عربي
Tuesday 23rd of July 2024
0
نفر 0

التفسیر

التفسیر

بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله الذی أنزل الفرقان على عبده لیکون للعالمین نذیرا ، والصلوة على من جعله شاهدا ومبشرا ونذیرا ، وداعیا الى الله باذنه وسراجا منیرا ، وعلى آله الذین أذهب عنهم الرجس أهل البیت وطهرهم تطهیرا.
مقدمه : نعرف فیها مسلک البحث عن معانی آیات القرآن الکریم فی هذا الکتاب بطریق الاختصار.
التفسیر وهو بیان معانی الایات القرآنیة والکشف عن مقاصدها ومدالیلها من أقدم الاشتغالات العلمیة التی تعهد من المسلمین ، فقد شرع تاریخ هذا النوع من البحث والتنقیر المسمى بالتفسیر من عصر نزول القرآن کما یظهر من قوله تعالى وتقدس « کما أرسلنا فیکم رسولا منکم یتلو علیکم آیاتنا ویزکیکم ویعلمکم الکتاب والحکمة الآیة » (1).
وقد کانت الطبقة الاولى من مفسری المسلمین جماعة من الصحابة ( والمراد بهم غیر علی علیه السلام ، فان له وللائمة من ولده نبأ آخر سنتعرض له ) کابن عباس وعبد الله بن عمر وأبی وغیرهم اعتنوا بهذا الشأن ، وکان البحث یومئذ لا یتجاوز عن بیان ما یرتبط ، من الآیت بجهاتها الادبیة وشأن النزول وقلیل من الاستدلال بآیة على آیة وکذلک قلیل من التفسیر بالروایات المأثورة عن النبی ( صلى الله علیه وآله وسلم ) فی القصص ومعارف المبدء والمعاد وغیرها.
وعلى هذا الوصف جرى الحال بین المفسرین من التابعین کمجاهد وقتادة وابن أبی لیلى والشعبی والسدی وغیرهم فی القرنین الاولین من الهجرة ، فإنهم لم یزیدوا على طریقة سلفهم من مفسری الصحابة شیئا غیر انهم زادوا من التفسیر بالروایات ، ( وبینها روایات دسها الیهود أو غیرهم ) ، فأوردوها فی القصص والمعارف الراجعة إلى الخلقة کابتداء السماوات وتکوین الارض والبحار وإرم شداد وعثرات الانبیاء تحریف الکتاب واشیاء أخر من هذا النوع ، وقد کان یوجد بعض ذلک فی المأثور عن الصحابة من التفسیر والبحث.
ثم استوجب شیوع البحث الکلامی بعد النبی ( صلى الله علیه وآله وسلم ) فی زمن الخلفاء باختلاط المسلمین بالفرق المختلفة من أمم البلاد المفتوحة بید المسلمین وعلماء الادیان والمذاهب المتفرقة من جهة.
ونقل فلسفة یونان إلى العربیة فی السلطنة الامویة أواخر القرن الاول من الهجرة ، ثم فی عهد العباسیین ، وانتشار البحث العقلی الفلسفی بین الباحثین من المسلمین من جهة أخرى ثانیة.
وظهور التصوف مقارنا لانتشار البحث الفلسفی وتمایل الناس ألى نیل المعارف الدینیة من طریق المجاهدة والریاضة النفسانیة دون البحث اللفظی والعقلی من جهة أخرى ثالثة.
بقاء جمع من الناس وهم أهل الحدیث على التعبد المحض بالظواهر الدینیة من غیر بحث إلا عن اللفظ بجهاتها الادبیة من جهة أخرى رابعة.
ان اختلف الباحثون فی التفسیر فی مسالکهم بعد ما عمل فیهم الانشعاب فی لمذاهب ما عمل ، ولم یبقى بینهم جامع فی الرأی والنظر إلا لفظ لا إله إلا الله ومحمد رسول الله ( صلى الله علیه وآله وسلم ) واختلفوا فی معنى الاسماء والصفات والافعال والسماوات وما فیها الارض وما علیها والقضاء والقدر والجبر والتفویض والثواب والعقاب وفی الموت وفی البرزخ والبعث والجنة والنار ، وبالجملة فی جمیع ما تمسه الحقائق والمعارف الدینیة ولو بعض المس ، فتفرقوا فی طریق البحث عن معانی الایات ، وکل یتحفظ على متن ما اتخذه من المذهب والطریقة. فأما المحدثون ، فاقتصروا على التفسیر بالروایة عن السلف من الصحابد والتابعین فساروا وجدوا فی لسیر حیث ما یسیر بهم المأثور ووقفوا فیا لم یؤثر فیه شئ ولم یظهر المعنى ظهورا لا یحتاج إلى البحث أخذا بقوله تعالى : ( والراسخون فی العلم یقولون آمنا به کل من عند ربنا ) (2) وقد اخطأوا فی ذلک فان الله سبحانه لم یبطل حجة العقل فی کتابه ، وکیف یعقل ذلک وحجیته انما تثبت به ! ولم یجعل حجیة فی أقوال الصحابة والتابعین وانظارهم على اختلافها الفاحش ، ولم یدع إلى السفسطة بتسلیم المتناقضات والمتنافیات من الاقوال ، ولم یندب الا إلى التدبر فی آیاتة ، فرفع به أی اختلاف یترائى منها ، وجعله هدى ونورا وتبیانا لکلشئ ، فما بال النور یستنیر بنور غیره ! وما شأن الهدى یهتدى بهدایة سواه ! وکیف یتبین ما هو تبیان کلشئ بشئ دون نفسه. واما المتکلمون فقد دعاهم الاقوال المذهبیة على اختلافها أن یسیروا فی التفسیر على ما یوافق مذاهبهم باخذ ما وافق وتأویل ما خالف ، على حسب ما یجوزه قول المذهب.
واختیار المذاهب الخاصة واتخاذ المسالک والآراء المخصوصة وان کان معلولا لاختلاف الانظار العلمیة أو لشئ آخر کالتقالید والعصبیات القومیة ، ولیس هیهنا محل الاشتغال بذلک ، الا ان هذا الطریق من البحث أحرى به أن یسمى تطبیقا لا تفسیرا
ففرق بین ان یقول الباحث عن معنى آیة من الآیات : ما ذا یقول القرآن ؟ أو یقول : ما ذا یجب ان نحمل علیه الآیة ؟ فان القول الاول یوجب ان ینسى کل امر نظری عند البحث ، وان یتکى على ما لیس بنظری ، والثانی یوجب وضع النظریات فی المسألة وتسلیمها وبناء البحث علیها ، ومن المعلوم ان هذا النحو من البحث فی الکلام لیس بحثا عن معناه فی نفسه.
وأما الفلاسفة ، فقد عرض لهم ما عرض للمتکلمین من المفسرین من الوقوع فی ورطة التطبیق وتأویل الآیات المخالفة بظاهرها للمسلمات فی فنون الفلسفة بالمعنى الاعم اعنی : الریاضیات والطبیعیات والالهیات والحکمة العملیة ، وخاصة المشائین ، وقد تأولوا الآیات الواردة فی حقائق ما وراء الطبیعة وآیات الخلقة وحدوث السموات والارض وآیات البرزخ وآیات المعاد ، حتى أنهم ارتکبوا التأویل فی الآیات التی لا تلائم الفرضیات والاصول الموضوعة التى نجدها فی العلم الطبیعی : من نظام الافلاک الکلیة والجزئیة وترتیب العناصر والاحکام الفلکیة والعنصریة إلى غیر ذلک ، مع انهم نصوا على أن هذه الانظار مبتنیة على اصول موضوعة لا بینة ولا مبینة.
وأما المتصوفة ، فإنهم لاشتغالهم بالسیر فی باطن الخلقة واعتنائهم بشأن الآیات الانفسیة دون عالم الظاهر وآیاته الآفاقیة اقتصروا فی بحثهم على التأویل ، ورفضوا التنزیل ، فاستلزم ذلک اجتراء الناس على التأویل ، وتلفیق جمل شعریة والاستدلال من کل شئ على کل شئ ، حتى آل الامر إلى تفسیر الآیات بحساب الجمل ورد الکلمات إلى الزبر والبینات والحروف النورانیة والظلمانیة إلى غیر ذلک.
ومن الواضح أن القرآن لم ینزل هدى للمتصوفة خاصة ، ولا أن المخاطبین به هم أصحاب علم الاعداد والاوفاق والحروف ، ولا أن معارفه مبنیة على أساس حساب الجمل الذی وضعه أهل التنجیم بعد نقل النجوم من الیونانیة وغیرها إلى العربیة.
نعم قد وردت روایات عن النبی ( صلى الله علیه وآله وسلم ) وأئمه أهل البیت ( علیهم السلام ) کقولهم : ان للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة ابطن أو إلى سبعین بطنا الحدیث.
لکنهم ( علیهم السلام ) إعتبروا الظهر کما اعتبروا البطن ، واعتنوا بأمر التنزیل کما اعتنوا بشأن التأویل ، وسنبین فی أوائل سورة آل عمران ان شاء الله : أن التأویل الذی یراد به المعنى المقصود الذی یخالف ظاهر الکلام من اللغات المستحدثة فی لسان المسلمین بعد نزول القرآن وانتشار الاسلام ، وان الذی یریده القرآن من لفظ التأویل فیما ورد فیه من الایات لیس من قبیل المعنى والمفهوم.
وقد نشأ فی هذه الاعصار مسلک جدید فی التفسیر وذلک أن قوما من منتحلی الاسلام فی أثر توغلهم فی العلوم الطبیعیة وما یشابهها المبتنیة على الحس والتجربة ، والاجتماعیة المبتنیة على تجربة الاحصاء ، مالوا إلى مذهب الحسیین من فلاسفة الاروبة سابقا ، أو إلى مذهب أصالة العمل ( لا قیمة للادراکات الاترتب العمل علیها بمقدار یعینه الحاجة الحیویة بحکم الجبر ).
فذکروا : ان المعارف الدینیة لا یمکن أن تخالف الطریق الذی تصدقه العلوم وهو أن : ( لا أصالة فی الوجود إلا للمادة وخواصها المحسوسة ) فما کان الدین یخبر عن وجوده مما یکذب العلوم ظاهره کالعرش والکرسی واللوح والقلم یجب أن یؤل تأویلا. وما یخبر عن وجوده مما لا تتعرض العلوم لذلک کحقائق المعاد یجب أن یوجه بالقوانین المادیة.
وما یتکی علیه التشریع من الوحی والملک والشیطان والنبوة والرسالة والامامة وغیر ذلک ، إنما هی امور روحیة ، والروح مادیة ونوع من الخواص المادیة ، والتشریع نبوغ خاص اجتماعی یبنی قوانینه على الافکار الصالحة ، لغایة إیجاد الاجتماع الصالح الراقی.
ذکروا : أن الروایات ، لوجود الخلیط فیها لا تصلح للاعتماد علیها ، إلا ما وافق الکتاب ، وأما الکتاب فلا یجوز أن یبنى فی تفسیره على الآراء والمذاهب السابقة المبتنیة على الاستدلال من طریق العقل الذی أبطله العلم بالبناء على الحس والتجربة ، بل الواجب أن یستقل بما یعطیه القرآن من التفسیر إلا ما بینه العلم.
هذه جمل ما ذکروه أو یستلزمه ما ذکروه ، من اتباع طریق الحس والتجربة ، فساقهم ذلک إلى هذا الطریق من التفسیر ، ولا کلام لنا هیهنا فی اصولهم العلمیة والفلسفیة التی اتخذوها اصولا وبنوا علیها ما بنوا.
وإنما الکلام فی أن ما اوردوه على مسالک السلف من المفسرین ( أن ذلک تطبیق ولیس بتفسیر ) وارد بعینه على طریقتهم فی التفسیر ، وإن صرحوا أنه حق التفسیر الذی یفسر به القرآن بالقرآن.
ولو کانوا لم یحملوا على القرآن فی تحصیل معانی آیاته شیئا ، فما بالهم یأخذون الانظار العلمیة مسلمة لا یجوز التعدی عنها ؟ فهم لم یزیدوا على ما أفسده السلف اصلاحا.
وانت بالتأمل فی جمیع هذه المسالک المنقولة فی التفسیر تجد : ان الجمیع مشترکة فی نقص وبئس النقص ، وهو تحمیل ما انتجه الابحاث العلمیة أو الفلسفیة من خارج على مدالیل الآیات ، فتبدل به التفسیر تطبیقا وسمی به التطبیق تفسیرا ، وصارت بذلک حقائق من القرآن مجازات ، وتنزیل عدة من الآیات تأویلات.
ولازم ذلک ( کما أومأنا إلیه فی أوائل الکلام ) أن یکون القرآن الذی یعرف نفسه ( بأنه هدى للعالمین ونور مبین وتبیان لکل شئ ) مهدیا إلیه بغیره ومستنیرا بغیره ومبینا بغیره ، فما هذا الغیر ! وما شأنه ! وبماذا یهدی إلیه ! وما هو المرجع والملجا إذا اختلف فیه ! وقد اختلف واشتد الخلاف.
وکیف کان فهذا الاختلاف لم یولده اختلاف النظر فی مفهوم ( مفهوم اللفظ المفرد أو الجملة بحسب اللغة والعرف العربی ) الکلمات أو الآیات ، فإنما هو کلام عربی مبین لا یتوقف فی فهمه عربی ولا غیره ممن هو عارف باللغة واسالیب الکلام العربی.
ولیس بین آیات القرآن « وهی بضع آلاف » آیة آیة واحدة ذات اغلاق وتعقید فی مفهومها بحیث یتحیر الذهن فی فهم معناها ، وکیف ! وهو افصح الکلام ومن شرط الفصاحة خلو الکلام عن الاغلاق والتعقید ، حتى أن الآیات المعدودة من متشابه القرآن کالآیات المنسوخة وغیرها ، فی غایة الوضوح من جهة المفهوم ، وإنما التشابه فی المراد منها وهو ظاهر.
وإنما الاختلاف کل الاختلاف فی المصداق الذی ینطبق علیه المفاهیم اللفظیة من مفردها ومرکبها ، وفی المدلول التصوری والتصدیقی.
توضیحه : ان الانس والعادة ( کما قیل ) یوجبان لنا ان یسبق إلى أذهاننا عند استماع الالفاظ معانیها المادیة أو ما یتعلق بالمادة فإن المادة هی التی یتقلب فیها ابداننا وقوانا المتعلقة بها ما دمنا فی الحیوة الدنیویة ، فإذا سمعنا الفاظ الحیوة والعلم والقدرة والسمع والبصر والکلام والارادة والرضا والغضب والخلق والامر کان السابق إلى أذهاننا منها الوجودات المادیة لمفاهیمها.
وکذا إذا سمعنا الفاظ السماء والارض واللوح والقلم والعرش والکرسی والملک واجنحته والشیطان وقبیله وخیله ورجله إلى غیر ذلک ، کان المتبادر إلى افهامنا مصادیقها الطبیعیة.
وإذا سمعنا : إن الله خلق العالم وفعل کذا وعلم کذا وأراد أو یرید أو شاء وأو یشاء کذا قیدنا الفعل بالزمان حملا على المعهود عندنا.
وإذا سمعنا نحو قوله : « ولدینا مزید » وقوله : « لا تخذناه من لدنا »
وقوله : « وما عند الله خیر ». وقوله : « إلیه ترجعون » قیدنا معنى الحضو بالمکان.
وإذا سمعنا نحو قوله : « إذا أردنا أن نهلک قریة أمرنا مترفیها » (3). أو قوله : « ونرید ان نمن » الآیة أو قوله : « یرید الله بکم الیسر » فهمنا : أن الجمیع سنخ واحد من الارادة ، لما إن الامر على ذلک فیما عندنا ، وعلى هذا القیاس.
وهذا شأننا فی جمیع الالفاظ المستعملة ، ومن حقنا ذلک ، فإن الذی أوجب علینا وضع الفاظ إنما هی الحاجة الاجتماعیة إلى التفهیم والتفهم ، والاجتماع إنما تعلق به الانسان لیستکمل به فی الافعال المتعلقة بالمادة ولواحقها ، فوضعنا الالفاظ علائم لمسمیاتها التی نرید منها غایات واغراضا عائدة الینا.
وکان ینبغی لنا ان نتنبه : أن المسمیات المادیة محکومة بالتغیر والتبدل بحسب تبدل الحوائج فی طریق التحول والتکامل کما ان السراج أول ما عمله الانسان کان اناء فیه فتیلة وشئ من الدهن تشتعل به الفتیلة للاستضائه به فی الظلمة ، ثم لم یزل یتکامل حتى بلغ الیوم إلى السراج الکهربائی ولم یبق من اجزاء السراج المعمول أولا الموضوع بازائه لفظ السراج شئ ولا واحد.
وکذا المیزان المعمول أولاو ، المیزان المعمول الیوم لتوزین ثقل الحرارة مثلا.
والسلاح المتخذ سلاحا أول یوم ، السلاح المعمول الیوم إلى غیر ذلک.
فالمسمیات بلغت فی التغیر إلى حیث فقدتجمیع أجزائها السابقة ذاتا وصفة والاسم مع ذلک باق ، ولیس إلا لان المراد فی التسمیة إنما هو من الشئ غایتة ، لا شکله وصورتة ، فما دام غرض التوزین االاستضائة أو الدفاع باقیا کان اسم المیزان والسراج والسلاح وغیرها باقیا على حاله.
فکان ینبغی لنا ان نتنبه أن المدار فی صدق الاسم اشتمال المصداق على الغایة والغرض ، لا جمود اللفظ على صورة واحدة ، فذلک مما لا مطمع فیه البتة ، ولکن العادة والانس منعانا ذلک ، وهذا هو الذی دعى المقلدة من أصحاب الحدیث من الحشویة والمجسمة ان یجمدوا على ظواهر الآیات فی التفسیر ولیس فی الحقیقة جمودا على الظواهر بل هو جمود على العادة والانس فی تشخیص المصادیق. لکن بین هذه الظواهر أنفسها امور تبین : أن الاتکاء والاعتماد على الانس والعادة فی فهم معانی الآیات یشوش المقاصد منها ویختل به أمر الفهم کقوله تعالى : « لیس کمثله شئ » الآیة. وقوله : « لا تدرکه الابصار وهو یدرک الابصار وهو اللطیف الخبیر ». وقوله : « سبحان الله عما یصفون ».
وهذا هو الذی دعى الناس أن لا یقتصروا على الفهم العادی والمصداق المأنوس به الذهن فی فهم معانی الآیات کما کان غرض الاجتناب عالخطاء والحصول على النتائج المجهولة هو الذی دعى الانسان إلى ان یتمسک بذیل البحث العلمی ، وأجاز ذلک للبحث ان یداخل فی فهم حقائق القرآن وتشخیص مقاصدة العالیة ، وذلک على احد وجهین ، احدهما : ان نبحث بحثا علمیا أو فلسفیا أو غیر ذلک عن مسألة من المسائل التی تتعرض له الآیة حتى نقف على الحق فی المسألة ، ثم نأتی بالآیة ونحملها علیه ، وهذه طریقة یرتضیها البحث النظری ، غیر ان القرآن لا یرتضیها کما عرفت ، وثانیهما : ان نفسر القرآن بالقرآن ونستوضح معنى الایة من نظیرتها بالتدبر المندوب إلیه فی نفس القرآن ، ونشخص المصادیق ونتعرفها بالخواص التی تعطیها الایات ، کما قال تعالى : « إنا نزلنا علیک الکتاب تبیانا لکلشئ » الایة. وحاشا أن یکون القرآن تبیانا لکلشئ ولا یکون تبیانا لنفسه ، وقال تعالى : « هدى للناس وبینات من الهدى والفرقان الآیة ». وقال تعالى : « إنا أنزلنا الیکم نورا مبینا الآیة ». وکیف یکون القرآن هدى وبینة وفرقانا ونورا مبینا للناس فی جمیع ما یحتاجون ولا یکفیهم فی احتیاجهم إلیه وهو اشد الاحتیاج ! وقال تعالى : « والذین جاهدوا فینا لنهدینهم سبلنا » الایة. وای جهاد اعظم من بذل الجهد فی فهم کتابه ! وای سبیل اهدى إلیه من القرآن !.
والایات فی هذا المعنى کثیرة سنستفرغ الوسع فیها فی بحث المحکم والمتشابه فی اوائل سورة آل عمران.
ثم إن النبی ( صلى الله علیه وآله وسلم ) الذی علمه القرآن وجعله معلما لکتابه کما یقول تعالى : « نزل به الروح الامین على قلبک » الایة. ویقول : « وانزلنا إلیک الذکر لتبین للناس ما نزل إلیهم » الایة. ویقول : « یتلوا علیهم آیاته ویزکیهم ویعلمهم الکتاب والحکمة » الایة. وعترته واهل بیته ( الذین اقامهم النبی ( صلى الله علیه وآله وسلم ) هذا المقام فی الحدیث المتفق علیه بین الفریقین ( إنى تارک فیکم الثقلین ما إن تمسکتم بهما لن تضلوا بعدی ابدا کتاب الله وعترتی أهل بیتی وأنهما لن یفترقا حتى یردا علی الحوض ). وصدقه الله تعالى فی علمهم بالقرآن ، حیث قال عز من قائل : « إنما یرید الله لیذهب عنکم الرجس أهل البیت ویطهرکم تطهیرا »(4). وقال : « إنه لقرآن کریم فی کتاب مکنون ، لا یمسه الا إلمطهرون) (5) وقد کانت طریقتهم فی التعلیم والتفسیر هذه الطریقة بعینها على ما وصل الینا من اخبارهم فی التفسیر. وسنورد ما تیسر لنا مما نقل عن النبی ( صلى الله علیه وآله وسلم ) وائمه أهل بیته فی ضمن ابحاث روائیة فی هذا الکتاب ، ولا یعثر المتتبع الباحث فیها على مورد واحد یستعان فیه على تفسیر الایة بحجة نظریة عقلیة ولا فرضیة علمیة.
وقد قال النبی صلى الله علیه وإلیه وسلم : ( فإذا التبست علیکم الفتن کقطع اللیل المظلم ، فعلیکم بالقرآن ، فانه شافع مشفع وما حل مصدق ، من جعله امامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدلیل یدل على خیر سبیل ، وهو کتاب تفصیل وبیان وتحصیل وهو الفصل لیس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حکمة وباطنه علم ، ظاهره انیق وباطنه عمیق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فیه مصابیح الهدى ومنار الحکمة ، ودلیل على المعروف لمن عرف النصفة ، فلیرع رجل بصره ، ولیبلغ الصفة نظره ینجو من عطب ویخلص من نشب ، فإن التفکر حیاة قلب البصیر ، کما یمشی المستنیر فی الظلمات بالنور ، یحسن التخلص ویقل التربص ). وقال علی ( علیه السلام ) : ( یصف القرآن على ما فی النهج ) ( ینطق بعضه ببعض ویشهد بعضه على بعض الخطبة ).
هذا هو الطریق المستقیم والصراط السوی الذی سلکه معلموا القرآن وهداته صلوات الله علیهم.
وسنضع ما تیسر لنا بعون الله سبحانه من الکلام على هذه الطریقة فی البحث عن الآیات الشریفة فی ضمن بیانات ، قد اجتنبنا فیها عن أن نرکن إلى حجة نظریة فلسفیة أو إلى فرضیة علمیة ، أو إلى مکاشفة عرفانیة.
واحترزنا فیها عن أن نضع الا نقاط ادبیة یحتاج إلیها فهم الاسلوب العربی أو مقدمة بدیهیة أو عملیة لا یختلف فیها الافهام. وقد تحصل من هذه البیانات الموضوعة على هذه الطریقة من البحث استفراغ الکلام فیما نذکره :
1 - المعارف المتعلقة باسماء الله سبحانه وصفاته من الحیاة والعلم والقدرة والسمع والبصر والوحدة وغیرها ، وأما الذات فستطلع أن القرآن یراه غنیا عن البیان.
2 - المعارف المتعلقة بافعاله تعالى من الخلق والامر والارادة والمشیة والهدایة والاضلال والقضاء والقدر والجبر والتفویض والرضا والسخط ، إلى غیر ذلک من متفرقات الافعال.
3 - المعارف المتعلقة بالوسائط الواقعة بینه وبین الانسان کالحجب واللوح والقلم والعرش والکرسی والبیت المعمور والسماء والارض والملائکة والشیاطین والجن وغیر ذلک.
4 - المعارف المتعلقة بالانسان قبل الدنیا.
5 - المعارف المتعلقة بالانسان فی الدنیا کمعرفة تاریخ نوعه ومعرفة نفسه ومعرفة اصول اجتماعه ومعرفة النبوة والرسالة والوحی والالهام والکتاب والدین والشریعة ، ومن هذا الباب مقامات الانبیاء المستفادة من قصصهم المحکیة.
6 - المعارف المتعلقة بالانسان بعد الدنیا ، وهو البرزخ والمعاد.
7 - المعارف المتعلقة بالاخلاق الانسانیة ، ومن هذا الباب ما یتعلق بمقامات الاولیاء فی صراط العبودیة من الاسلام والایمان والاحسان والاخبات والاخلاص وغیر ذلک.
وأما آیات الاحکام ، فقد اجتنبنا تفصیل البیان فیها لرجوع ذلک إلى الفقه.
وقد أفاد هذه الطریقة من البحث إرتفاع التأویل بمعنى الحمل على المعنى المخالف للظاهر من بین الآیات ، وأما التأویل بالمعنى الذی یثبته القرآن فی مواضع من الآیات ، فسترى أنه لیس من قبیل المعانی.
ثم وضعنا فی ذیل البیانات متفرقات من ابحاث روائیة نورد اما تیسر لنا ایراده من الروایات المنقولة عن النبی ( صلى الله علیه وآله وسلم ) وأئمة أهل البیت سلام الله علیهم أجمعین من طرق العامة والخاصة ، وأما الروایات الواردة عن مفسری الصحابة والتابعین. فإنها على ما فیها من الخط والتناقض لا حجة فیها على مسلم.
وسیطلع الباحث المتدبر فی الروایات المنقولة عنهم ( علیه السلام ) ، ان هذه الطریقة الحدیثة التی بنیت علیها بیانات هذا الکتاب ، أقدم الطرق المأثورة فی التفسیر التی سلکها معلموه سلام الله علیهم.
ثم وضعنا ابحاثا مختلفة ، فلسفیة وعلمیة وتأریخیة واجتماعیة وأخلاقیة ، حسب ما تیسر لنا من البحث ، وقد أثرنا فی کل بحث قصر الکلام على المقدمات المسانخة له ، من غیر تعد عن طور البحث.
نسئل الله تعالى السداد والرشاد فانه خیرمعین وهاد
الفقیر إلى الله : محمد حسین الطباطبائی
المصادر :
1 - البقرة:151
2 - ال عمران: 7
3-الاسراء :16
4- الاحزاب: 33
5 - الواقعة :78 ، 79


source : .www.rasekhoon.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

نهاية ثورة المختار
في التنظيف
ثالث الائمة
الفضل بن شاذان النيشابوري
سنة الله
الخلافة ونشأة الحزبية السياسية
أهمية التربية في الإسلام
دفن الشهداء وأين دفنوا؟
إنطباعات عن شخصية أبو الفضل العباس ( عليه السلام )
حياة علــي الأكبــر (عليه السلام)

 
user comment