عندما نتأمل فی واقعة کربلاء فإنّنا نرى سیّد الشهداء أبی عبد الله الحسین علیه السلام قدَّم للشهادة أولاده وإخوانه وأصحابه وهم من أحبّ الناس إلیه، ولم یبخل بأحد منهم. وأوّل من أذن له فی القتال ابنه علیّ الأکبر، هذا الشابّ الّذی کان الحسین علیه السلام وکلّ أهل البیت علیه السلام یحبّونه حبّاً شدیداً لأنّه أشبه الناس برسول الله خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً. فعندما استشهد علیّ الأکبر علیه السلام قال الحسین علیه السلام: "على الدنیا بعدک العفا یا بنیّ". هذا فلذة کبد الحسین علیه السلام ، ولکنَّ حبّه له لم یمنعه من تقدیمه للشهادة إعلاءً لکلمة الله وإعزازاً لدینه. إنّ هذا الحبّ هو عین حبّ الله.(1)
فی حبّ الله
عن النبیّ صلى الله علیه وآله وسلم: "إذا أحبّ الله عبداً من أمّتی قذف فی قلوب أصفیائه وأرواح ملائکته وسکّان عرشه محبّته لیحبّوه، فذلک المحبُّ حقّاً. طوبى له ثمّ طوبى له، وله عند الله شفاعةٌ یوم القیامة".(2)
عن الإمام الصادق علیه السلام:"حبّ الله نارٌ لا یمرُّ على شیء إلا احترقه ونور الله لا یطلع على شیء إلا أضاء...".
الصدقة
یقول الله سبحانه تعالى فی محکم کتابه:
﴿أَلَمْ یَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ یَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَیَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِیمُ ﴾(3)
من أهمّ المواصفات أو الصفات الّتی أحبّها الله سبحانه وتعالى وأرادها فی عبده المؤمن إلى جانب إقامة الصلاة، الّتی هی - معراج المؤمن - صفة الإنفاق، وقد ورد هذا المعنى فی القرآن الکریم إمّا بتعابیر الإنفاق﴿الَّذِینَ یُنفِقُونَ﴾(4)، أو بتعابیر إیتاء الزکاة: ﴿الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاَةَ وَیُؤْتُونَ الزَّکَاةَ﴾(5)، أو بتعابیر الصدقة والتصدّق و﴿الْمُصَّدِّقِینَ﴾(6). لکن، حتّى لا نکرّر الکلمات فلنقل التصدّق، لأنّ عنوان الصدقة هو عنوان واسع جدّاً.
طریق تزکیة النفس
التأکید القرآنیّ والنبویّ على موضوع التصدّق هو تأکید کبیر, والرسالة الإلهیّة السماویّة - من خلال ترکیزها على هذه الصفة - ترید أن تحقّق غرضین أو هدفین دفعةً واحدة:
الغرض الأوّل یتعلّق بنفس الإنسان، لأنّ الإنسان الّذی یُنفق ویتصدّق ویُعطی من ماله ویُجاهد بماله - هذا الإنسان - یتطهّر ویتزکّى من خلال هذا الإنفاق. ولذلک،
ورد فی الآیة الکریمة ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَکِّیهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَیْهِمْ إِنَّ صَلَاتَکَ سَکَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ ﴾(7).
هناک الکثیر من المؤمنین الّذین یهتمّون بالسیر والسلوک والأعمال الّتی تقرّب إلى الله سبحانه وتعالى، ولکن بنفس الوقت یمکن أن یتطرّقوا إلى أعمال قد تکون شاقّة جسدیّاً. فی حین أنّ الله سبحانه وتعالى وهو الأعلم بالنفس الإنسانیّة دلّنا على طریق للتزکیة والتطهّر یحتاج سلوکه إلى کثیر من العناء، وهذا الطریق هو طریق الإنفاق فی سبیل الله, والّذی ینتج عنه طُهر روحیّ ومعنویّ فی الدنیا ومقام علیّ فی الآخرة.
وعندما ننفق، فنحن المستفیدون فی الدنیا قبل الآخرة، فقد یظنّ البعض ممّن لا یؤمن بالغیب أنّه لو أنفق من هذا المال الّذی بحوزته وأعطى منه فقیراً أو محتاجاً فإنّ مقدار هذا المال الموجود لدیه سینقص- وذلک طبعاً بحسابات أهل الدنیا-إلا أنّه فی الواقع وحقیقة الأمر فإنّ هذا المال یزید بتزکیة الله له وجعل البرکة فیه، یقول تعالى: ﴿یَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَیُرْبِی الصَّدَقَاتِ﴾(8)، بل ودفع البلاء الّذی قد یکلّفنی الکثیر من مالی الّذی احتفظت به ولم أنفق بعضاً منه، کأن أمرض مرضاً شدیداً، کان بإمکانی دفعه لو أنفقت فی سبیل الله، وقد ورد عن الإمام الباقر علیه السلام قال: "الصدقة تدفع البلاء المبرم فداووا مرضاکم بالصدقة"(9).
الغرض الثانی هو المساهمة فی معالجة المشاکل الاجتماعیّة المعیشیّة المستعصیة الّتی یعیشها الناس عموماً منذ بدء الخلیقة إلى الآن وإلى یوم تکون لله تعالى فیه مشیئة أخرى. فی کلّ مجتمع بشریّ فقراء وأغنیاء، مکتفون ومحتاجون، وأناس قادرون على العمل وآخرون عاجزون عن العمل, وإلخ.
فی الفهم الإسلامیّ، الدولة مسؤولة والمجتمع الّذی یعیش فیه هؤلاء الفقراء والعاجزون والأیتام والمساکین هو أیضاً یتحمّل مسؤولیّة من هذا النوع، وأمّا ثقافة إیتاء الزکاة والتصدّق والإنفاق والجهاد بالمال ورعایة أو تکفّل الأیتام وقضاء حوائج المحتاجین وما شاکل، فهی لتعالج جانباً کبیراً من هذه المشکلة، ولکن بخلفیّة ثقافیّة إیمانیّة أخلاقیّة إنسانیّة، وهذا ما ورد الحثُّ علیه فی الکثیر من الآیات والروایات.
یُربی الصدقات
الله سبحانه وتعالى - من باب الترغیب للمتصدّقین - یقول لهم: أنا الّذی آخذ منکم الصدقات بشکل مباشر، الصدقة تقع فی ید الله قبل أن تقع فی ید الفقیر أو المحتاج أو الیتیم: ﴿أَلَمْ یَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ یَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَیَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِیمُ﴾(10). وقد ورد فی الروایات ما یؤکّد هذا المعنى.
ومن باب التشجیع أیضاً، وعد الله سبحانه وتعالى فی القرآن المجید بأنّه هو الّذی یربی الصدقات. عندما یدفع الواحد منّا صدقة، هذه الصدقة تنمو وتنمو إلى أن یحشر یوم القیامة، فیفاجأ یوم القیامة کأنّه تصدق بمثل جبل أحد کما ورد فی بعض الروایات، فی حین أنّ کلّ ما تصدّق به هو فقط هذا المبلغ المتواضع الّذی خرج منه. لکنّ الله سبحانه وتعالى وعد بأن یربی الصدقات وأن ینمّیها تشجیعاً على الإنفاق لعباده. وقد ورد عن الرسول صلى الله علیه وآله وسلم: "تصدّقوا ولو بشقّ تمرة، واتقوا النار ولو بشقّ تمرة، فإنّ الله عزّ وجلّ یُربیها لصاحبها کما یُربی أحدکم فصیله حتّى یوفیه إیّاها یوم القیامة، وحتّى یکون أعظم من الجبل العظیم"(11).
وفی الحدیث القدسیّ، عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام أنّه قال: "قال الله تعالى: إنّ من عبادی من یتصدّق بشقّ تمرة فأربیها له کما یُربی أحدکم فلوَه، حتّى أجعلها مثل جبل أحد".
من برکات الصدقة
هناک روایات کثیرة تتحدّث عن آثار الصدقة، فقد ورد على سبیل المثال أنّها "تدفع البلاء ویتداوى بها من الأمراض" کما مرّ معنا. وهی "تدفع میتة السوء"، وحیث إنّ الإنسان سیموت ولا مهرب من الموت. فإنّ هناک أشکالاً للموت، فتارةً هناک الموت الّذی هو قتل فی سبیل الله، وموت على الفراش أو بحادث سیارة أو عن طریق الخطأ إلخ... الصدقة تدفع عن الإنسان میتة السوء. وورد أیضاً أنّ الصدقة "تطیل العمر" وأنّها "مفتاح الرزق"، یقول تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ کَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِی کُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ یُضَاعِفُ لِمَن یَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِیمٌ﴾(12). وقد کان رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم یأمر بعض الذین سُدّت علیهم أبواب الرزق بالتصدّق لینظر الله سبحانه وتعالى إلیهم نظرة رحمة ورأفة ویفتح لهم أبواب رزقه.
عطاء بلا حساب
وللتشجیع أیضاً على تحقیق الغرض الثانی (أی المساهمة فی معالجة المشاکل الاجتماعیّة)، نجد بأنّ الإسلام لم یشجّع فقط المتصدّقین أنفسهم، لأنّ الإسلام یعرف أنّه سیأتی یوم من الأیّام لا یستطیع الواحد منّا أن یقوم بمبادرة فردیّة للتصدّق، وأنّه سیأتی یوم تصبح فیه مؤسّسات ضخمة تعمل فی هذا الموضوع. ولذلک نجد بأنّ الأجر والثواب الّذی وعد به المتصدّق وعد به أیضاً من یسعى فی تأمین الصدقة، ومن یحمل الصدقة من المتصدّق إلى الیتیم أو المحتاج أو الفقیر. فقد روی عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم "من مشى بصدقة إلى محتاج کان له کأجر صاحبها من غیر أن ینقص من أجره شیء"(13) ﴿وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِیمٌ﴾. الله سبحانه وتعالى یعطی بلا حساب، وتکفّل للساعی فی تأمین الصدقة ویإیصالها للمحتاجین بثواب وأجر المتصدّق نفسه دون أن یُنقصَ شیءٌ من أجر هذا المتصدّق. وورد أیضاً فی روایاتنا حول مفهوم الصدقة فی الإسلام الکثیرُ من أخلاقیّات وآداب هذا السلوک وهذه الممارسة وهذه الفریضة وهذا العمل المستحبّ، فیما یتحدّث عن صدقة السرّ أو العلن وأولویّة ذوی الأرحام.
خیرٌ من الصدقة
ومن أهمّ الأمور الّتی تعبّر عن هذا البعد الأخلاقیّ والإنسانیّ فی التشریع الإسلامیّ هو حرمة إلحاق المنّ والأذى بمن نعینهم أو بمن نساعدهم، وهذا یؤکّد أنّ الغرض فی الحقیقة والخلفیّة الأساس هی خلفیّة أخلاقیّة وإنسانیّة. لذلک، قال الله سبحانه وتعالى ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَیْرٌ مِّن صَدَقَةٍ یَتْبَعُهَآ أَذًى﴾(14).
نعم، هناک الکثیر ممّن یتصدّقون أو یساعدون، أو مثل بعض الدول الّتی تقدّم المساعدات والمعونات لجهة معیّنة، ثمّ فیما بعد یلحق بهم من الأذى والمنّ ما یذهب بماء وجوههم جمیعاً. بینما رکّز الإسلام على حفظ ماء وجه الیتیم والمحتاج والفقیر الّذی نتصدّق أو ننفق علیه أو نساعده فی الحقیقة. ولعلّ هذا أیضاً أحد إیجابیّات أو خلفیّات صدقة السرّ. حتّى أنّه ورد فی بعض الروایات فی الآداب أنّک عندما تعطی مالک للفقیر لا تنظر إلى وجهه، حتّى لا یخجل ولا یستحی منک فحاول الإسلام إلى هذا الحدّ أن یُراعی کرامة أولئک الّذین تمتدّ إلیهم الید لمعونتهم ولمساعدتهم وسدّ حوائجهم.
یقول سبحانه: ﴿یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِکُم بِالْمَنِّ وَالأذَى﴾(15). عندما تتصدّق على إنسان ثمّ تمنّ علیه وتؤذیه فقد أبطلت صدقتک ولم یعد لها أجر ولا ثواب ولا مکان ولا معنى. وهذا یؤکّد أنّ حرص الإسلام على الکرامة الإنسانیّة هو أشدّ بکثیر من حرص الإسلام على أن یملأ بطن الجائع. ولذلک، قالت الآیة: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَیْرٌ مِّن صَدَقَةٍ یَتْبَعُهَآ أَذًى﴾(16). فکرامة الإنسان أهمّ من جوعه أو شبعه، ولذلک، إن کنت ترید أن تشبع بطنه علیک أن تحفظ الأهمّ، وهو کرامة هذا الإنسان.
عندما یصبح فی کلّ دکّان وفی کلّ بیت مکان للصدقة، وصندوق للصدقة، وعندما تنتشر ثقافة الصدقة بین الناس، هذه الأموال المتواضعة والبسیطة تتراکم، وعندما تتراکم هذه المبالغ تستطیع أن تحلّ مشکلة عدد کبیر من العائلات.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن یجعلنا من المتصدّقین، ویتقبّل منّا القلیل، ویعوّضنا بالکثیر، ویعجّل لنا ظهور الدولة الکریمة حتّى لا یبقى موضعٌ للصدقة، حیث یملؤها صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشریف قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، إنّه سمیع مجیب.
المصادر :
1- إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج 3، ص 343
2- مصباح الشریعة، ص192.
3- سورة التوبة، الآیة: 104.
4- سورة البقرة، الآیات: 261 262 265.
5- سورة المائدة: الآیة: 55.
6- سورة الحدید، الآیة: 18.
7- سورة التوبة، الآیة: 103.
8- سورة البقرة، الآیة:276.
9- 7- سائل الشیعة، الحر العاملی، ج2، ص433.
10- سورة التوبة، الآیة: 104.
11- بحار الأنوار، العلامة المجلسی، ج93، ص122.
12- سورة البقرة، الآیة: 261.
13- بحار الأنوار، العلامة المجلسی، ج92، ص175.
14- سورة البقرة، الآیة: 263.
15- سورة البقرة، الآیة: 264.
16- سورة البقرة، الآیة: 263.
source : www.abna.ir