ولدت عام 1969 م فی ألمانیا بمدینة "برمن"، ونشأت فی أسرة تنتمی فی الظاهر إلى الدیانة المسیحیّة، ولکنّها فی الواقع الخارجیّ وحیاتها الیومیّة کانت بعیدة کلّ البعد عن الالتفات إلى الجانب الدینیّ والمعنویّ.
التربیة الدینیّة الأولى:
تقول "جلیکه": کان أبی ینظر إلى الدین بأنّه مجرّد طقوس عرفیّة، یقوم بها الإنسان مماشاة مع الوضعیّة الاجتماعیّة السائدة، ولهذا أخذنی أبی وأنا صغیرة إلى التعمید، وحینما کنت فی الثانیة عشر من عمری سجّل اسمی فی الصفوف الدینیّة التی کانت تقام فی الکنیسة.
وکان مجموع عددنا فی الصف ثلاثین طالبة، وکنت أنا وستّ عشرون طالبة أخرى لا نستسیغ بعض المفاهیم الدینیّة التی تلقى علینا، منها أنّ المعلّم کان یقول بأنّ الإنسان یولد وتحیط به الخطیئة التی ارتکبها آدم فلابدّ أن یعمّد الطفل لتزول هذه الخطیئة عنه، فکان وجداننا یرفض هذه الفکرة، وکنّا نقول ماذنب هذا الطفل لتلحقه لعنة الربّ نتیجة خطأ آبائه، وما ذنب الطفل الذی لا یعمّده أبواه، أو الطفل الذی یموت قبل التعمید، وبأیّ جرم یحرق هذا الطفل فی نار جهنّم؟!
وکنّا نقول: ألیس الله بأرحم الراحمین، وهو العطوف الرحیم.. فلماذا تنسب إلیه الأفعال التی لا تتلاءم مع هذه الصفات.
کما کنّا لا نستسیغ تناول الخبز والشراب الذی کان یعتبر بمنزلة جسم المسیح ودمه، فکنّا نقول: إنّ هذا التصوّر هو أشبه ما یکون بأفعال الطوائف المتوحّشة. وهکذا کانت تتجمّع الاستفهامات والأسئلة فی أذهاننا من دون أن نجد سبیلاً إلى حلّها حتّى انتهى بنا الأمر إلى جحد الدین المسیحیّ، ورفضه فی العمل، والاستهزاء به، واعتباره مجرّد أفکار بالیة ورثناها من القرون الوسطى.
فلهذا قرّرنا عدم مواصلة الدراسة، وأنا بدوری ألححت على والدی لیفسح لی مجال عدم الذهاب إلى هذه الصفوف، فقبل أبی ذلک، فترکت تلک الصفوف إلى غیر رجعة.
جلیکه ترکائى (زهراء) - ألمانیا - مسیحیة
مرحلة التیه والضیاع:
تقول "جلیکه": وبقیت على هذا المنوال حتّى بلغت الثامنة عشر من العمر، فشعرت حینها بتیه وضیاع، فکنت دوماً أسأل نفسی: لأیّ هدف ولدنا؟ ومن جاء بنا إلى هذه الدنیا؟ وما هو المسار الصحیح الذی لا بدّ أن ننتهجه فی الحیاة.
واستمرّت بی هذه الحالة فترة طویلة حتّى ترکت أثرها السلبی على نفسی فاعترتنی حالة القلق والتوتّر والانهیار وأحسست بضرورة التوجّه إلى مصدر یجیب علن هذه الأسئلة لأتمکّن من إنقاذ نفسی من تأنیب الضمیر ومن الألم الذی یحفّزنی للبحث عن العلاج.
فتوجّهت إلى دراسة الأدیان والمذاهب فطالعت کتب عدیدة حول البروتستانت والبوذیّة والمذاهب الهندیّة، فلم أجد بغیتی فیها، أمّا الإسلام فلم أقترب منه; لأنّنی تأثّرت بالإعلام المضادّ للإسلام، کنت أعتبر الإسلام دین السیف والدم والعنف، ودین تحقیر المرأة وکبت حرّیّاتها، ولهذا لم أجد فی نفسی دافعاً تجاه هذا الدین.
وهکذا بمرور الزمن وبعد الکثیر من بذل الجهد والمطالعة لم استطع الوصول إلى منهج فکریّ یشفی غلیلی، ویخمد نیران اضطرابی، ویهدّىء توتری، ویسکّن آلامی، فلمّا لم أتمکّن من معالجة هذا الداء توجّهت إلى تخدیره، وإزالة أثره باللهو واللعب، والالتجاء إلى ماینسینی الأفکار التی کانت تدفعنی للبحث عن الحقّ فالتجأت إلى اللهو واللعب والغناء والرقص وتناول الکحول، فکنت أمضی أوقات فراغی فی الدیسکو لاهیة لا أفکّر بشیء یکدّر صفو حیاتی العابثة.
بدایة التعرّف على الإسلام:
واستمر بی الوضع على هذه الحالة حتّى صادف أن تعلّق قلبی بشابّ کان یحضر فی الدیسکو، فاشتدّت صداقتی به بمرور الزمان، فلمّا تعرّفت علیه کثیراً اعترتنی الدهشة حینما علمت أنّه من المسلمین، واستغربت کثیراً من هذا الأمر، ولکنّنی لم أجد فی سلوکه أمراً یغایر ما أنا علیه، سوى أنّه کان یتجنّب أکل لحم الخنزیر وتناول الکحول والخمر، ولکنّنی بعد مضی فترة عرفت أنّه غیر ملتزم بالإسلام، ولا یعرف من الإسلام سوى بعض المفاهیم العابرة التی طرقت سمعه من هنا وهناک، فزالت الحسّاسیة بینی وبینه.
ولکن تبیّن لی بعد ذلک أنّ أباه وأمّه عائلة ملتزمة بالدین الإسلامیّ، فلهذا کنت خائفة فی ذلک الیوم الذی کنت أرید أن أذهب مع صدیقی إلى بیتهم، وکنت أخشى أن ینهالوا علیّ بالسبّ والشتم والإهانة، ولکن لمّا ذهبنا إلى بیتهم کان الأمر بخلاف ما کنت أتوقّع، فلم یتعرّض لی أحد، بل تعاملوا معی برفق ومحبّة، وإنّما واجه صدیقی بعض العتاب من قبل أبیه وأمّه لصداقته معی.
وبمرور الزمان اشتدّت صلتی بعائلة صدیقی المسلم، فکنت أرى فی سیمائهم الهدوء والطمأنینة والسکینة وکنت أُلاحظ فی نفوسهم الرضا والقناعة.
فاستغربت من نفسی وقلت: لماذا لا أتمتّع أنا بالراحة النفسیّة کما یتمتّع هؤلاء رغم أنّ الکثیر من أمور الرفاهیة المتوفّرة عندی غیر متوفّرة عندهم. ومن هذا المنطلق دفعنی حبّ الاستطلاع للبحث عن الأسباب التی أدّت إلى استقرارهم النفسی. فحاولت أن أُکثر الاختلاط بهم وأن أتأمّل فی سیرة حیاتهم، کما کنت کثیراً ما أوجّه لهم الأسئلة التی کانت تثار فی نفسی، وهکذا بالتدریج شغفت بمعرفة الفکر الإسلامیّ، فکانت خطوتی الأولى هی قراءة القرآن المترجم إلى اللغة الألمانیّة، فکنت کلّما أقرأ منه أشعر بالطمأنینة والاستقرار، وهکذا استمرّ الأمر حتّى أحسست أنّنی قد وجدت ضالّتی التی کنت أبحث عنها طیلة السنوات الماضیة، فکان القرآن سبباً لأتعرّف على التوحید الخالص، ومن هذا المنطلق عرفت ربّی فتوجّهت إلیه، وسألته لینقذنی ممّا أنا فیه فاستجاب الله دعائی فرفع عنّی بعض الحجب التی کانت تمنع بصیرتی من رؤیة الحقّ، فهنالک استقرّ بی النوى، فاعتنقت الإسلام وفق مذهب أهل البیت(علیهم السلام) وتوجّهت إلى الله بکلّ وجودی.
مضایقات بعد الاستبصار:
تقول "جلیکه": کان إسلامی، مفاجأة لأبی وأمّی، فاستغرب أبی کثیراً من إسلامی، فواجهنی بشدّة، وبذل أقصى جهده لیصرفنی عن تغییر انتمائی الدینی، فکان یحاول أن یحاربنی نفسیّاً لأضطرّ إلى ترک معتقدی الجدید.
ولم یکن هذا الموقف موقف أبی فحسب، بل کان ذلک موقف معظم الذین سمعوا بإسلامی، ولیس ذلک إلاّ نتیجة الدعایات المضادّة والإعلام المضاد الذی یستخدمه المغرضون للإطاحة بالإسلام.
ولکن رغم کلّ هذه المضایقات التی واجهتها لم یضعف إیمانی بالله وبدینه وشریعته قید أنملة، بل کنت ازداد کلّ یوم إیماناً وبصیرة نتیجة تمعّنی بوضعنا الاجتماعی المتردّی; لأنّ وضع المرأة عندنا وضع سلعة بید هذا وذاک یتاجرون بجسمها وجمالها الخارجی تمشیة لمصالحهم الخاصّة، وهذا ما أدّى بالمرأة إلى انهیار بنیان أسرتها، وزوال عفّتها، وتحمیلها أمراً أکبر من طاقتها، فجعلها بذلک تعیش الکآبة والعدید من الأمراض النفسیّة الأخرى.
ویا له من انحطاط تشهده ساحتنا الاجتماعیّة نتیجة ابتعادها عن ربّها، ونتیجة عدم تمسّکها بالشریعة التی فرضها الله على العباد، فالإحصائیّات تبدی أرقاماً هائلة من حالات إدمان الشباب للموادّ المخدّرة، أو حالات الانتحار، أو ارتکاب الجرائم والعنف والاعتداء على النساء والأطفال.
معنى الحریّة:
وتضیف "جلیکة": والباعث للاستغراب أنّ جمیع هذه الأمور إنّما تُرتکب باسم الحرّیّة، ویا لها من جهالة حینما یعتبر هؤلاء أنّ منطلق ما یقومون به هو الحرّیة!
فهم یعیشون حالة الأسر بین مخالب الهوى والمیول والشهوات والرذائل، ثمّ یعتبرون أنفسهم أحراراً، فلا معنى للحرّیّة إذا کان الإنسان أسیراً بید أهوائه، ولا معنى للحرّیّة إذا کان الإنسان لا قدرة له على إصلاح نفسه وتهذیبها من الشوائب، وإنّما الحرّ هو المتمکّن من ضبط رغباته وسلوکه; لئلاّ تطغى فتخلّ بتوازنه النفسیّ، والحرّ هو المتمکّن من تحریر نفسه من الرذائل والشهوات البذیئة والأهواء الطائشة، وأملی أن یتثقّف الجمیع بالثقافة الإلهیّة; لیتمکّنوا بعدها من إنقاذ أنفسهم من الانحطاط والتسافل والتحرّر من شباک الغفلة والجهل.
source : .www.rasekhoon.net