عربي
Tuesday 23rd of July 2024
0
نفر 0

لماذا التشابه فی القرآن

لماذا التشابه فی القرآن

قال الأمام الرازی: من الملاحده من طعن فی القرآن، لأجل اشتماله على المتشابهات، إذ کیف یکون القرآن مرجع أناس فی جمیع العصور، مع وفرة دواعی الاختلاف فیه، حیث یجد صاحب کل مذهب مأربه فی القرآن، بسبب اختلاف آیاته فی الدلالة و الرد الأمر الذی لا یلیق بالحکیم تعالى أن یجعل کتابه المبین معرضا للجدل وتضارب الآراء، فلو کان جعله نقیا من المتشابهات المثیرة للشبهات، کان أقرب إلى حصول الغرض والمقصود من الهدایة العامة.
وقد عالج ابن رشد الأندلسی الفیلسوف العظیم هذه الناحیة معالجة دقیقة، صنف فیها الناس إلى ثلاثة أصناف: صنف العلماء، وعنى بهم من فی طبقته من أرباب الحکمة العالمیة، وصنف الجمهور، وهم عامة الناس ممن لم یحظوا بحلى العلم شیئا، وصنف بین، لا هم فی مستوى العلماء و لا مع العامة، و عنى بهم أرباب المذاهب الکلامیة من الأشعار و أصحاب الاعتزال.
قال: وهذا الصنف الأخیر، هم الذین یوجد فی حقهم التشابه فی الشرع، وهم الذین ذمهم الله تعالى. وأما عند العلماء فلیس فی الشرع تشابه، لأنهم تعرفون من کل آیة وجه تخریجها الصحیح الذی قصده الشرع، و الجمهور لا یشعرون بالشوک العارضة، بعد أن کانوا أخذوا بالظواهر واستراحوا إلیها من غیر تردید.
قال: إن التعلیم الشرعی هو کالغذاء النافع لأکثر الأبدان، نافع للأکثر وربما ضر بالأقل، ولهدا جاءت الإشارة بقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لَا یَسْتَحْیِی أَن یَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِینَ آمَنُوا فَیَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِینَ کَفَرُوا فَیَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا یُضِلُّ بِهِ کَثِیرًا وَیَهْدِی بِهِ کَثِیرًا وَمَا یُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِینَ)(1)وهذا إنما یعرض فی الأقل من الآیات لأقل الناس، وهی الآیات التی تضمنت الأعلام عن الأشیاء المتغیبة عن الحس، لیس لها مثال فی المحسوس، فجاء التعبیر عنها بالشاهد الذی هو أقرب الموجودات إلى تلک الغائبات، وأکثر شبها بها. فربما عرض لبعض الناس أن یأخذ بالمثال ذاته لتلزمه الحیرة والشک.
وهذا هو الذی یسما فی الشرع متشابها. الأمر الذی لا یعرض للعلماء ولا للجمهور، لأن هؤلاء هم الأصحاب الدین یلائمهم الغداء النافع الذی یوافق أبدان الأصحاء.
أما غیر هذین الصنفین فمرضى، و المرضى هم الأقل فی الناس و لذلک قال تعالى: ( هُوَ الَّذِی أَنزَلَ عَلَیْکَ الْکِتَابَ مِنْهُ آیَاتٌ مُّحْکَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِیلِهِ وَمَا یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ کُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا یَذَّکَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(2)و هؤلاء هم أهل الجدل و المذاهب الکلامیة.
قال: وقد سلک الشرع فی تعالیمه وبرامجه الناجحة مسلکا، ینتفع به الجمهور و یخضع له العلماء، ومن ثم جاء بتعابیر یفهمها کل من الصنفین:الجمهور یأخذون بظاهر المثال، فیتصورون عن الممثل له یشکل المثل به، ویقتنعون بذلک. والعلماء یعرفون الحقیقة التی جاءت فی طی المثال.
الأمثلة:
مثلاً: لما کان أرفع الموجودات فی الحس هو النور ضرب به المثال، وبهذا النحو من التصور أمکن للجمهور أن یفهموا من الموجودات فیما وراء الحس، مما مثل لهم بأمور متخیلة محسوسة. فمتى أخذ الشرع فی أوصاف الله تعالى على ظاهرها لم تعرض للجمهور شک فی ذلک. فإذا قیل: الله نور. وأن له حجاباً من نور، وأن المؤمنین یرونه فی الآخرة کالشمس فی رائعة النهار، لم تعرض للجمهور شبهة فی حقیقة هذه التعابیر. وکذلک العلماء لا تعرض لهم شبهة فی ذلک، حیث قد تبرهن عندهم أن تلک الحالة هی مزید علم ویقین. لکن إذا ما صرح بذلک للجمهور بطلت عندهم الشریعة کلها وربما کفروا بما صرح لهم. لأن الجمهوریون من کل موجود هو المتخیل المحسوس، وأن ما لیس بمتخیل ولا محسوس فهو عدم عندهم.
فإذا قیل: إن هناک موجوداً لیس بجسم، ولا فیه شئ مما یرونه لازم الجسمیة، ارتفع عنهم التخیل، وصار عندهم من قبیل المعدوم. ولاسیما إذا قیل لهم: إنه لا خارج العالم ولا داخله، ولا فوق ولا أسفل. ومن ثم لم یصرح الشرع بأنه لیس بجسم، وإنما اکتفى بقوله: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَکُم مِّنْ أَنفُسِکُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا یَذْرَؤُکُمْ فِیهِ لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ وَهُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ)(3). وقوله: (لَّا تُدْرِکُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ یُدْرِکُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ)(4).
قال: وأنت إذا تأملت الشرع وجدته- مع أنه قد ضرب للجمهور فی هذه المعانی المثالات التی لم یمکنهم تصورها إلا بذلک - قد نبه العلماء على تلک المعانی بحقائقها. فیجب أن یوقف عند حد الشرع فی نهج التعلیم الذی خص به صنفاً صنفا من الناس، وأن لا یخلط التعلیمان فتفسد الحکمة الشرعیة النبویة. ولذلک قال: صلى الله علیه وآله وسلم(إنا معشر الأنبیاء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وأن نخاطبهم على قدر عقولهم).
وقد انتهج الإمام الرازی نفس المنهج، قال: والسبب الأقوى فی هذا الباب: أن القرآن کتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام جمیعاً. وطبائع العوام تنبو- فی أکثر الأمر- عن إدراک الحقائق، فمن سمع من العوام- فی أول الأمر- إثبات موجود لیس بجسم ولا بمتحیز ولا مشار إلیه، ظن أن هذا عدم ونفی فوقع التعطیل. فکان الأصلح أن یخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما یناسب ما یتوهمونه ویتخیلونه، ویکون ذلک مخلوطاً بما یدل على الحق الصریح. فالقسم الأول- وهو الذی یخاطبون به فی أول الأمر- یکون من باب المتشابهات، والقسم الثانی- وهو الذی یکشف لهم فی آخر الأمر- هی المحکمات.
وهذا المنهج الذی انتهجته الفیلسوفان، فی توجیه وجود المتشابه فی القرآن، معالجة للقضیة فی بعض جوانبها، وهی الآیات المتشابهة المرتبطة مع مسألة المبدأ والمعاد، ولیس علاجاً حاسماً للمادة من جذورها، إذ تبقى آیات الخلق والتقدیر، والقضاء والقدر، والجبر والاختیار، والعدل والعصمة، وما شاکل، خارجة عن إطار هذا العلاج.

أما العلاج الحاسم لمادة الإشکال فی کل جوانب المسألة، فهو: أن وقوع التشابه فی مثل القرآن- الکتاب السماوی الخالد- شئ کان لا محیص عنه، مادام کان یجری فی تعابیره الرقیقة مع أسالیب القوم، فی حین سمو فحواه عن مستواهم الهابط.
القرآن جاء بمفاهیم حدیثة کانت غریبة عن طبیعة المجتمع البشری آنذاک، ولاسیما جزیرة العرب القاحلة عن أنحاء الثقافات، فی حین التزامه- فی تعبیراته الکلامیة- نفس الأسالیب التی کانت دارجة ذلک العهد. الأمر الذی ضاق بتلک الألفاظ، وهی موضوعة لمعان مبتذلة وهابطة إلى مستوى سحیق، من أن تحیط بمفاهیم هی فی درجة راقیة وبعیدة الآفاق. کانت الألفاظ والکلمات- التی کانت العرب تستعملها فی محاورتها وتعابیرها- محدودة فی نطاق ضیق حسبما کانت العرب تألفه من معان محسوسة أو قریبة من الحس ومبتذله إلى حد ما. فجاء استعمالها من قبل القرآن- الکتاب الذی جاء للبشریة على مختلف مستویاتهم مع الأبدیة- غریباً عن المألوف العام.
ومن ثم قصرت أفاهمهم عن إدراک حقائقها ما عدا ظواهر اللفظ والتعبیر. إذ کانت الألفاظ تقصر بالذات عن أداء مفاهیم لم تکن تطابقها، ومن ثم کان اللجوء إلى صنوف المجاز وأنواع الاستعارات، أو الإیفاء بالکنایة ودقائق الإشارات. الأمر الذی قرب المفاهیم القرآنیة إلى مستوى إفهام العامة من جهة، وبعدها من جهة أخرى، قربها من جهة إخضاعها لقوالب لفظیة کانت مألوفة لدى العرب. وبعدها حیث سمو المعنى، کان یأبى الخضوع لقوالب لم تکن موضوعة لمثله، کما کان یأبى النزول مع المستوى الهابط مهما بولغ فی إخضاعه. إذ اللفظ یقصر عن أداء مفهوم لا یکون قالباً له ولا یتطابقه تماماً. هذا هو السبب الأقوى لوقوع التشابه فی تعبیرات القرآن بالذات، کما مر من مسألة الأمر بین الأمرین، وغیرها من مسائل کلامیة غامضة تبحث عن شؤون المبدأ تعالى والمعاد، ومسائل شؤون الخلیقة وما انطوت علیه من أسرار وغوامض خافیة على غالبیة الناس.
مثلاً قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلَائِکَةِ إِنِّی جَاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِیهَا مَن یُفْسِدُ فِیهَا وَیَسْفِکُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ وَنُقَدِّسُ لَکَ قَالَ إِنِّی أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (5)تعبیر رمزی عن شأن الإنسان- بصورة عام- فی الأرض، إنه ذلک الموجود العجیب، الذی یملک فی ذاته قدرة جبارة یضیق عنها الفضاء، وتخضع لها قوى الأرض والسماء (وَسَخَّرَ لَکُم مَّا فِی السَّمَاوَاتِ وَمَا فِی الْأَرْضِ جَمِیعًا مِّنْهُ إِنَّ فِی ذَٰلِکَ لَآیَاتٍ لِّقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ) (6)کل ذلک بفضل نبوغه واستعداده الخارق الذی یمنحه القدرة على الخلق والإبداع، على أثر تفکیره وجهاده فی الوصول إلى درجة الکمال، ولیتمثل مظهریته تعالى، فهو الموجود النموذجی لمظهریة ذی الجلال والإکرام، ومن ثم کان خلیفته فی الأرض یوم ذاک لیصبح خلیفته فی عالم الوجود إطلاقاً.
لم تکن العرب تستطیع إدراک هکذا تصور عن الإنسان، ولا کان یخطر ببالها إن لهذا الإنسان شأناً فی عالم الوجود، سوى أنه الموجود الضعیف الذی تتألب علیه الضواری، ولا یقتات إلا على لحوم بنی جلدته سلباً ونهباً وإراقة للدماء والفساد فی الأرض.
ومن ثم لما جاء التعبیر عن شأن آدم بهکذا تعبیر، ینم عن عظمة وإکبار، حسبوه (المتصرف فی الأرض) عن جانب الله القابع فی زاویة السماء!أو فسروه- کما فی عصر متأخر - بأنه الخلف عن مخلوق کان قبل آدم، الجن أو النسناس. وهکذا الانجذاب بالآیة یمنة ویسرة، مادام لم یعرفوا من حقیقة الإنسان، ولا أدرکوا من شأنه الخطیر.
وهکذا جاء التعبیر المجازی فی آیتین لا تختلفان من حیث الأداء والتعبیر، غیر أن أحداهما لما کانت تعبر عن معنى هو فوق مستوى العامة، حصل فیها التشابه، أما الأخرى فکانت تعبیراً عن معنى محسوس، ومن ثم لم یقع فیها إشکال. فقوله تعالى (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) فیها مجاز الحذف، أی إلى رحمة ربها. کما فی آیة أخرى نظریتها: (وَاسْأَلِ الْقَرْیَةَ) أی أهل القریة. غیر أن الأولى صارت متشابهة، لقصور إفهام العامة عن إدراک مقام الإلوهیة، فحسبوا منها جواز رؤیته تعالى. أما الآیة الثانی ة فلم تتوقف فی فهم حقیقتها، لأنها فی معنى محسوس.
ونظیر ذلک قوله تعالى (یَوْمَ یُکْشَفُ عَن سَاقٍ وَیُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا یَسْتَطِیعُونَ)(7) دعا جهل العامة بصفات الله تعالى إلى فهم ساق له سبحانه، فی حین استعارة الساق للشدة عند العرب کان أمراً دارجاً، قال شاعرهم: (وقامت الحرب على ساق) أی أخذت فی شدتها، فهم عندما یستمعون إلى هذا الشعر لا یترددون فی فهم الحقیقة، إذ یعلمون أن لا رجل للحرب ولا ساق. أما فی الآیة الکریمة فیذهب وهمهم إلى وجود رجل له تعالى وساق، ومن ثم ذهب بعضهم إلى عقیدة التجسیم، تعالى الله عن ذلک.
وقد ذهب سیدنا الطباطبائی- أیضاً إلى هذا الرأی، وذکر: أن سبب وقوع التشابه فی القرآن یعود إلى خضوع القرآن- فی إلقاء معارفه العالیة- لألفاظ وأسالیب دارجة، هی لم تکن موضوعة لسوى معانی محسوسة أو قریبة منها، ومن ثم لم تکن تفی بتمام المقصود، فوقع التشابه فیها وخفی وجه المطلوب، نعم إلا على أولئک الذین نفذت بصیرتهم وکانوا على مستوى رفیع. قال تعالى (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِیَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّیْلُ زَبَدًا رَّابِیًا وَمِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِی النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْیَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ کَذَٰلِکَ یَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَیَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا یَنفَعُ النَّاسَ فَیَمْکُثُ فِی الْأَرْضِ کَذَٰلِکَ یَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)(8). وهکذا القرآن تحتمله الإفهام على قدر استعداداتها، وفیه من المتشابهات ما تزول بتعمیق النظر وإجادة التفکیر، فیبقى القرآن کله محکماً مع الأبد بسلام.
وهکذا قال الشیخ محمد عبده: (إن الأنبیاء بعثوا إلى جمیع أصناف الناس من دان وشریف، وعالم وجاهل، وذکی وبلید. وکان من المعانی ما لا یمکن التعبیر عنه بعبارة یفهمها کل أحد، ففیها من المعانی العالیة، والحکم الدقیقة ما یفهمه الخاصة، ولو بطریق الکنایة والتعریض، ویؤمر العامة بتفویض الأمر فیه إلى الله والوقوف عند حد المحکم، فیکون لکل نصیبه على قدر استعداده.
وهناک عامل آخر کان ذا أثر بین إیجاد التشابه فیها على أثر ظهور مذاهب جدلیة، بعد انقضاء القرن الأول الذی مضى بسلام، إذ کانت العرب أول عهدها بنزول القرآن تستذوقه بمذاویقها البدائیة الساذجة، حلوا بدیعاً سهلاً بلیغاً. أما وبعدما احتبکت وشائج الجدل بین أرباب المذاهب الکلامیة، منذ مطلع القرن الثانی، فقد راج التشبث بظواهر آیات تحریفاً بمواضع الکلم، ومن ثم غمها نوع من الإبهام والغموض الاصطناعیین وأخذت کل طائفة تتشبث بما یروقها من آیات، لغرض تأویلها إلى ما تدعم به طریقتها فی اختیار المذهب!.
ولا ریب أن القرآن حمال ذو وجوه- کما قال أمیر المؤمنین علیه السلام- لأنه کما ذکرنا یعتمد فی أکثر تعابیره البلاغیة على أنواع من المجاز والاستعارة والتشبیه. فأکسبه ذلک خاصیة قبول الانعطاف فی غالبیة آیاته الکریمة، ومن ثم نهى الإمام علیه السلام عن الاحتجاج بالقرآن تجاه أهل البدع والأهواء، لأنهم یعمدون إلى تأویله بلا هوادة. قال علیه السلام لابن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج (لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ویقولون. ولکن حاججهم بالسنة فإنهم لن یجدوا عنها محیصا).
انظر إلى هذه الآیة الکریمة: (وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)(9) ربما لم تکن العرب تخطر ببالها إرادة الرؤیة بالعین، کما قال الزمخشری: سمعت مستجدیة بمکة بعدما أغلق الناس أبوابهم من حر الظهیرة، تقول: عیینتی نویظرة إلى الله وإلیکم. ولم یختلج ببال أحد أنها تقصد النظر بالتحدیق إلى الله سبحانه، وإنما کان قصدها الانقطاع إلیه وتوقع فضله ورحمته تعالى. وهکذا فی الآیة الکریمة نظراً إلى موقعیة الحصر فیها. لکن الأشاعرة وأذنابهم من مشبهة وجسمه جمدوا على ظاهر الآیة البدائی وأصروا على أنه النظر إلیه تعالى بهاتین العینین اللتین فی الوجه.
وهکذا لما سمعت العرب قوله تعالى (إِنَّ رَبَّکُمُ اللَّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ یُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِیعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَٰلِکُمُ اللَّهُ رَبُّکُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَکَّرُونَ)(10) ربما لم تفهم منه سوى استقلاله تعالى بملکوت السماوات والأرض وتدبیره لشؤون هذا العالم، نظیر قول شاعرهم:
ثم استوى بشر على العراق
من غیر سیف ودم مهراق
وقال آخر:
فلما علونا واستوینا علیهم
ترکناهم صرعى لنسرو کاسر
لکن الأشاعرة ومن ورائهم سائر أهل التشبیه، أبوا إلا تفسیره بالاستقرار على العرش جلوساً متربعاً فوق السماوات العلى، وقد ینزل إلى السماء الدنیا لیطلع على شؤون خلقه فیغفر لهم ویجیب دعائهم، إذ لا یمکنه ذلک وهو متربع على کرسیه فوق السماوات.
وعلى هذا السبیل، لما نزلت الآیة: (وَقَالَتِ الْیَهُودُ یَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَیْدِیهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ یَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ یُنفِقُ کَیْفَ یَشَاءُ وَلَیَزِیدَنَّ کَثِیرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَیْکَ مِن رَّبِّکَ طُغْیَانًا وَکُفْرًا وَأَلْقَیْنَا بَیْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ یَوْمِ الْقِیَامَةِ کُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا یُحِبُّ الْمُفْسِدِینَ)(11) لا نظن أن العرب فهمت منها الجوارح والأعضاء، نظیر قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ یَدَکَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِکَ وَلَا تَبْسُطْهَا کُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)(12) لا یعنی الجارحة المخصوصة کما زعمته المشبهة من أصحاب الحشو، وإنما عنى ید القدرة ونفی العجز عن التصرف فیما یشاء الله تعالى. أما الأشعری ومن حذا حذوه فإنهم قد انحرفوا فی فهم هذا المعنى الظاهر، فأولوه إلى الجارحة، وقالوا إن لله یداً ورجلاً وعیناً ووجهاً وما إلى ذلک، وقوفاً مع ظاهر الکلمة فی القرآن.
والشواهد على هذا التحریف بظواهر القرآن کثیرة، سنعرض نماذج منها فی فصل قادم. ونذکر مدى تأثیر تلکم المذاهب المبتدعة فی تشویه ظاهر القرآن الکریم، من جراء تطاول أیادیهم الأثیمة نحو هذا الکتاب الإلهی المقدس، لغرض تلویثه! ولکن معاذ الله (یُرِیدُونَ أَن یُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَیَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن یُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ کَرِهَ الْکَافِرُونَ)(13)
المصدر: من کتاب التمهید فی علوم القرآن، سماحة الشیخ محمد هادی معرفة
1- البقرة /26
2- آل عمران /7
3- الشوری /11
4- الانعام /103
5- البقرة /30
6- الجاثیة /13
7- القلم /42
8- الرعد /17
9- القیامة /22-23
10- یونس /3
11- المائدة /64
12- الاسراء /29
13- التوبة /32


source : .www.rasekhoon.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

دفن الشهداء وأين دفنوا؟
إنطباعات عن شخصية أبو الفضل العباس ( عليه السلام )
حياة علــي الأكبــر (عليه السلام)
نبذ من غريب كلام الإمام علي عليه السلام وشرحه ...
إشعاعات من علم الإمام علي بن محمد الهادي (ع)
زيارة أم البنين عليها السلام
أضواء على سيرة وشخصية السيّدة أم البنين
مطلب السيدة فاطمة الزهراء (عليهما السلام)
تُدعى الشيعة يوم القيامة بأسماء آبائهم لطيب ...
فن التفسير

 
user comment