ميثم التمار في سطور
أبو مسلم ميثم بن يحيى التمار النهرواني، وكان يبيع التمر بالكوفة فلقب بالتمّار، مولى أمير المؤمنين (عليه السلام) وخاصته وحواريّه، ومستودع أسراره، ومَغرَس علومه.
وكان ميثم مملوكاً لامرأة أسدية في الكوفة. فاشتراه أمير المؤمنين (عليه السلام) وأعتقه، وقرّبه وأدناه، حتى صار من أقرب الناس إليه، وأخذ ميثم العلم من أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى صار علماً من أعلامه.
وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يميز ميثماً بنفيس العلوم ويطلعه على الأسرار، حتى أنه كان يذكر له دوماً ما يصنعه به ابن زياد من فظيع الأعمال وهو يقول: (هذا في الله قليل).
وكان يصحبه أحياناً عند المناجاة في الخلوات، وعند خروجه في الليل إلى الصحراء، فيستمع ميثم منه الأدعية والمناجاة وهذا يدل على مزيد الاختصاص والاطلاع على الأسرار، فإن ساعة الخلوة والمناجاة لا يصحب فيها أبو الحسن كل أحد، ولا يقوى على الوقوف على سرها وأطوار التعبد فيها والخضوع والخشوع، إلا قوي الإيمان قوي اليقين.
عرف ميثم أمامه فأطاعه، فكان ميثم بعد تلك الولاية والطاعة. من أهل المعرفة والعلم.
قبس من حياته
في مساء ضاحك من ليالي الكوفة العامرة والناس تتحدث عن أيامها وحروبها، وفي مجلس لبني أسد، وقد احتشد القوم فيه يقضون عمر النهار، مرّ فارس وقور عليه طهارة الصالحين وسيماء الزعماء، فاستقبله زعيم بني أسد حبيب بن مظاهر، حتى التقت رؤوس خيولها، وتحدثا طويلاً، وكأن الفراق قد زادهما شوقاً للاجتماع.
وتساءلت العيون عن القادم فقيل: إنه ميثم بن يحيى التمار صاحب أمير المؤمنين ومن مدرسته الخالدة (عليه السلام) وأمينه على أسراره، يلتقي بزميله في الولاء حبيب ابن مظاهر. فزحفت الأسماع لهما تسترق حديثهما، وكلها لهفة لمعرفة ما يدور بينهما.
قال حبيب وابتسامة هادئة تتهادى على شفتيه:
(لكأني بشيخ أصلع ضخم البطن، يبيع البطيخ عند دار الرزق، قد صلب في حب أهل بيت نبيه، تبقر بطنه على الخشبة).
وأشرق وجه ميثم، وهو يستمع إلى حديث صاحبه وقال:
(وكأني برجل أحمر له ضفيرتان، يخرج لنصرة ابن بنت نبيه، فيقتل ويجال برأسه بالكوفة).
وافترق الفارسان كلٌّ إلى جهة.
وحملق الجالسون، وزمّوا شفاههم، وحبسوها بسمة ساخرة كادت تنطلق لولا احترامهم للزعيم، وضيفه. وانطلقت البسمة الساخرة واضحة بعد أن غابا عن المجلس وتهامس القوم، وقالوا فيما قالوا: (ما رأينا أحداً أكذب من هذين الفارسين).
وبينما هم يتحدثون بهذا ونحوه إذ أقبل عليهم شيخ وقور ذو هيبة وجلالة، فطلب صاحبيه ميثماً وحبيباً، فقيل له إنهما افترقا وأعادا عليه حديثهما بالتفصيل فضحك، وقال:
(رحم الله ميثماً إنه نسي أن يقول: ويزاد في عطاء الذي يجيء بالرأس مائة درهم). ثم ترك المجلس وذهب.
وتعالت التمتمات، والابتسامات من جديد، وقال بعضهم: هذا والله أكذبهم.. وتساءل من يعرفه؟ فقيل له: إنه رشيد الهجري.
وتفرق المجلس على حديث هؤلاء الثلاثة، والشك يخامر من يخامر منهم، وموجة من استهزاء تطفو على وجوه البعض من أولئك الذين لا يعرفون علاقة هذه الصفوة بالإمام، أو يعرفونها ولا يعرفون واقع الإمام، وتجسّد هذا اللغط حتى انقلب إلى سؤال واستفهام، قال أحدهم يخاطب صاحبه: أرأيتهم كيف أصبحوا يُخبرون بالمغيّبات؟ وكأني بهم عن قريب يدّعون النبوة.
ودارت ضحكة ساخرة وسط القوم، وعلا صوت من زاوية المجلس ـ ينم عن حقد دفين ـ: هؤلاء هم أصحاب أبي تراب.
ولكن جذور الإيمان لم تنعدم عند بعض الجالسين مهما انصهروا في دوامة الزمن، وهم ممن صحبوا الإمام، ونهلوا من بعض معارفه فقد ثقلت عليه هذه السخرية اللاذعة، وهذا الأسلوب النابي من أن تلاك به هذه الصفوة من حواريي الإمام.
فالتفت إلى المتكلم، وفي نظراته سيل من عتاب وقال: على مهلك لقد ذهبتْ بك الظنون بعيداً بحق هؤلاء. أما كان الأجدر بك أن تفكر قليلاً ثم تحكم. إني لا أشك أن ما تحدث به ميثم، وحبيب، ورشيد هي أشياء سوف تحدث بعد، والإخبار بالمغيبات منحة إلهية منحها الله لأنبيائه، ورسله. والإمام علي أكثر الناس صلة بابن عمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكاتم سره وأمينه. وأي مانع لرسول الله أن يوقف علياً على أحوال صحابته ويكشف له عن هذه الأمور وأمثالها، وقد رأينا الكثير من الوقائع التي أشار إليها في كلامه قد تحققت بعد زمان، وعهدنا ليس ببعيد بقصة (ذي الثدية من يوم النهروان) وإخباره عن ابن عمه بأن (عماراً تقتله الفئة الباغية) وغير هذا كثير فلا تكن قاسياً على الصالحين من عباد الله.. وأشاح الرجل بوجهه عنه حياءً، ودُفنت الضحكة بين طيات وجهه المتجعدة.
وانتشر الحديث فنسيه قوم، وحفظه آخرون، وتطلعوا إلى نتائجه يرقبون ما وراء الأحداث، وما يخبئه الغد المظلم لأمثال هؤلاء من صحابة علي، ومشايعيه.
ومضى زمان، وأقبل زمان، ومرت أحداث، وتلتها أحداث وكان من أشقها أن يتولى إمارة الكوفة عبيد الله بن زياد، وكان من أهم ما تبناه هو القضاء على البقية الباقية من الصفوة المعارضة لسياستهم الأموية، بعد أن تولى أبوه مهمة القضاء على أكثرهم في الكوفة ـ في مهد الإسلام وعاصمة الإمام ـ وكان لسان البقية الباقية ميثم التمار.
وما كان لميثم، وأصحاب ميثم أن يصبروا على أساليب القوم في الحكم، ويسكتوا على التلاعب بالأحكام الإسلامية، وبمقدرات الأمة، لذا فقد سار ميثم على رأس تظاهرة كبيرة من المؤمنين ليبلغوا الوالي مفارقات حكمه، وكان هو لسان القوم، وتحدث ما شاء له الحديث بصبر وصلابة. وقد أغاظ حديثه خصمه اللدود عمرو بن حريث، فأدنا رأسه من أميره ـ والحقد ينزّ من عينيه ـ ليهمس في أذنه:
أصلح الله الأمير أتعرف هذا المتكلم؟
قال ابن زياد: لا.
فقال ابن حريث: هذا ميثم التمار، الكذّاب مولى الكذاب علي بن أبي طالب.
دهش الأمير الأموي وشدّ على أسنانه، واستوى جالساً والتفت إلى ميثم قائلاً: ما يقول؟ وأشار إلى ابن حريث.
قال ميثم: كذب هذا الرجل، بل أنا الصادق، مولى الصادق علي بن أبي طالب أمير المؤمنين حقاً، فاحمرت عينا ابن زياد من الألم، وصاح بميثم قم واصعد المنبر، وتبرّأ من علي واذكر مساوئه، وإلا قطعت يديك، ورجليك، وصلبتك فانسابت دموع ميثم منهمرة على لحيته الطاهرة.
وظنّ زياد أن هذه الدموع وليدة الخوف والجزع فالتفت إليه قائلاً: بكيت من القول دون الفعل؟
فقال: والله ما بكيت من القول، ولا من الفعل، ولكن بكيت من شك خامرني يوم أخبرني سيدي ومولاي.
فافتعل ابن زياد ابتسامة وقال: وما قال لك صاحبك؟
قال ميثم: قال إمامي علي (عليه السلام): (والله ليقطعنّ يديك، ورجليك، ولسانك، ولتصلبنّ عاشر عشرة، أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، وتُعلّق على باب عمرو بن حريث.) فقلت: ومن يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ قال: (يأخذك العتل الزنيم ابن الأمة الفاجرة عبيد الله بن زياد).
واستشاط ابن زياد غضباً، واحتقن وجهه، ونطّت عروقه وصرخ قائلاً: لنخالفه ونكذب صاحبك.
قال ميثم: كيف تخالفه، والله ما أخبرني إلا عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ولقد عرفت الموضع الذي أصلب فيه، وأني أول خلق الله أُلجم في الإسلام.
فقال عبيد الله: والله لأقطعن يديك، ورجليك، ولأدعنّ لسانك حتى أكذبك، وأكذب مولاك.
وزحف عبيد الله من على سريره، وهو يهدر من الغضب، وصاح بجلاديه: اقطعوا يديه ورجليه وأريحوني منه، وكان ما أراد.
ثم أمر بإخراجه وصلبه على باب عمرو بن حريث، واحتشد الناس على ميثم، وهو يعالج جراحه، وطافت في نفسه أمنيات كما دارت برأسه أفكار، وأفكار، وتصارع في نفسه عاملان: حق وباطل، لقد لاقى كل هذا الضيم لأنه من شيعة علي.. وبولائه نال هذا الجزاء الصارم، والآن وقد وصل إلى هذا الحد والموت قد تجسّد له، وقد أنشب أنيابه فيه، وبينه وبين النهاية المظلمة كلمة تنير الدنيا في خضم الحياة الأموية السوداء، وإن كان قد فقد يديه، ورجليه، ولكن إيمان الرجل بعقيدته، وإخلاصه لإمامه، وصدقه في موقفه.. كل هذه العوامل كانت أقوى من وساوس لم تلقَ مكاناً في نفس هذا الإنسان المتفاني في حب آل البيت.
ولمس في نفسه بقايا من عزم فصمم أن لا يدعها تذهب سدىً وقرّر أن يختمها بذكر فضائل الإمام علي (عليه السلام)، وهدر كالبركان يحدث الناس عن فضائل علي وعدله، ما وسعه البيان والناس تستمع وتودّعه بكل إكبار وتقدير.
وسمع عمرو بن حريث هذا الموقف الصارخ ـ والذي بطبيعته يجلب انتباه المستمعين ـ فاضطرب، وهرول عائداً إلى مجلس أميره، وقد علت وجهه صفرة باهتة، ووقف قبالة ابن زياد يلهث من الإعياء، ودهش الطاغية لأمره، وما ارتسم عليه من خوف، واضطراب، وصاح به: ما لك يا بن حريث هل وقعت الواقعة؟ ماذا ورائك قل ولا تنتظر؟
وتدحرجت الكلمات من فم ابن حريث ساهمة واجمة:
أصلح الله الأمير بادر إلى ميثم من يقطع لسانه، ويريح بني أمية منه، فإني لست آمن أن تتغير قلوب أهل الكوفة فينقلبوا عليك، لقد أخذ يتحدث عن فضائل علي، ويذكر الناس بعدله، وحكمه وقربه من رسول الله.
وهال ابن زياد هذا الأمر، وجنّ جنونه، وأمر بسياف أن يبادر لقطع لسانه، وبعد لأي قصير وصل السياف إلى ميثم والناس تبتعد عنه رعباً، وعيونهم تهرع خلفه تطلعاً، ووقف قبالة ميثم، وغرق في تفكير، وتمتم في نفسه:
ماذا يخيفك يا أمير من هذا الجريح الذي سيلفظ أنفاسه بعد قليل.
ولم يطل التفكير بالجلاد، بل تقدم إليه، وألقى عليه أمر ابن زياد، فأشرق وجه ميثم، وتهلّلت أساريره، وأعجب الحاضرون منه فشعر الجريح بهذا المعنى، فقال: لا تعجبوا لقد زعم ابن الأمة الفاجرة عبيد الله أن يكذبني، ويكذب مولاي، لقد خاب ظنه، وتاه فاله، هاك لساني يا سياف ونفّذ فيه أمر أميرك، وسيجزي الله الصابرين.
ونفّذ ما أراد.
ومرت على ميثم ساعة يعالج نفسه، ورغم آلامه لم يتغير في صلابته، ثم أسلم نفسه إلى ربه شاكياً ظلم الأمويين وجور طغاتهم.
ونشر الليل أبراده حزينة كئيبة قد اتشحت أبراده بحمرة الدم، وتحدث القوم في مجالس الكوفة: لقد صدق زعيم بني أسد حبيب بن مظاهر بقوله: (لكأني بشيخ أصلع، ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق، قد صلب في حب أهل بيت نبيه، تبقر بطنه على الخشبة).
وحسب القوم أن ميثماً مات، وانتهت أخباره، وخاب ظنهم فإن ذكرى ميثم باقية مع الشمس لا تبلى، لأن صاحبها ممن أخلص لعقيدته، وجاهد في سبيلها، ووقف في وجه الظالمين دون خشية ورهبة، آثر الآخرة على الدنيا، فقال كلمته بصدق ووفاء، وعزم..
source : www.sibtayn.com