف النعم والمواهب ما یعجز عن وصفه وتعداده، «ألم تروا أن اللّه سخر لکم ما فی السماوات وما فی الأرض، وأسبغ علیکم نعمه ظاهرة وباطنة» (1)«وان تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها» (2)
فکیف یستطیع الانسان حد تلک الحقوق وعرضها، والاضطلاع بواجب شکرها، إلا بعون اللّه تعالى وتوفیقه.
فلا مناص من الاشارة الى بعضها والتلویح عن واجباتها، وهی بعد احراز الایمان باللّه، والاعتقاد بوحدانیته، واتصافه بجمیع صفات الکمال وتنزیهه عما لا یلیق بجلال ألوهیته.
1- العبادة:
قال الامام علی بن الحسین علیه السلام: «فأما حق اللّه الأکبر فانک تعبده، لا تشرک به شیئاً، فاذا فعلت ذلک باخلاص، جعل لک على نفسه أن یکفیک أمر الدنیا والآخرة، ویحفظ لک ما تحب منها»(3)
والعبادة لغة، هی: غایة التذلل والخضوع، لذلک لایستحقها الا المنعم الأعظم الذی له غایة الافضال والانعام، وهو اللّه عز وجل.
واصطلاحاً هی: المواظبة على فعل المأمور به.
وناهیک فی عظمة العبادة وجلیل آثارها وخصائصها فی حیاة البشر: ان اللّه عز وجل جعلها الغایة الکبرى من خلقهم وإیجادهم، حیث قال: «وما خلقت الجن والإنس إلا لیعبدون، ما أرید منهم من رزق وما ارید أن یطعمون، إن اللّه هو الرزاق ذو القوة المتین» (4)
وبدیهی ان اللّه تعالى غنی عن العالمین، لاتنفعه طاعة المطیعین وعبادتهم، ولاتضره معصیة العصاة وتمردهم، وإنما فرض عبادته على الناس لینتفعوا بخصائصها وآثارها العظیمة، الموجبة لتکاملهم واسعادهم.
فمن خصائص العبادة: أنها من أقوى الأسباب والبواعث على ترکیز العقیدة ورسوخ الایمان فی المؤمن، لتذکیرها باللّه عز وجل ورجاء ثوابه، والخوف من عقابه، وتذکیرها بالرسول الأعظم، فلا ینساه ولا ینحرف عنه.
فاذا ما أغفل المؤمن عبادة ربه نساه، وتلاشت فی نفسه قیم الایمان ومفاهیمه، وغدا عرضة للإغواء والضلال. فالعقیدة هی الدوحة الباسقة التی یستظل المسلمون فی ظلالها الوارفة الندیة، والعبادة هی التی تصونها وتمدها بعوامل النمو والازهار.
والعبادة بعد هذا من أکبر العوامل على التعدیل والموازنة، بین القوى المادیة والروحیة، التی تتجاذب الانسان وتصطرع فی نفسه ولا تتسنى له السعادة والهناء إلا بتعادلها. ذلک، أن طغیان القوى المادیة واستفحالها یسترق الانسان بزخرفها وسلطانها الخادع، وتجعله میالاً الى الاثرة والأنانیة، واقتراف الشرور والآثام، فی تحقیق أطماعه المادیة.
فلا مناص - والحالة هذه - من تخفیف جماح المادة والحد من ضراوتها، وذلک عن طریق تعزیز الجانب الروحی فی الانسان، وإمداده بطاقات روحیة، تعصمه من الشرور وتوجهه وجهة الخیر والصلاح. وهذا ماتحققه العبادة باشعاعاتها الروحیة، وتذکیرها المتواصل باللّه تعالى، والدأب على طاعته وطلب رضاه.
والعبادة بعد هذا وذاک: اختبار للمؤمن واستجلاء لأبعاد إیمانه. فالایمان سر قلبی مکنون، لا یتبین إلا بما یتعاطاه المؤمن من ضروب الشعائر والعبادات، الکاشف عن مبلغ إیمانه وطاعته للّه تعالى.
وحیث کانت العبادة تتطلب عناءاً وجهداً، کان أداؤها والحفاظ علیها دلیلاً على قوة الایمان ورسوخه، واغفالها دلیلاً على ضعفه وتسیبه.
فالصلاة .. کبیرة إلا على الخاشعین. والصیام.. کف النفس عن لذائذ الطعام والشراب والجنس. والحج.. یتطلب البذل والمعاناة
فی أداء مناسکه. والزکاة.. منح المال الذی تعتز به النفس وتحرص علیه. والجهاد: هو الاقدام على التضحیة والفداء فی سبیل الواجب، وکلها اُمور شاقة على النفس.
من أجل ذلک کان أداء العبادة والقیام بها برهاناً ساطعاً على إیمان صاحبها وطاعته للّه عز وجل.
2- الطاعة:
وهی الخضوع للّه عز وجل وامتثال جمیع أوامره ونواهیه. ولا ریب أنها من أشرف المزایا، وأجل الخلال الباعثة على سعادة المطیع وفوزه بشرف الدنیا والآخرة، کما نوهت بها الآیات الکریمة والأخبار الشریفة:
قال تعالى: «ومن یطع اللّه ورسوله فقد فاز فوزاً عظیماً»(5)
وقال سبحانه «ومن یطع اللّه ورسوله یدخله جنات تجری من تحتها الأنهار، ومن یتول یعذبه عذاباً ألیماً» (6)
وقال الامام الحسن الزکی علیه السلام: «واذا أردت عزاً بلا عشیرة، وهیبة بلا سلطان، فاخرج من ذلّ معصیة اللّه الى عز طاعة اللّه عز وجل.»
وقال الصادق علیه السلام: «اصبروا على طاعة اللّه، وتصبروا عنذ معصیة اللّه، فانما الدنیا ساعة، فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم یأت فلست تعرفه، فاصبر على تلک الساعة التی أنت فیها فکأنک قد اغتبطت» (7)
3- الشکر:
وهو: عرفان نعمة المنعم، وشکره علیها، واستعمالها فی مرضاته.
والشکر خلة مثالیة یقدسها العقل والشرع، ویحتمها الضمیر والوجدان، ازاء المحسنین من الناس. فکیف بالمنعم الأعظم الذی لا تحصى نعماؤه، ولا تعد آلاؤه؟.
من أجل ذلک حثت الشریعة على التحلی به، فی نصوص عدیدة من الآیات والروایات.
قال تعالى: «وإذ تأذن ربکم لئن شکرتم لأزیدنکم، ولئن کفرتم إن عذابی لشدید» (8)
وقال الصادق علیه السلام: «من أعطی الشکر أعطی الزیادة، یقول اللّه عز وجل (لئن شکرتم لازیدنکم)» (9)
وقال رسول اللّه صلى اللّه علیه وآله: «الطاعم الشاکر، له من الأجر کأجر الصائم المحتسب. والمعافى الشاکر، له من الأجر کأجر
المبتلى الصابر. والمعطى الشاکر، له من الأجر کأجر المحروم القانع»(10)
4- التوکل:
وهو: الاعتماد على اللّه عز وجل فی جمیع الامور، وتفویضها الیه، والإعراض عما سواه.
والتوکل، هو من أجل خصائص المؤمنین ومزایاهم المشرفة، الموجبة لعزتهم وسمو کرامتهم وارتیاح ضمائرهم، بترفعهم عن الاتکال والاستعانة بالمخلوقین، ولجوئهم وتوکلهم على الخلاق العظیم القدیر فی کسب المنافع ودرء المضار.
لذلک تواترت الآیات والآثار فی تمجید هذا الخلق، والتشویق الیه.
قال تعالى: «إن ینصرکم اللّه فلا غالب لکم، وإن یخذلکم فمن ذا الذی ینصرکم من بعده، وعلى اللّه فلیتوکل المؤمنون»(11)
وقال تعالى: «ومن یتوکل على اللّه فهو حسبه»(12)
وقال الصادق علیه السلام: «إن الغنى والعز یجولان، فاذا ظفرا بموضع التوکل أوطنا»(13)
وقال أمیر المؤمنین علیه السلام فی وصیته للحسن علیه السلام: «والجئ نفسک فی الامور کلها الى إلهک، فانک تلجئها الى کهف حریز، ومانع عزیز»(14)
المصادر :
1- لقمان: 20
2- ابراهیم: 34
3- رسالة الحقوق للامام علی بن الحسین علیه السلام
4- الذاریات: 56 - 58
5- الاحزاب: 71
6- الفتح: 17
7- الوافی، ج 2 ص 63، عن الکافی
8- ابراهیم: 7
9- الوافی، ج 2 ص 67، عن الکافی
10- الوافی ج 3 ص 67 عن الکافی.
11- آل عمران: 16
12- الطلاق: 3
13- الوافی ج 3 ص 56 عن الکافی
14- نهج البلاغة
source : .www.rasekhoon.net