عربي
Thursday 26th of December 2024
0
نفر 0

سيرة ومكارم أخلاق الامام الرضا عليه السلام

سيرة ومكارم أخلاق الامام الرضا عليه السلام

إن الشواهد على فضائل الإمام الرضا (عليه السلام) ومكارم أخلاقه كثيرة تفوق حد الإحصاء لقد امتاز الإمام الرضا (عليه السلام) بخلق عال وسيرة فريدة اجتلب بها محبة الناس، واستهوى بها قلوبهم، وبإنسانية فذة استمدها من روح رسالة السماء، الرسالة الإسلامية السامية، التي كان (عليه السلام) أحد حفظتها والأمناء عليها والوارثين لأسرارها، وقد استمدها ميراثا نقيا يشع بالخير والرحمة من جده الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي توج رسالته بشعار مكارم الأخلاق حيث قال (صلى الله عليه وآله): بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .ولا تقتصر الثقافة السلوكية في المجال التربوي والتوجيهي مجردة على التوعية الكلامية والممارسات السلوكية، بل تتعدى ذلك إلى فرض الرقابة العملية الدقيقة وملاحظة أخطاء السلوك في المسيرة الحياتية للآخرين، وفي هذا المجال كثير من الأمثلة سنتعرض لذكر بعضها في هذا الفصل. وقد اعترف للإمام الرضا (عليه السلام) بالأفضلية والأعلمية ومكارم الأخلاق والعبادة الأعداء والمخالفون فضلا عن الأصحاب والأتباع والمؤالفين. فعن أبي الصلت وياسر الخادم وغيرهما: أن المأمون قال للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله، قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحق بالخلافة مني. فقال الرضا (عليه السلام): بالعبودية لله أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله... الحديث (1). وفي رسالة المأمون إلى العباسيين المعترضين على توليته للعهد، عن الحاكم النيسابوري، قال: وأما ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن، فما بايع له إلا مستبصرا في أمره، عالما بأنه لم يبق على ظهرها أبين فضلا، ولا أظهر عفة، ولا أورع ورعا، ولا أزهد زهدا في الدنيا، ولا أطلق نفسا، ولا أرضى في الخاصة والعامة، ولا أشد في ذات الله منه... (2). وفيما يلي نقدم نبذة يسيرة من سائر فضائله الجمة ومناقبه الكثيرة وسيرته الحميدة، وما هي بالقياس إلى جميعها إلا كالقطرة من البحر، لأنه يصعب استقصاؤها جميعا:
1 - روى الشيخ الصدوق عن إبراهيم بن العباس، أنه قال: ما رأيت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) جفا أحدا بكلمة قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما رد أحدا عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط، ولا اتكأ بين يدي جليس له قط، ولا رأيته شتم أحدا من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم (3).
2 - وروى الشيخ الكليني في (الكافي) بسنده: أنه نزل بأبي الحسن الرضا (عليه السلام) ضيف، وكان جالسا عنده يحدثه في بعض الليل، فتغير السراج، فمد الرجل يده ليصلحه، فزبره أبو الحسن (عليه السلام)، ثم بادره بنفسه فأصلحه، ثم قال: إنا قوم لا نستخدم أضيافنا (4). 3 - وبسنده عن ياسر ونادر خادمي الرضا (عليه السلام) أنهما قالا: قال لنا أبو الحسن صلوات الله عليه: إن قمت على رؤوسكم وأنتم تأكلون فلا تقومواحتى تفرغوا، ولربما دعا بعضنا فيقال: هم يأكلون، فيقول: دعوهم حتى يفرغوا.
4 - وعن نادر الخادم، قال: كان أبو الحسن إذا أكل أحدنا لا يستخدمه حتى يفرغ من طعامه.
5 - وقال الصدوق في (العيون): كان (عليه السلام) خفيف الأكل، قليل الطعم (5).
6 - وروى الشيخ الكليني عن سليمان الجعفري، أنه قال: كنت مع الرضا (عليه السلام) في بعض الحاجة، فأردت أن أنصرف إلى منزلي، فقال لي: انصرف معي، فبت عندي الليلة، فانطلقت معه، فدخل إلى داره مع المعتب، فنظر إلى غلمانه يعملون بالطين أواري الدواب (الأرى: محبس الدابة، والجمع: أواري) وغير ذلك، وإذا معهم أسود ليس منهم. فقال: ما هذا الرجل معكم؟ قالوا: يعاوننا ونعطيه شيئا، قال: قاطعتموه على أجرته؟ فقالوا: لا، هو يرضى منا بما نعطيه، فأقبل عليهم وغضب لذلك غضبا شديدا، فقلت: جعلت فداك، لم تدخل على نفسك؟
فقال: إني قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرة، أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه أجرته، وأعلم أنه ما من أحد يعمل لك شيئا بغير مقاطعة ثم زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعاف على أجرته إلا ظن أنك نقصته أجرته، وإذا قاطعته ثم أعطيته أجرته حمدك على الوفاء، فإن زدته حبة عرف ذلك لك، ورأى أنك قد زدته. وفي هذا الحديث يشير الإمام (عليه السلام) إلى نقطة مهمة تتعلق بقانون العمل، طالما أدت إلى مزيد من المشاكسات والمنازعات بين العامل ورب العمل في حال عدم التعاقد على أجر معلوم يضمن حق الطرفين دون نزاع أو خلاف.
7 - وروي عن ياسر الخادم، قال: أكل الغلمان يوما فاكهة، فلم يستقصوا أكلها، ورموا بها، فقال لهم أبو الحسن (عليه السلام): سبحان الله، إن كنتم استغنيتم فإن أناسا لم يستغنوا، أطعموه من يحتاج إليه (6). وبهذا يمارس الإمام (عليه السلام) أسلوبا تربويا في مراقبة سلوك غلمانه، وتوجيههم بما ينسجم ومبادئ الرسالة الإسلامية السمحاء، وفي التفكير بسد حاجات الآخرين ممن هم في حاجة ماسة إلى ما يشعر الآخرون بزيادته ويحاولون إتلافه بطريقة أو بأخرى بطرا واكتفاء.
8 - وعن أبي عبد الله محمد بن موسى بن نصر الرازي، قال: سمعت أبي يقول: قال رجل للرضا (عليه السلام): والله ما على وجه الأرض أشرف منك أبا، فقال (عليه السلام): التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم. وقال له آخر: أنت والله خير الناس. فقال له: لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى وأطوع له، والله ما نسخت هذه الآية: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). وهكذا يحدد لنا الإمام الرضا (عليه السلام) نظرية الإسلام في إزالة الفوارق الطبقية، ورعاية كرامة الإنسان، وأن الفارق الذي يجب ملاحظته هو إطاعة الله وتقواه.
9 - وقال له أبو الصلت: يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم. قال: وما هو؟ قلت: يقولون إنكم تدعون أن الناس لكم عبيد. فقال (عليه السلام): اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تشهد بأني لم أقل ذلك قط، ولا سمعت أحدا من آبائي قاله، وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمة، وأن هذه منها. ثم أقبل علي وقال: يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا على ما حكوه عنا، فممن نبيعهم؟ قلت: يا بن رسول الله، صدقت. ثم قال: يا عبد السلام، أمنكر أنت لما أوجب الله عز وجل لنا من الولاية كما ينكره غيرك؟ قلت: معاذ الله، بل أنا مقر بولايتكم (7). وفي هذا الحديث دلالة أخرى على أنهم (عليهم السلام) يرون أن جميع الناس سواسية في الحقوق العامة، ما عدا حق الولاية على الخلق التي فرضها الله لهم، فإنه ليس لغيرهم أن يدعيها لنفسه، وما عدا حق الطاعة لله تعالى، ما عدا هذا فالكل عبيد الله، يجمعهم أب واحد وأم واحدة، ورب واحد. وقال إبراهيم بن العباس الصولي كما جاء في (عيون الأخبار): سمعت علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يقول: حلفت بالعتق، ولا أحلف بالعتق إلا أعتقت رقبة، وأعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كان يرى أنه خير من هذا - وأومأ إلى عبد أسود من غلمانه - بقرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا أن يكون لي عمل صالح، فأكون أفضل منه (8). وبهذا المعنى يحدد لنا الإمام (عليه السلام) الخلق الإسلامي الأصيل في الحفاظ على كرامة الإنسان، وإلغاء الامتيازات الطبقية، فيما عدا العمل الصالح، فهو (عليه السلام) لا يرى أن قرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعطيه امتيازا على العبد الأسود، ما لم يقترن بتلك القرابة عمل صالح يكون به الفضل والامتياز.
10 - وعن البزنطي، قال: بعث إلي الرضا (عليه السلام) بحمار له، فجئت إلى صريا (صريا: قرية على ثلاثة أميال من المدينة، أسسها موسى بن جعفر (عليه السلام) فمكثت عامة الليل معه، ثم أوتيت بعشاء، ثم قال: افرشوا له، ثم أوتيت بوسادة طبرية، ومرادع، وكساء قياسري (الثوب المردوع: المصبوغ بالزعفران، وجمعه مرادع، والقياسري: المنسوب إلى قياسرية، موضع في فلسطين، وقيل: في بلاد الروم)، وملحفة مروي. فلما أصبت من العشاء، قال لي: ما تريد أن تنام؟ قلت: بلى جعلت فداك، فطرح علي الملحفة والكساء، ثم قال: بيتك الله في عافية، وكنا على سطح، فلما نزل من عندي قلت في نفسي: قد نلت من هذا الرجل كرامة ما نالها أحد قط، فإذا هاتف يهتف بي: يا أحمد، ولم أعرف الصوت، حتى جاءني مولى له، فقال: أجب مولاي. فنزلت فإذا هو مقبل إلي، فقال: كفك، فناولته كفي فعصرها، ثم قال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) أتى صعصعة بن صوحان عائدا له، فلما أراد أن يقوم من عنده، قال: يا صعصعة بن صوحان، لا تفتخر بعيادتي إياك، وانظر لنفسك، فكأن الأمر قد وصل إليك، ولا يلهينك الأمل، أستودعك الله، وأقرأ عليك السلام كثيرا (9). في هذا الحديث إشارة واضحة إلى أهمية التربية الروحية الواقعية والنظرة الموضوعية بعيدا عن المؤثرات الخارجية العابرة، والتصورات النفسية المزيفة، فلا بد أن نكون حريصين على أنفسنا من أن ننخدع بشيء يبعدها عن التفكير بواقعها الذي يرتبط مصيرها به، وعلينا أن ننظر إليها بنظرة موضوعية، ترتبط بواقع الذات وأهميتها.
وكان الإمام الرضا (عليه السلام) يؤدب شيعته ويحثهم على الالتزام بالفرائض، وعدم التهاون في حقوق الآخرين، ففي الاحتجاج والتفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام)، قال (عليه السلام): ولما جعل إلى علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ولاية العهد، دخل عليه آذنه، فقال: إن قوما بالباب يستأذنون عليك، يقولون: نحن من شيعة علي (عليه السلام). فقال (عليه السلام): أنا مشغول فاصرفهم، فصرفهم. فلما كان في اليوم الثاني جاءوا وقالوا كذلك، فقال مثلها، فصرفهم إلى أن جاءوه هكذا يقولون ويصرفهم شهرين، ثم أيسوا من الوصول، وقالوا للحاجب: قل لمولانا: إنا شيعة أبيك علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد شمت بنا أعداؤنا في حجابك لنا، ونحن ننصرف هذه الكرة، ونهرب من بلدنا خجلا وأنفة مما لحقنا، وعجزا عن احتمال مضض ما يلحقنا بشماتة أعدائنا. فقال علي بن موسى الرضا (عليه السلام): إئذن لهم ليدخلوا، فدخلوا عليه، فقالوا: يا بن رسول الله، ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد هذا الحجاب الصعب؟ أي باقية تبقى منا بعد هذا؟ فقال الرضا (عليه السلام): اقرأوا (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) (10) ما اقتديت إلا بربي عز وجل فيكم، وبرسول الله (صلى الله عليه وآله) وبأمير المؤمنين (عليه السلام) ومن بعده من آبائي الطاهرين (عليهم السلام) عتبوا عليكم، فاقتديت بهم. قالوا: لماذا يا بن رسول الله؟ قال لهم: لدعواكم أنكم شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويحكم إنما شيعته الحسن والحسين (عليهما السلام) وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار ومحمد بن أبي بكر، الذين لم يخالفوا شيئا من أوامره، ولم يرتكبوا شيئا من فنون زواجره. فأما أنتم إذا قلتم أنكم من شيعته، وأنتم في أكثر أعمالكم له مخالفون، مقصرون 78: في كثير من الفرائض، ومتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في الله، وتتقون حيث لا تجب التقية، وتتركون التقية حيث لا بد من التقية، لو قلتم أنكم موالوه ومحبوه، والموالون لأوليائه، والمعادون لأعدائه، لم أنكره من قولكم، ولكن هذه مرتبة شريفة ادعيتموها، إن لم تصدقوا قولكم بفعلكم هلكتم، إلا أن تتدارككم رحمة من ربكم. قالوا: يا بن رسول الله، فإنا نستغفر الله ونتوب إليه من قولنا، بل نقول - كما علمنا مولانا - نحن محبوكم ومحبو أوليائكم، ومعادو أعدائكم. قال الرضا (عليه السلام): فمرحبا بكم يا إخواني وأهل ودي، ارتفعوا، ارتفعوا، فما زال يرفعهم حتى ألصقهم بنفسه... وتفقد أمورهم وأمور عيالاتهم، فأوسعهم بنفقات ومبرات وصلات (11).
11 - وفي (وفيات الأعيان): أنه (عليه السلام) قال لأخيه زيد بن موسى (عليه السلام) وكان قد خرج بالبصرة على المأمون: ويلك يا زيد، فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت، وتزعم أنك ابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والله لأشد الناس عليك رسول الله (صلى الله عليه وآله). يا زيد، ينبغي لمن أخذ برسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يعطي به، فبلغ كلامه المأمون فبكى وقال: هكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) (12).
12 - ولسلوك الإمام الفذ، فقد اهتدى به الكثيرون، ففي (المناقب) عن ابن الشهرزوري في (مناقب الأبرار): أن معروف الكرخي كان من موالي علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وكان أبواه نصرانيين، فسلما معروفا إلى المعلم وهو صبي، فكان المعلم يقول له: قل ثالث ثلاثة، وهو يقول: بل هو الواحد. فضربه المعلم ضربا مبرحا، فهرب ومضى إلى الرضا (عليه السلام) وأسلم على يده، ثم إنه أتى داره فدق الباب، فقال أبوه: من بالباب؟ فقال: معروف، فقال: على أي دين؟ قال: على ديني الحنيفي. فأسلم أبوه ببركات الرضا (عليه السلام). قال معروف: فعشت زمانا، ثم تركت كلما كنت فيه إلا خدمة مولاي علي بن موسى الرضا (عليه السلام) (13). علمه (عليه السلام): لا بد أن يكون الإمام أعلم الناس وأعرفهم بما تحتاج إليه الأمة من أمور دينها وضروريات حياتها، ولا بد أن يكون أعبدهم وأزهدهم، وأكملهم في أخلاقه وشيمه وجميع صفات الفضيلة ومكارم الأخلاق، والمتتبع لتأريخ الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، والباحث في سلوكهم وسيرتهم لا بد أن ينتهي إلى أنهم (عليهم السلام) كانوا أعلم أهل زمانهم وأعبدهم وأتقاهم وأزهدهم وأوسطهم نسبا وأعلمهم بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيرته. وقد عرضنا بعض الجوانب من صفات وفضائل الأئمة السبعة (عليهم السلام): وخصائصهم، وسنتابع الحديث هنا عن الإمام الثامن (عليه السلام)

ماروي في علمه :
فقد روى لنا المؤرخون والمحدثون الكثير من مواقفه العلمية ومحاوراته الفكرية التي انتصر بها على خصوم الرسالة، ورووا عنه الكثير من شتى فنون المعرفة التي كان يمد بها رواد العلم ورجالات الفكر، وفيما يلي نبذة من أقوال المحدثين والمؤرخين في علم الرضا (عليه السلام):
عن إبراهيم بن العباس الصولي، أنه قال: ما رأيت الرضا (عليه السلام) سئل عن شيء إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقته وعصره، وإن المأمون كان يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب عنه، وإن جوابه كله كان انتزاعات من القرآن (14).
وروى الشيخ الطبرسي، عن أبي الصلت الهروي، أنه قال: ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له من علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين، فغلبهم عن آخرهم حتى ما بقي أحد منهم إلا أقر له بالفضل، وأقر على نفسه بالقصور. ولقد سمعت علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يقول: كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة، أشاروا إلي بأجمعهم، وبعثوا إلي بالمسائل فأجيب عنها. قال أبو الصلت: ولقد حدثني محمد بن إسحاق بن موسى بن جعفر، عن أبيه، أن موسى بن جعفر (عليهما السلام) كان يقول لبنيه: هذا أخوكم علي بن موسى الرضا، عالم آل محمد، فاسألوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم، فإني سمعت أبي جعفر بن محمد (عليهما السلام) غير مرة يقول لي: إن عالم آل محمد لفي صلبك، وليتني أدركته، فإنه سمي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) (15).
وروى ابن شهرآشوب عن كتاب (الجلاء والشفاء)، قال: قال محمد بن عيسى اليقطيني: لما اختلف الناس في أمر أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، جمعت من مسائله مما سئل عنه وأجاب عليه ثمانية عشر ألف مسألة. وأضاف إلى ذلك: وقد روى عنه جماعة من المصنفين، منهم أبو بكر الخطيب في تأريخه، والثعلبي في تفسيره، والسمعاني في رسالته، وابن المعتز في كتابه وغيرهم (16).
وروى الشيخ في كتاب (الغيبة) عن الحميري، عن محمد بن عيسى اليقطيني مثله، إلا أنه قال: خمسة عشر ألف مسألة (17).
وفي (المناقب): ذكر أبو جعفر القمي أن المأمون جمع علماء سائر الملل، مثل الجاثليق، ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئين، منهم: عمران الصابي، والهربذ الأكبر، وأصحاب زرادشت، ونسطاس الرومي، والمتكلمين منهم سليمان المروزي، ثم أحضر الرضا (عليه السلام) فسألوه، فقطع الرضا (عليه السلام) واحدا بعد واحد. وكان المأمون أعلم خلفاء بني العباس، وهو مع ذلك كله انقاد له اضطرارا حتى جعله ولي عهده وزوجه ابنته (18).
وقال ابن الجوزي في (التذكرة) والحاكم في (تأريخ نيسابور): كان أي الإمام (عليه السلام) يفتي في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو ابن نيف وعشرين سنة (19).
وعن رجاء بن أبي الضحاك، وكان بعثه المأمون لإشخاص الرضا (عليه السلام)، قال: كان لا ينزل بلدا إلا قصده الناس يستفتونه في معالم دينهم فيجيبهم، ويحدثهم الكثير عن أبيه، عن آبائه، عن علي (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما وردت به على المأمون سألني عن حاله في طريقه، فأخبرته بما شاهدت منه في ليله ونهاره، وظعنه وإقامته، فقال: بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم (20).
وقال الشيخ الصدوق (رحمه الله): كان المأمون يجلب على الرضا (عليه السلام) من متكلمي الفرق وأهل الأهواء المضلة كل من سمع به، حرصا على انقطاع الرضا (عليه السلام) عن الحجة مع واحد منهم، وذلك حسدا منه له ولمنزلته من العلم، فكان لا يكلمه أحد إلا أقر له بالفضل، وألزم الحجة له عليه (21).
وجاء في (عيون أخبار الرضا عليه السلام) بعد حوار جرى للإمام الرضا (عليه السلام) مع المأمون، قال علي بن الجهم: فقام المأمون إلى الصلاة وأخذ بيد محمد بن جعفر، وكان قد حضر الحوار، فقال له: كيف رأيت ابن أخيك؟ فقال: عالم، ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم! فقال له المأمون: إن ابن أخيك هذا من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) الذين قال فيهم: ألا إن أبرار عترتي وأطائب أرومتي، أحلم الناس صغارا، وأعلمهم كبارا، لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، ولا يخرجونكم من باب هدى، ولا يدخلونكم في باب ضلال (22).
وعن عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إني سألت أباك عن مسألة، أريد أن أسألك عنها. قال: وعن أي شيء تسأل؟ قال: قلت له: عندك علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكتبه، وعلم الأوصياء وكتبهم؟ قال: فقال: نعم، وأكثر من ذلك، سل عما بدا لك... (23).
وعن أحمد بن محمد بن إسحاق الطالقاني، قال: حدثني أبي، قال: حلف رجل بخراسان بالطلاق أن معاوية ليس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيام كان الرضا (عليه السلام) بها، فأفتى الفقهاء بطلاقها، فسئل الرضا (عليه السلام) فأفتى: أنها لا تطلق، فكتب الفقهاء رقعة، وأنفذوها إليه، وقالوا له: من أين قلت يا بن رسول الله أنها لم تطلق؟ فوقع (عليه السلام) في رقعتهم: قلت هذا من روايتكم، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لمسلمة يوم الفتح، وقد كثروا عليه: أنتم خير، وأصحابي خير، ولا هجرة بعد الفتح، فأبطل الهجرة، ولم يجعل هؤلاء أصحابا له. قال: فرجعوا إلى قوله (عليه السلام) (24).

عبادته وتقواه (عليه السلام):
عن إبراهيم بن العباس الصولي، قال: كان (عليه السلام) قليل النوم بالليل، كثير السهر، يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح، وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر [وهي الخميس من أول كل شهر، وآخره، والأربعاء من وسط الشهر] ويقول: ذلك صوم الدهر (25).
وعنه، أنه قال: كان يختم القرآن في كل ثلاث، وكان يقول: لو أني أردت أن أختمه في أقرب من ثلاث لختمت، ولكنني ما مررت بآية قط إلا فكرت فيها، وفي أي شيء أنزلت، وفي أي وقت، فلذلك صرت أختم في كل ثلاثة أيام (26).
وعن رجاء بن أبي الضحاك، وكان بعثه المأمون لإشخاص الرضا (عليه السلام) قال: والله ما رأيت رجلا كان أتقى لله منه، ولا أكثر ذكرا له في جميع أوقاته منه، ولا أشد خوفا لله عز وجل منه. وكان إذا أصبح صلى الغداة، فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله، ويصلي على النبي (صلى الله عليه وآله)، حتى تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة يبقى فيها حتى يتعالى النهار، ثم أقبل على الناس يحدثهم ويعظهم إلى قرب الزوال، ثم جدد وضوءه وعاد إلى مصلاه. فإذا زالت الشمس قام وصلى ست ركعات، يقرأ في الركعة الأولى (الحمد) و(قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (الحمد) و(قل هو الله أحد)، ويقرأ في الأربع في كل ركعة (الحمد لله) و(قل هو الله أحد) ويسلم في كل ركعتين، ويقنت فيهما في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة. ثم يؤذن، ثم يصلي ركعتين، ثم يقيم ويصلي الظهر. فإذا سلم سبح الله وحمده وكبره وهلله ما شاء الله، ثم سجد سجدة الشكر، يقول فيها مائة مرة: (شكرا لله)، فإذا رفع رأسه قام فصلى ست ركعات، يقرأ في كل ركعة (الحمد لله) و(قل هو الله أحد) ويسلم في كل ركعتين ويقنت في الثانية كل ركعتين قبل الركوع وبعد القراءة، ثم يؤذن ثم يصلي ركعتين، ويقنت في الثانية، فإذا سلم أقام وصلى العصر، فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ما شاء الله، ثم يسجد سجدة يقول فيها مائة مرة (حمدا لله). فإذا غابت الشمس توضأ وصلى المغرب ثلاثا بأذان وإقامة، وقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة، فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ما شاء الله، ثم يسجد سجدة الشكر، ثم يرفع رأسه ولم يتكلم حتى يقوم ويصلي أربع ركعات بتسليمتين، ويقنت في كل ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة، وكان يقرأ في الأولى من هذه الأربع (الحمد، وقل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (الحمد، وقل هو الله أحد) ويقرأ في الركعتين الباقيتين (الحمد، وقل هو الله أحد). ثم يجلس بعد التسليم في التعقيب ما شاء الله حتى يمسي ثم يفطر، ثم يلبث حتى يمضي من الليل قريب من الثلث، ثم يقوم فيصلي العشاء الآخرة أربع ركعات، ويقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة، فإذا سلم جلس في مصلاه يذكر الله عز وجل، يسبحه ويحمده ويكبره ويهلله ما شاء الله، ويسجد بعد التعقيب سجدة الشكر، ثم يأوي إلى فراشه. فإذا كان الثلث الأخير من الليل، قام من فراشه بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار، فاستاك ثم توضأ، ثم قام إلى صلاة الليل، فصلى ثمان ركعات، ويسلم في كل ركعتين، يقرأ في الأوليتين منها في كل ركعة (الحمد) مرة و(قل هو الله أحد) ثلاثين مرة. ثم يصلي صلاة جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) أربع ركعات، يسلم في كل ركعتين، ويقنت في كل ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد التسبيح، ويحتسب بها من صلاة الليل، ثم يقوم فيصلي الركعتين الباقيتين، يقرأ في الأولى (الحمد) و(سورة الملك)، وفي الثانية (الحمد) و(هل أتى على الإنسان). ثم يقوم فيصلي ركعتي الشفع، يقرأ في كل ركعة منها (الحمد) مرة و(قل هو الله أحد) ثلاث مرات، ويقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة، فإذا سلم قام فصلى ركعة الوتر، يتوجه فيها ويقرأ فيها (الحمد) و(قل هو الله أحد) ثلاث مرات و(قل أعوذ برب الفلق) مرة واحدة و(قل أعوذ برب الناس) مرة واحدة، ويقنت فيها قبل الركوع وبعد القراءة. ويقول في قنوته: اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت .ثم يقول: أستغفر الله وأسأله التوبة سبعين مرة، فإذا سلم جلس في العقيب ما شاء الله، فإذا قرب الفجر قام فصلى ركعتي الفجر يقرأ في الأولى (الحمد) و(قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (الحمد) و(قل هو الله أحد)، فإذا طلع الفجر أذن وأقام وصلى الغداة ركعتين، فإذا سلم جلس في التعقيب حتى تطلع الشمس، ثم سجد سجدتي الشكر حتى يتعالى النهار. وكانت قراءته في جميع المفروضات في الأولى (الحمد) و(إنا أنزلناه) وفي الثانية (الحمد) و(قل هو الله أحد) إلا في صلاة الغداة والظهر والعصر يوم الجمعة، فإنه كان يقرأ فيها ب‍- (الحمد وسورة الجمعة، والمنافقين). وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة في الأولى (الحمد) و(سورة الجمعة)، وفي الثانية (الحمد) و(سبح اسم ربك الأعلى)، وكان يقرأ في صلاة الغداة يوم الاثنين والخميس في الأولى (الحمد) و(هل أتى على الإنسان) وفي الثانية (الحمد) و(هل أتاك حديث الغاشية). وكان يجهر بالقراءة في المغرب والعشاء الآخرة وصلاة الليل والشفع والوتر والغداة، ويخفي القراءة في الظهر والعصر. وكان يسبح في الأخراوين ويقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر) ثلاث مرات، وكان قنوته في جميع صلواته: رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأجل الأكرم . وكان إذا أقام في بلدة عشرة أيام صائما لا يفطر، فإذا جن الليل بدأ بالصلاة قبل الإفطار. وكان في الطريق يصلي فرائضه ركعتين ركعتين، إلا في المغرب فإنه كان يصليها ثلاثا، ولا يدع نافلتها، ولا يدع صلاة الليل والشفع والوتر وركعتي الفجرفي سفر ولا حضر، وكان لا يصلي من نوافل النهار في السفر شيئا. وكان يقول بعد كل صلاة يقصرها: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) ثلاثين مرة، ويقول: هذا لتمام الصلاة. وما رأيته صلى الضحى في سفر ولا حضر، وكان لا يصوم في السفر شيئا، وكان (عليه السلام) يبدأ في دعائه بالصلاة على محمد وآله، ويكثر من ذلك في الصلاة وغيرها، وكان يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن، فإذا مر بآية فيها ذكر جنة أو نار، بكى وسأل الله الجنة، وتعوذ به من النار. وكان (عليه السلام) يجهر ب‍- (بسم الله الرحمن الرحيم) في جميع صلواته بالليل والنهار، وكان إذا قرأ (قل هو الله أحد) قال سرا: (الله أحد) فإذا فرغ منها قال: (كذلك الله ربنا) ثلاثا، وكان إذا قرأ سورة الجحد قال في نفسه سرا: (يا أيها الكافرون) فإذا فرغ منها قال: (ربي الله، وديني الإسلام) ثلاثا، وكان إذا قرأ (والتين والزيتون) قال عند الفراغ منها: (بلى وأنا على ذلك من الشاهدين) وكان إذا قرأ (لا أقسم بيوم القيامة) قال عند الفراغ منها: (سبحانك اللهم بلى). وكان يقرأ في سورة الجمعة: *(... قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة)* للذين اتقوا *(والله خير الرازقين)*(27). وكان إذا فرغ من الفاتحة قال: (الحمد لله رب العالمين)، وإذا قرأ (سبح اسم ربك الأعلى) قال سرا: (سبحان ربي الأعلى)، وإذا قرأ (يا أيها الذين آمنوا) قال: (لبيك اللهم لبيك) سرا. وكان (عليه السلام) لا ينزل بلدا إلا قصده الناس يستفتونه في معالم دينهم، فيجيبهم ويحدثهم الكثير عن أبيه، عن آبائه، عن علي (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). فلما وردت به على المأمون، سألني عن حاله في طريقه، فأخبرته بما شاهدت منه في ليله ونهاره، وظعنه وإقامته. فقال: بلى، يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم وأعبدهم، فلا تخبر أحدا بما شاهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني، وبالله أستعين على ما أقوى من الرفع منه والإساءة به (28).
وروى الشيخ الصدوق في (عيون الأخبار) عن الحاكم أبي علي البيهقي، عن محمد بن يحيى الصولي، أنه قال: حدثتني جدتي أم أبي، واسمها (عذر)، قالت: اشتريت مع عدة جوار من الكوفة، وكنت من مولداتها، قالت: فحملنا إلى المأمون، فكنا في داره في جنة من الأكل والشرب والطيب وكثرة الدنانير، فوهبني المأمون للرضا (عليه السلام). قال الصولي: وما رأيت امرأة قط أتم من جدتي هذه عقلا، ولا أسخى كفا، وتوفيت سنة سبعين ومائتين ولها نحو مائة سنة، وكانت تسأل عن أمر الرضا (عليه السلام) كثيرا فتقول: ما أذكر منه شيئا إلا أني كنت أراه يتبخر بالعود الهندي النئ، ويستعمل بعده ماء ورد ومسكا، وكان (عليه السلام) إذا صلى الغداة كان يصليها في أول وقت، ثم يسجد فلا يرفع رأسه إلى أن ترتفع الشمس، ثم يقوم فيجلس للناس أو يركب، ولم يكن أحد يقدر أن يرفع صوته في داره كائنا من كان، إنما كان يتكلم الناس قليلا قليلا.
وروى الشيخ الصدوق بإسناده عن معمر بن خلاد، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: كان وهو بخراسان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه إلى أن تطلع الشمس، ثم يؤتى بخريطة (الخريطة: وعاء من جلد أو نحوه يشد على ما فيه) فيها مساويك، فيستاك بها واحدا بعد واحد، ثم يؤتى بكندر فيمضغه، ثم يدع ذلك، فيؤتى بالمصحف فيقرأ فيه.
وفي (الإتحاف)، قال: كان الرضا (عليه السلام) صاحب وضوء وصلاة ليله كله، يتوضأ ويصلي ويرقد، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ويرقد، وهكذا إلى الصباح. قال بعض جماعته: ما رأيته قط إلا ذكرت قوله تعالى: *(كانوا قليلا من الليل ما يهجعون)*(29).
وعن الوشاء، قال: دخلت على الرضا (عليه السلام) وبين يديه إبريق يريد أن يتهيأ منه للصلاة، فدنوت لأصب عليه، فأبى ذلك، وقال: مه يا حسن، فقلت له: لم تنهاني أن أصب على يديك، تكره أن أوجر؟
قال: تؤجر أنت، وأوزر أنا. فقلت له: وكيف ذلك؟ فقال: أما سمعت الله عز وجل يقول: *(فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)* ، وها أنذا أتوضأ للصلاة، وهي العبادة، فأكره أن يشركني فيها أحد. عطاؤه وبره (عليه السلام): روى الكليني (رحمه الله) بإسناده عن البزنطي، عن الرضا (عليه السلام)، أنه قال: إن صاحب النعمة على خطر، إنه يجب عليه حقوق الله فيها، والله إنه لتكون علي النعم من الله عز وجل، فما أزال منها على وجل حتى أخرج من الحقوق التي تجب لله علي فيها. قلت: جعلت فداك، أنت في قدرك تخاف هذا؟ قال: نعم، فأحمد ربي على ما من به علي. وظاهر من هذا الحديث أن أسلوب الإمام (عليه السلام) في العطاء لا ينطلق من زاوية العطف على المساكين والمعذبين ومن أصالة الخير التي انطوت عليها نفسه فحسب، وإنما كان يرى أن ذلك شكر للمعروف الذي حباه الله به، لأن صاحب النعمة بنظره في خطر محدق به حتى يخرج من الحقوق التي هي لله فيما أنعم به عليه. وفيما يلي نماذج مختارة من جوده وكرمه وعطائه(30)

في جوده وكرمه
ذكر أنه وفد عليه من الشعراء إبراهيم بن العباس الصولي، فوهب له عشرة آلاف من الدراهم التي ضربت باسمه، وأجاز أبا نواس بثلاثمائة دينار لم يكن عنده غيرها، وساق إليه البغلة ، وأجاز دعبلا الخزاعي بستمائة دينار واعتذر إليه (31). روى الشيخ الكليني، عن اليسع بن حمزة القمي، أنه قال: كنت أنا في مجلس أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أحدثه، وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام، إذ دخل عليه رجل طوال آدم (الطوال: الطويل، والآدم: الأسمر)، فقال له: السلام عليك يا ابن رسول الله، رجل من محبيك ومحبي آبائك وأجدادك (عليهم السلام)، مصدري من الحج، وقد افتقدت نفقتي، وما معي ما أبلغ به مرحلة، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي، ولله علي نعمة، فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك، فلست موضع صدقة. فقال له (عليه السلام): اجلس رحمك الله، وأقبل على الناس يحدثهم حتى تفرقوا، وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا، فقال: أتأذنون لي في الدخول؟ فقال له سليمان: قدم الله أمرك، فقام فدخل الحجرة وبقي ساعة، ثم خرج ورد الباب، وأخرج يده من أعلى الباب، وقال: أين الخراساني؟ فقال: ها أنا ذا. فقال: خذهذه المائتي دينار، واستعن بها في مؤونتك ونفقتك، وتبرك بها، ولا تصدق بها عني، وأخرج فلا أراك ولا تراني، ثم خرج. فقال له سليمان: جعلت فداك، لقد أجزلت ورحمت، فلماذا سترت وجهك عنه؟ فقال: مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله): المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجة، والمذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بها مغفور له . أما سمعت قول الأول: متى آته يوما لأطلب حاجة * رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه (32) فهو (عليه السلام) يحتجب عن السائل عندما يقدم له العطاء، لكي لا ينظر لذل السؤال في وجهه، ولكي يحتفظ السائل بعزة نفسه حين يستتر عنه المعطي، ويطلب منه أن يخرج دون أن يراه صونا للسائل عن تقديم الامتنان له، وصونا لنفسه من الشعور بالمنة على سائله. وفي (المناقب) عن يعقوب بن إسحاق النوبختي، قال: مر رجل بأبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فقال له: أعطني على قدر مروءتك، قال: لا يسعني ذلك. فقال: على قدر مروءتي، قال: أما هذا فنعم. ثم قال: يا غلام، أعطه مائتي دينار. قال: وفرق (عليه السلام) بخراسان ماله كله في يوم عرفة، فقال له الفضل بن سهل: إن هذا لمغرم، فقال: بل هو المغنم، لا تعدن مغرما ما ابتغيت به أجرا وكرما. فهو (عليه السلام) لا يعتبر العطاء وسيلة لاكتساب ود الآخرين، بل هو صفة حميدة يتقرب بها المرء من ربه ابتغاء الأجر والثواب.
وجاء في (عيون أخبار الرضا عليه السلام) عن البزنطي، أنه قال: قرأت كتاب أبي الحسن الرضا (عليه السلام) إلى ولده أبي جعفر الجواد (عليه السلام)، وفيه: يا أبا جعفر، بلغني أن الموالي إذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير، فإنما ذلك من بخل بهم، لئلا ينال منك أحد خيرا، فأسألك بحقي عليك لا يكن مدخلك ومخرجك إلا من الباب الكبير، وإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضة، ثم لا يسألك أحد إلا أعطيته، ومن سألك من عمومتك أن تبره فلا تعطه أقل من خمسين دينارا، والكثير إليك، ومن سألك من عماتك فلا تعطها أقل من خمسة وعشرين دينارا، والكثير إليك، إني أريد أن يرفعك الله، فأنفق ولا تخش من ذي العرش إقتارا (33). وهذا الكتاب يجسد لنا روح العطاء والكرم المتأصلة في نفوس أهل البيت (عليهم السلام).
عن إبراهيم بن العباس، قال: وكان (عليه السلام) كثير المعروف والصدقة فيالسر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه.
وروى الشيخ الأجل أحمد بن محمد البرقي، عن معمر بن خلاد، أنه قال: كان أبو الحسن الرضا (عليه السلام) إذا أكل أتي بصحفة، فتوضع قرب مائدته، فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به، فيأخذ من كل شيء شيئا، فيوضع في تلك الصحفة، ثم يأمر بها للمساكين، ثم يتلو هذه الآية: *(فلا اقتحم العقبة)* ، ثم يقول (عليه السلام): علم الله تعالى أن ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة، فجعل لهم السبيل إلى الجنة بإطعام الطعام. فالإمام (عليه السلام) يشعر بوطأة الحرمان والبؤس اللذان يعاني منهما الفقراء والمساكين، فيشاركهم بالطيب من طعامه، استجابة لنداء البر والعاطفة، وانسجاما مع روح الرسالة التي حمله الله مسؤوليتها. وفي (الإتحاف): يقال: إن عليا الرضا (عليه السلام) أعتق ألف مملوك (34).

تواضعه وزهده (عليه السلام):
روى الشيخ الصدوق عن إبراهيم بن العباس، أنه قال: كان (عليه السلام) إذا خلا ونصبت مائدته، أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه حتى البواب والسائس... ومن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه. وعن ياسر الخادم: كان الرضا (عليه السلام) إذا خلا جمع حشمه كلهم عنده الصغير والكبير، فيحدثهم ويأنس بهم ويؤنسهم، فكان (عليه السلام) إذا جلس على المائدة لا يدع صغيرا ولا كبيرا حتى السائس والحجام إلا أقعده معه على مائدته. وهكذا يعطي إمامنا (عليه السلام) درسا في السيرة الإنسانية الفاضلة التي تؤمن بكرامة الإنسان، ويعرض نظرية الإسلام عمليا، فقد قال تعالى: *(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)*(35). وقال الرسول (صلى الله عليه وآله): كلكم من آدم وآدم من تراب ، وقال (صلى الله عليه وآله): لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى . وروى الكليني في (الكافي) بسنده عن عبد الله بن الصلت، عن رجل من أهل بلخ، قال: كنت مع الرضا (عليه السلام) في سفره إلى خراسان، فدعا يوما بمائدة له،فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقال له بعض أصحابه: جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة. فقال (عليه السلام): إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال. فلا يرى الإمام (عليه السلام) فارقا بينه وبين مماليكه وعبيده إلا في العمل، وفيما عداه تلغى الفروق عندما يتعلق الأمر بالحقوق العامة التي يتساوى بها الأسود والأبيض، فكل مخلوق لله، وكل من آدم، وآدم من تراب . وروي عن محمد بن أبي عباد، أنه قال: كان جلوس الرضا (عليه السلام) في الصيف على حصير، وفي الشتاء على مسح (المسح: البساط من شعر)، ولبسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزين لهم (36). فهو حين يخلو لنفسه ويبتعد عن واقع الحياة العامة، تنسجم روحه مع طبيعة الرفض للزيف، المتمثل في بهارج هذه الدنيا وزينتها، أما حين يبرز للناس فإنه يتزين لهم، انسجاما مع ما فطروا عليه من الاهتمام بمظاهر هذه الدنيا والتمتع بطيباتها. ولا شك أن مفهوم الزهد عندهم (عليهم السلام) لا يتحدد باللباس الخشن المتواضع،
والمأكل الجشب البسيط وحسب، بل إن حدوده تمتد إلى أبعد من ذلك، فالزاهد من لا يسمح لمتع الدنيا أن تتحكم في نفسه من دون أن يكون له قوة السيطرة عليها، والذي لا تمثل الدنيا عنده غاية يسعى إليها، فإن هي أقبلت فللمؤمن أن يتمتع بطيباتها، وإن هي أدبرت فما عند الله أبقى. قال الآبي في (نثر الدر): دخل على الرضا بخراسان قوم من الصوفية، فقالوا له: إن أمير المؤمنين نظر فيما ولاه تعالى من الأمر، فرآكم أهل البيت أولى الناس بأن تقوموا الناس، ونظر فيكم أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس، فرأى أن يرد هذا الأمر إليك، والأمة تحتاج إلى من يلبس الخشن، ويأكل الجشب، ويركب الحمار، ويعود المريض. قال: وكان الرضا متكئا، فاستوى جالسا، ثم قال: كان يوسف (عليه السلام) نبيا يلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب، ويجلس على متكئات آل فرعون، ويحكم، إنما يراد من الإمام قسطه وعدله، إذا قال صدق، وإذا حكم عدل، وإذا وعد أنجز، إن الله لم يحرم ملبوسا ولا مطعما، وتلا قوله تعالى: *(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)*(37). وقيل للإمام الجواد (عليه السلام): ما تقول في المسك؟ فقال (عليه السلام): إن أبي أمر فعمل له مسك في بان بسبعمائة درهم، فكتب له الفضل بن سهل يخبره: إن الناس يعيبون ذلك. فكتب إليه: يا فضل، أما علمت أن يوسف وهو نبي، كان يلبس الديباج مزررا بالذهب، ويجلس على كراسي الذهب، فلم ينقص ذلك من حكمته شيئا.
قال: ثم أمر فعملت له غالية بأربعة آلاف درهم. وبذلك يثبت الإمام (عليه السلام) أن المظهر الخارجي ليس مصداقا للزهد، بل قد يكون مجرد رياء يحاول الإنسان من خلاله أن يلفت به لنفسه انتباه الآخرين، ولهذا لا يرى (عليه السلام) وكذلك غيره من الأئمة (عليهم السلام) لا يرون بأسا في الظهور بمظهر الترف باللباس والمأكل، ما دام ذلك لا يصطدم مع واقع الزهد الذي هو بناء النفس من الداخل على رفض الدنيا وفتنتها، باعتبارها عرض زائل لا بقاء له، وهذا لا يمنع من أن ينال المؤمن من طيباتها بالوجه الذي أحله الله تعالى، ولم يخلق الله تعالى الطيبات في الدنيا لينعم بها الكافر، ويحرم منها المؤمن، بل المؤمن أولى بنعم الله، عندما يهب نفسه لله ويبذلها في سبيله.
قال ابن شهرآشوب: ولقيه سفيان الثوري في ثوب خز، فقال: يا بن رسول الله، لو لبست ثوبا أدنى من هذا؟ فقال: هات يدك، فأخذ بيده وأدخلها كمه، فإذا تحت ذلك مسح (المسح: ما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشفا وقهرا للجسد)، فقال: يا سفيان، الخز للخلق، والمسح للحق. وقال ابن شهرآشوب: دخل الرضا (عليه السلام) الحمام، فقال له بعض الناس: دلكني يا رجل، فجعل يدلكه فعرفوه، فجعل الرجل يعتذر منه، وهو يطيب قلبه ويدلكه (38).
وفي (نور الأبصار) قال: دخل (عليه السلام) يوما حماما، فبينما هو في مكان من الحمام، إذ دخل عليه جندي، فأزاله عن موضعه، وقال: صب على رأسي يا أسود، فصب على رأسه، فدخل من عرفه، فصاح: يا جندي، هلكت، أتستخدم ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟! فأقبل الجندي يقبل رجليه ويقول: هلا عصيتني إذ أمرتك؟ فقال: إنها لمثوبة، وما أردت أن أعصيك فيما أثاب عليه. وفي (الإتحاف): كان له بنيسابور على باب داره حمام، وكان إذا دخل الحمام فرغ له الحمام، فدخل ذات يوم، فأطبق باب الحمام، ومر الحمامي إلى قضاء بعض حوائجه، فتقدم إنسان رستاقي إلى باب الحمام، ودخل ونزع ثيابه، فدخل الحمام، فرأى علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فظن أنه بعض خدام الحمام، فقال له: قم فاحمل إلي الماء، فقام علي بن موسى (عليه السلام) وامتثل جميع ما كان يأمره (39). وكان (عليه السلام) متواضعا في بيته، وتصور لنا إحدى الجواري طبيعة الزهد والعبادة البعيدة عن حياة الترف وقصور ذلك العصر، فتقول: اشتريت مع عدة جوار من الكوفة، وكنت من مولداتها، قالت: فحملنا إلى المأمون، فكنا في داره في جنة من الأكل والشرب والطيب وكثرة الدنانير، فوهبني المأمون للرضا (عليه السلام)،فلما صرت في داره، فقدت جميع ما كنت فيه من النعيم، وكانت علينا قيمة تنبهنا في الليل، وتأخذنا بالصلاة، وكان ذلك من أشد شيء علينا (40).

حلمه (عليه السلام):
يكفي مثالا على حلمه (عليه السلام) تشفعه إلى المأمون في الجلودي، الذي كان ذهب إلى المدينة بأمر الرشيد ليسلب نساء آل أبي طالب، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوبا واحدا، ونقم بيعة الرضا (عليه السلام)، فحبسه المأمون، ثم دعا به من الحبس بعدما قتل اثنين قبله، فقال الرضا (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، هب لي هذا الشيخ، فظن الجلودي أنه يعين عليه، فأقسم على المأمون أن لا يقبل قوله فيه. فقال: والله لا أقبل قوله فيك، وأمر بضرب عنقه. وسيأتي ذلك مفصلا في الفصل الخاص بمواقفه (عليه السلام) من السلطة.
وتنص المرويات أن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) قد أوصى إلى ولده الإمام الرضا (عليه السلام) وجعل له الولاية من بعده، ولم يجعل لأبنائه الآخرين شيئا وكتب بذلك كتابا وختمه، ولعن من يفضه، بعد أن أشهد عليه جملة من أهل بيته وأصحابه، وقد نازعه إخوته في وصية أبيه إليه، وظنوا أن في الكتاب الذي كتبه مالا حباه به دونهم. وجاء في (الكافي) بسنده إلى يزيد بن سليط، أنه قال: كان أبو عمران الطلحي قاضي المدينة، فلما مضى موسى بن جعفر (عليه السلام)، جاء إخوة الإمام الرضا (عليه السلام) وقدموه إلى الطلحي القاضي، وقال العباس بن موسى للقاضي: أصلحك الله، وأمتع بك، إن في أسفل هذا الكتاب كنزا وجوهرا، وهو يريد أن يحتجبه ويأخذه دوننا، ولم يدع أبونا (رحمه الله) شيئا إلا ألجأه إليه وتركنا عالة، ولولا أني أكف نفسي لأخبرتك على رؤوس الملأ. ووثب إليه إبراهيم بن محمد، وكان من شهود الوصية، فقال له: إذا والله تخبر بما لا نقبله منك، ولا نصدقك عليه، ثم تكون عندنا ملوما مدحورا، نعرفك بالكذب صغيرا وكبيرا، وكان أبوك أعرف بك، لو كان فيك خير، وما كان ليأمنك على تمرتين. ووثب إليه إسحاق بن جعفر عمه، فأخذ بتلابيبه، وقال له: إنك لسفيه ضعيف أحمق، أجمع هذا مع ما كان بالأمس منك، وأعانه القوم أجمعون. فقال القاضي أبو عمران لعلي الرضا (عليه السلام): قم يا أبا الحسن، حسبي ما لعنني أبوك اليوم، وقد وسع لك أبوك، ولا والله ما أحد أعرف بالولد من والده، وما كان أبوك بمستخف في عقله وضعيف في رأيه. وقال العباس بن موسى بن جعفر (عليه السلام) للقاضي: أصلحك الله، فض الخاتم واقرأ ما تحته. فقال أبو عمران: لا أفضه، حسبي ما لعنني أبوك اليوم. فقال العباس: فأنا أفضه. فقال: ذاك إليك. ففض العباس الخاتم، فإذا فيه إخراجهم وإقرار علي (عليه السلام) بها وحده، وإدخاله إبراهيم في ولاية علي (عليه السلام) إن أحبوا أو كرهوا، وإخراجهم من حد الصدقة وغيرها، وكان فتحه عليهم بلاء وفضيحة وذلة، ولعلي (عليه السلام) خيرة... وكان في الوصية التي فض العباس تحت الخاتم: هؤلاء الشهود إبراهيم بن محمد، وإسحاق بن جعفر، وجعفر بن صالح، وسعيد بن عمران. وأبرزوا وجه أم أحمد في مجلس القاضي، وادعوا أنها ليست إياها، حتى كشفوا عنها وعرفوها. فقالت عند ذلك: قد والله قال سيدي هذا: إنك ستؤخذين جبرا، وتخرجين إلى المجالس. فزجرها إسحاق بن جعفر، وقال: اسكتي، فإن النساء إلى الضعف، ما أظنه قال من هذا شيئا. ثم إن عليا (عليه السلام) التفت إلى العباس فقال: يا أخي، أنا أعلم أنه إنما حملكم على هذا الغرائم والديون التي عليكم، فانطلق يا سعيد فتعين لي ما عليهم، ثم اقض عنهم ديونهم، واقبض زكاة حقوقهم، وخذ لهم البراءة، ولا والله ما أدع مواساتكم وبركم ما مشيت على الأرض، فقولوا ما شئتم. فقال العباس: ما تعطينا إلا من فضول أموالنا، وما لنا عندك أكثر. فقال (عليه السلام): قولوا ما شئتم، فالعرض عرضكم، فإن تحسنوا فذاك لكم عند الله، وإن تسيئوا فإن الله غفور رحيم، والله إنكم تعرفون بأنه ما لي يومي هذا ولد ولا وارث غيركم، فلئن حبست شيئا مما تظنون أو ادخرته، فإنما هو لكم ومرجعه إليكم، والله ما ملكت منذ مضى أبوك (عليه السلام) شيئا إلا وقد سيبته حيث رأيتم. فوثب العباس فقال: والله ما هو كذلك، ولا جعل الله لك من رأي علينا، ولكن حسد أبينا لنا، وإرادته ما أراد، مما لا يسوغه الله إياه ولا إياك، وإنك لتعرف أني أعرف صفوان بن يحيى بياع السابري بالكوفة، ولئن سلمت لأغصصنه بريقه وأنت معه. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أما إني - يا إخوتي - فحريص على مسرتكم، الله يعلم، اللهم إن كنت تعلم أني أحب صلاحهم، وأني بار بهم، واصل لهم، رفيق عليهم، أعني بأمورهم ليلا ونهارا، فأجزني به خيرا، وإن كنت على غير ذلك فأنت علام الغيوب، فأجزني به ما أنا أهله، إن كان شرا فشرا، وإن كان خيرا فخيرا، اللهم أصلحهم وأصلح لهم واخسأ عنا وعنهم شر الشيطان، وأعنهم على طاعتك، ووفقهم لرشدك، أما أنا يا أخي فحريص على مسرتكم، جاهد في صلاحكم، والله على ما نقول وكيل. فقال العباس: ما أعرفني بلسانك! وليس لمسحاتك عندي طين، فافترق القوم على هذا (41). وهكذا يحافظ الإمام (عليه السلام) على اتزانه وحلمه ورفقه مع إخوته، رغم أن أخاه العباس قد تعدى طور اللياقة في مواجهته لأخيه وفي تجنيه على أبيه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) باتهامه له بالحسد والحيف عليهم، وبقي الإمام الرضا (عليه السلام) ملتزما بموقفه الحليم الهادئ والمتسامح أمام التعدي غير المقبول، فلم تستفزه حماقة أخيه، ولم تخرجه عن حد التوازن، ولم ينفرد الإمام الرضا (عليه السلام) بهذا الموقف، بل هو منطلق آبائه (عليهم السلام) في الحلم والتسامح عندما يواجهون التحديات من قبل الآخرين.
وروى العياشي عن صفوان، قال: استأذنت لمحمد بن خالد على الرضا (عليه السلام)، وأخبرته أنه ليس يقول بهذا القول، وأنه قال: والله لا أريد بلقائه إلا لأنتهي إلى قوله. فقال: أدخله. فدخل فقال له: جعلت فداك، إنه كان فرط مني شيء، وأسرفت على نفسي، وكان فيما يزعمون أنه كان يعيبه، فقال: وأنا أستغفر الله مما كان مني، فأحب أن تقبل عذري، وتغفر لي ما كان مني. فقال: نعم أقبل، إن لم أقبل، كان إبطال ما يقول هذا وأصحابه - وأشار إلي بيده - ومصداق ما يقول الآخرون - يعني المخالفين - قال الله لنبيه عليه وآله السلام: *(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر)*(42)، ثم سأله عن أبيه، فأخبره أنه قد مضى، واستغفر له (43).
المصادر :
1- المناقب 4: 362.
2- العوالم 22: 333، البحار 49: 211
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 184 / 7، بحار الأنوار 49: 90 / 4، العوالم 22: 174 / 3، إعلام الورى: 327.
4- الكافي 6: 283 / 2، بحار الأنوار 49: 102 / 20، حلية الأبرار 2: 367
5- الكافي 6: 298 / 10، بحار الأنوار 49: 102 / 22، العوالم 22: 175 / 5، المحاسن 2: 423 / 214
6- الكافي 5: 288 / 1، بحار الأنوار 49: 106 / 34، العوالم 22: 211 / 6. الكافي 6: 297 / 8
7- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 183 و184،و236 بحار الأنوار 49: 170 / 7
8- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 237 / 11، بحار الأنوار 49: 95 / 9، حلية الأبرار 2: 367
9- قرب الإسناد: 377 / 1333، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 212 / 19، بحار الأنوار 49: 269 / 10
10- الشورى: 30
11- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام): 312 / 159، العوالم 22: 177 / 1
12- وفيات الأعيان 3: 271، سير أعلام النبلاء 9: 392، العوالم 22: 388
13- المناقب 4: 361
14- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 180 / 4، بحار الأنوار 49: 90 / 3، العوالم 22: 179 / 3
15- إعلام الورى: 328، بحار الأنوار 49: 100 / 17، العوالم 22: 179 / 1 و2
16- المناقب 4: 351، بحار الأنوار 49: 99 / 14
17- الغيبة للشيخ الطوسي: 48، بحار الأنوار 49: 97 / 10، العوالم 22: 180 / 4
18- المناقب 4: 351
19- تذكرة الخواص: 361، العوالم: 183 / 5
20- العوالم 22: 172، بحار الأنوار 49: 95
21- بحار الأنوار 10: 341، عن التوحيد وعيون أخبار الرضا (عليه السلام).
22- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 195، بحار الأنوار 49: 179 / 15، العوالم 22: 292
23- بصائر الدرجات: 511 / 19، مختصر بصائر الدرجات: 62، بحار الأنوار 26: 176 / 54
24- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 87 / 34، بحار الأنوار 19: 89 / 44
25- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 184 / 7، بحار الأنوار 49: 90 / 4، العوالم 22: 174 / 3، إعلام الورى: 327
26- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 180 / 4، بحار الأنوار 49: 90 / 3، العوالم 22: 179 / 3
27- الجمعة: 11
28- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 180 / 5، بحار الأنوار 49: 91 / 7، العوالم 22: 168 / 1
29- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 179 / 3، بحار الأنوار 49: 89 / 2، العوالم 22: 173 / 2.
30- الكهف: 110. / الكافي 3: 69 / 1، بحار الأنوار 49: 104 / 30، التهذيب 1: 365 / 37
31- إعلام الورى: 329/330، المناقب 4: 366
32- الكافي 4: 23 / 3، بحار الأنوار 49: 101 / 19، حلية الأبرار 2: 315، المناقب 4: 360
33- المناقب 4: 360 و361. /عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 8 / 20
34- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 184 / 7، بحار الأنوار 49: 90 / 4، العوالم 22: 174 / 3
35- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 184 / 7، بحار الأنوار 49: 90 / 4، العوالم 22: 174 / 3
36- الكافي 8: 230 / 296، بحار الأنوار 49: 101 / 18، العوالم 22: 202 / 1
37- كشف الغمة 3: 100، الفصول المهمة: 251، والآية من سورة الأعراف: 32
38- المناقب 4: 362/363
39- نور الأبصار: 168، إحقاق الحق 12: 353، و19: 558. / إحقاق الحق 12: 354، عن إتحاف السادة المتقين 7: 360
40- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 179 / 3، العوالم 22: 173 / 2. العوالم 22: 361 و362.
41- الكافي 1: 316 - 319، عيون الأخبار 1: 33 - 37، بحار الأنوار 49: 224 - 232 / 17
42- آل عمران: 159
43- تفسير العياشي 1: 203

 


source : .www.rasekhoon.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

قراءة في كتاب (تساؤلات حول النهضة الحسينية)
زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)
رقية بنت الإمام الحسين ( عليهما السلام ) (1)
تأمّلات في حديث الإمام الصادق (ع) لعنوان ...
حِكَمه
مَن هو الإمام الحسين (ع ) ؟
فاطمة بنت أسد ( رضوان الله عليها )
السيد محمد بن الإمام علي ( عليه السلام ) المعروف ...
أيّ إمام لم یذهب لاداء فريضة الج؟
الأدب مع الله تعالى

 
user comment