منذ 1400 سنة لم یکن أحد على وجه الأرض یعلم شیئاً عن الحاجز بین النهر والبحر. وقد قام حدیثا علماء بدراسة المنطقة حیث یصبّ النهر العذب فی البحر المالح. وکانت النتیجة أن هذه المنطقة لها خصائص مختلفة کلیاً عن الخصائص الموجودة فی أیّ من ماء النهر أو ماء البحر. یقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِی مَرَجَ الْبَحْرَیْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَیْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً)(1).
إننا نجد أحدث الأبحاث العلمیة تؤکد أن منطقة المصبّ یحدث فیها مزج مضطرب، وسبحان الله العظیم یأتی البیان الإلهی لیعبر عن هذه الحقیقة العلمیة الدقیقة بکلمة واحدة وهی (مَرَجَ)
وهذا النوع من الحواجز تحدث عنه القرآن، یقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِی مَرَجَ الْبَحْرَیْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَیْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً).
لقد نشأ علم حدیث اسمه میکانیک السوائل یبحث فی القوانین التی وضعها الله تعالى لتحکم أی سائل فی الکون. ومن أهم السوائل بالنسبة لنا هو الماء الذی جعل الله منه کل شیء حی فقال: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء کُلَّ شَیْءٍ حَیٍّ أَفَلَا یُؤْمِنُونَ)(2). ومن أهم القوانین التی تحکم هذا الماء قانون التوتر السطحی الذی بواسطته تحافظ کل قطرة ماء على شکلها و وجودها.
ولولا هذا القانون لتبخر الماء ولم یتماسک أبداً. وبواسطة هذا القانون الذی یشد جزئیات الماء إلى بعضها البعض تبقى البحار متماسکة أیضاً. لأن قوة التوتر السطحی هذه وهی القوة التی تشد جزیئات الماء تتغیر مع کثافة الماء ودرجة حرارته ونسبة الملوحة فیه وغیر ذلک من العوامل. فتجد أن النهر العذب له خصائص تختلف تماماً عن البحر المالح، وبالتالی هنالک اختلاف کبیر بین قوة التوتر السطحی للماء العذب وتلک الخاصة بالماء المالح. هذه القوى تلتقی عند التقاء مصب النهر مع البحر. فتعمل کل قوة ضد الأخرى.
فتجد أن منطقة البرزخ أو منطقة الالتقاء للنهر مع البحر هی منطقة تدافع وتجاذب وحرکة واضطراب وهذا ما عبَّر القرآن عنه بکلمة واحدة وهی (مَرَجَ). یقول عز وجل: (وَهُوَ الَّذِی مَرَجَ الْبَحْرَیْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَیْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً).
وتأمل معی کلمة (حِجْراً مَّحْجُوراً) فی الآیة کیف تعبر عن جدار منیع وقوی وهذا ما نجده فعلاً، فهذه القوى الناشئة بین النهر والبحر فی منطقة البرزخ هی جدار لا یمکن اختراقه. ومن علم میکانیک السوائل نعلم بأن أی جدار یتم بناؤه یقوم على أساس دراسة القوى التی ستقع على هذا الجدار.لذلک نجد أن التعبیر القرآنی عن الحاجز بین النهر والبحر بأنه (حِجْر) تعبیر دقیق من الناحیة العلمیة.
کما أن هنالک فارقاً فی قوى الضغط التی یسببها النهر على البحر والقوة المعاکسة التی یسببها البحر على النهر، وتکون النتیجة أن هنالک منطقة متوسطة هی البرزخ وعلى جانبیه ضغوط مختلفة یتحملها وکأنه جدار محصَّن وقوی. لذلک قال تعالى فی آیة أخرى: (أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِیَ وَجَعَلَ بَیْنَ الْبَحْرَیْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَکْثَرُهُمْ لَا یَعْلَمُونَ)(3).
إن الغوص فی الماء ومعرفة أسرار البحار کان من رغبات الإنسان منذ وجوده على الأرض. ولکن الإنسان فی الحالة الطبیعیة لا یمکنه الغوص لأکثر من أمتار معدودة وذلک بسبب الضغط الکبیر المتولد من وزن الماء فوقه.
وعندما اخترع الإنسان الغواصة تمکن من الوصول لأعماق کبیرة تقدر بمئات الأمتار أو آلاف الأمتار. وعندها تم اکتشاف عالم قائم بذاته فی أعماق المحیطات، ولعل الشیء الملفت للانتباه هو اکتشاف أمواج عمیقة أشدّ عنفاً من الأمواج التی على سطح البحر.
فکما نرى أمواجاً متلاطمة على سطح البحر، أیضاً هنالک أمواج فی عمق البحر.هذه الأمواج تحدث عنها القرآن فی قول الحق تبارک وتعالى: (أَوْ کَظُلُمَاتٍ فِی بَحْرٍ لُّجِّیٍّ یَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ یَدَهُ لَمْ یَکَدْ یَرَاهَا وَمَن لَّمْ یَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)(4). ونلاحظ کیف تتحدث الآیة بوضوح عن البحر العمیق الذی تغشاه الأمواج ثم من فوقه أمواج أخرى.
وهنا ندرک دقة القرآن حتى فی تشبیهاته، فالله تعالى یقول لنا بأن الکافر بربه والذی ضلَّ عن سبیل الهدى مثله کمثل رجل یعیش تحت هذه الأمواج العمیقة، قمة الظلام والضیق، فالله تعالى یشبه الضلال بهذه الظلمات ویتحدث عن أمواج فی عمق البحر (اللجی هو العمیق). إن هذا النوع من المعرفة لا یمتلکه حتى أدباء عصرنا هذا، فکیف بالنبی الأمی الذی جاء فی عصر عبادة الحجارة والأوثان، فی ذلک العصر لم یکن هنالک إلا الأساطیر. بینما القرآن نجده یحاکی کل العصور فهو کتاب الله عزّ وجلّ.
إن الذی ینظر إلى الکرة الأرضیة من الفضاء الخارجی یشاهد البحار تغطیها السحب بشکل کبیر. وهذا ما تظهره صور الأقمار الاصطناعیة. هذه السحب الکثیفة تحجب جزءاً کبیراً من نور الشمس ویبقى جزء صغیر لیخترق أمواج البحر السطحیة وبعد ألف متر تقریباً ینعدم الضوء تماماً عند مستوى الأمواج العمیقة. لذلک یقول تعالى: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)، فالأمواج تساهم فی حجب قسم کبیر من الأشعة الضوئیة أیضاً. فیکون لدینا ظلام فی قاع البحر، ومن فوقه طبقة من الأمواج الداخلیة التی تضیف طبقة ثانیة من الظلام، ثم یأتی الماء الموجود فوق هذه الأمواج والذی یضیف طبقة ثالثة من الظلام، ثم تأتی الأمواج على سطح البحر والتی تضیف طبقة رابعة من الظلام ثم تأتی طبقة الغلاف الجوی فوق سطح البحر لتشکل طبقة خامسة من الظلام ثم السحاب والغیوم الرکامیة التی تشکل طبقة سادسة وهکذا (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)، فهل یمکن لإنسان یعیش تحت هذه الظلمات أن یرى یده؟ کذلک الذی ضل عن سبیل الله ونسی لقاءه أنَّى له أن یرى نور الإیمان!
إذا کان الإنسان قبل مجیء القرن العشرین لا یستطیع الغوص فی الماء إلا لعدد من الأمتار، کیف علم رسول الله محمد صلى الله علیه وسلّم بهذه الأمواج فی أعماق البحار؟ هل درس رسول الله علیه الصلاة والسلام قوانین انکسار الضوء، وکیف یفقد الضوء جزءاً من طاقته عندما یخترق الماء أو الأمواج؟
إن الضوء الذی یخترق ماء البحر على عمق مائة متر لا یبقى منه إلا أقل من واحد بالمئة على مثل هذا العمق، فکیف على أعماق آلاف الأمتار؟
إن الأمواج العمقیة فی البحر لم یتم کشفها إلا منذ أقل من مائة سنة، ولم یتم دراستها وتصویرها إلا منذ سنوات قلیلة فقط.
إن الإنسان لا یمکنه الغوص إلى هذه الأعماق إلا باستخدام غواصة ذات جدران شدیدة الصلابة والتحمل لتتحمل الضغط الکبیر جداً الذی تسببه طبقة الماء فوقها.
إذن الحیاة مستحیلة تحت هذه الأعماق، فکیف تحدث القرآن عن إنسان یعیش على هذا العمق الکبیر من الماء؟
إنها معجزة جدیدة، فالقرآن یتحدث عن زمن سیخترع الإنسان فیه الغواصة وسینْزل إلى أعماق البحر وسوف یتحقق قول الحق تعالى: (إِذَا أَخْرَجَ یَدَهُ لَمْ یَکَدْ یَرَاهَا)، وهذا ما یحدث فعلاً مع الغواصین فی غواصاتهم حیث تنعدم الرؤیا بشکل شبه کامل عند عمق البحر
إذن فی هذه الآیة الکریمة عدة إعجازات: الحدیث عن الظلمات فی أعماق البحار. الحدیث عن الأمواج العمقیة فی البحر. والحدیث عن تحقق هذه الآیة فی المستقبل وقد تحققت فعلاً باختراع الغواصات.
نعید کتابة النص القرآنی ونترک للقارئ التفکر والتأمل فی عظمة آیات الله تعالى: (وَالَّذِینَ کَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ کَسَرَابٍ بِقِیعَةٍ یَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ یَجِدْهُ شَیْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِیعُ الْحِسَابِ أَوْ کَظُلُمَاتٍ فِی بَحْرٍ لُّجِّیٍّ یَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ یَدَهُ لَمْ یَکَدْ یَرَاهَا وَمَن لَّمْ یَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) (5).
ومن الکشوفات المهمة فی علم البحار أن هنالک مسافة تفصل بین أی بحرین، فلا یطغى هذا على ذاک أو العکس.
عندما یلتقی البحران عند مضیق ما یحافظ کل بحرٍ على خصائصه. فعلى سبیل المثال یلتقی البحر الأحمر مع المحیط الهندی فی منطقة تسمى مضیق باب المندب.هذه المنطقة نجد لها خصائص متوسطة بین البحرین.
فالبحر الأحمر له کثافة ودرجة حرارة ولزوجة تختلف عن المحیط الهندی، والأسماک التی تعیش هنا غیر التی تعیش هناک. هذه المنطقة الفاصلة تسمى بالحاجز أو البرزخ.
هذا البرزخ یشبه الجدار المتین الذی یفصل بین البحرین، وهو یسمح لماء هذا البحر بالمرور عبره لذلک البحر ولکن بعد أن یغیر خصائصه بما یتناسب مع البحر الثانی. وبالتالی رغم اختلاط البحرین وامتزاجهما یبقى کل منهما مستقلاً عن الآخر فی مواصفاته.
هذا البرزخ الذی لم تتم رؤیته إلا بواسطة الأقمار الاصطناعیة فی نهایة القرن العشرین تحدث عنه القرآن قبل أربعة عشر قرناً. لنستمع إلى قول الله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَیْنِ یَلْتَقِیَانِ * بَیْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا یَبْغِیَانِ)(6).
إن هذا البرزخ یوجد أیضاً بین البحر المالح والنهر العذب عند التقائهما. فنجد أن الأنهار العذبة تصب فی البحار المالحة، ورغم ضخامة البحر المالح لا یطغى على النهر العذب ولا یختلط به أبداً.
ویمکن رؤیة المنطقة التی تفصل بین الماء العذب والماء المالح بالأقمار الاصطناعیة وهی تمتد عادة لعدة کیلومترات.
القشرة الأرضیة لیست متصلة تماماً بل تترکب من مجموعة من الألواح. هذا ما کشفت عنه الأبحاث الجیولوجیة حدیثاً.
حرکة الألواح هذه تؤدی إلى تصادمات مستمرة فیما بینها ینتج عنها تصدع للقشور الأرضیة. وهذا ما تحدث عنه القرآن بقوله تعالى: (والأرض ذات لصدع)(7).
هذه التصدعات تکثر فی قاع البحار والمحیطات وینتج عنها انطلاق کمیات من الحمم المنصهرة من باطن الأرض على شکل براکین. فالنیران تشتعل فی قاع البحر بشکل دائم وعلى الرغم من حجم الماء الکبیر فوقها لا یستطیع إخمادها.
لقد تحدث القرآن الکریم منذ أربعة عشر قرناً عن هذه الحقیقة العلمیة بقوله تعالى: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)(8). وکلمة (سَجَرَ) فی اللغة تعنی أشعل وأحرق، و لم یکن أحد على وجه الأرض یتخیل هذا الأمر.
ولکن الرسول الاکرم صلى الله علیه وآله وسلّم الذی لا ینطق عن الهوى إنما بلغنا القرآن کما أنزله علیه ربه دون زیادة ولا نقصان، لم یستغرب هذه الحقیقة بل هو مؤمن بکل ما أوحی إلیه.
المصادر :
1- الفرقان:53
2- الأنبیاء:30
3- النمل:61
4- النور:40
5- النور: 39-40
6- الرحمن:19-20
7- الطارق:12
8- الطور:6
source : .www.rasekhoon.net