التصميمُ على الحرب
ودل التتبع في مختلف الفترات التاريخية، على أن لانتصار الدين في المجتمع شأناً كبيراً في تدرج الاخلاق. ذلك لان الشعوب تنطبع على غرار قادتها، وتكيّف بأهداف قوانينها. ولو لم يكن للدين الا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنزيه النفس عن الطمع بالمادة، لكفى.
أما هذا النفر من بقايا الجاهلية، فقد كانوا - كغيرهم من دعاة الطبقية - مطبوعين على المحافظة والتمسك بعادات الآباء والجدود والنظم البالية والاوضاع الظالمة. وكانوا من الدين الجديد خصومه الالداء في ابان دعوته، ثم نظروا اليه كوسيلة الى الدنيا، ابان اعتناقهم له.
وضاعت تحت ظل هذه النوازع أهداف الدين، وخسر المجتمع تدرّجه الى الصلاح المنشود، فاذا بالناس عند مطامع الدنيا «والدين لعق على السنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم، فاذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون».
* * *
ولآل محمد (صلى اللّه عليه وآله) رسالتهم التي لا يتراجعون عنها، لانقاذ الناس لا لنفع أنفسهم، ولاقامة حامية الدين لا اقامة عروشهم، وصيانة المعنويات لا صيانة ذاتياتهم.
فاذا كان معاوية لا يزال يعاند هذه الاهداف ويحارب المنادين بها، ثم يظل منفرداً عن المسلمين ببغيه وعدوانه، مأخوذاً بشهوة الحكم مأسوراً بحب الاستئثار في مشاعره ومذاهبه، فَليَسرِ الحسنُ اليه بالمسلمين، وليحاكمه الى اللّه، وكفى باللّه حكماً.
قال أبو الفرج الاصفهاني: «وكان أول شيء أحدثه الحسن عليه السلام أنه زاد المقاتلة مائة مائة. وقد كان علي عليه السلام فعل ذلك يوم الجمل. وفعله الحسن حال الاستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعده في ذلك» قال: «وكتب الحسن عليه السلام الى معاوية مع حرب بن عبد اللّه الازدي: من الحسن بن علي امير المؤمنين الى معاوية بن أبي سفيان. سلام عليك فاني أحمد اليك اللّه الذي لا اله الا هو. أما بعد، فان اللّه جل جلاله بعث محمداً رحمة للعالمين ومنّةً للمؤمنين، وكافة للناس أجمعين، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فبلغ رسالات اللّه، وقام بأمر اللّه، حتى توفاه اللّه غير مقصّر ولا وان، وبعد أن اظهر اللّه به الحق، ومحق به الشرك.
وخصّ به قريشاً خاصة، فقال له: وانه لذكر لك ولقومك. فلما توفي، تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته واسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه. فرأت العرب أن القول ما قالت قريش، وأن الحجة في ذلك لهم، على من نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم وسلمّت اليهم.
ثم حاججنا نحن قريشاً، بمثل ما حاججت به العرب، فلم تتصفنا قريش انصاف العرب لها. انهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانصاف والاحتجاج، فلما صرنا - أهل بيت محمد وأولياءهُ - الى محاجتهم وطلب النصف منهم، باعدونا واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا. فالموعد اللّه، وهو الولي النصير.
ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان بيتنا. واذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الاسلام، أمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والاحزاب في ذلك مغمزاً يثلمون به، أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من افساده.
فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا اثر في الاسلام محمود. وانت ابن حزب من الاحزاب وابن أعدى قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ولكتابه.
والله حسيبك فسترد عليه وتعلم لمن عقبى الدار. وبالله لتلقينَّ عن قليل ربك، ثم ليجزينَّك بما قدمت يداك. وما اللّه بظلام للعبيد.
«ان علياً لما مضى لسبيله رحمة اللّه عليه يوم قبض ويوم منَّ اللّه عليه بالاسلام ويوم يبعث حياً، ولانى المسلمون الامر من بعده. فأسأل اللّه ان لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة. وانما حملني على الكتابة اليك، الاعذار فيما بيني وبين اللّه عز وجل في امرك، ولك في ذلك ان فعلته الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين.
«فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فانك تعلم أني أحق بهذا الامر منك عند اللّه وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتق اللّه، ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فواللّه مالك خير في أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به. وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به منك، ليطفئ اللّه النائرة بذلك ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين.
«وان أنت أبيت الا التمادي في غيّك سرتُ اليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم اللّه بيننا وهو خير الحاكمين(1)».
* * *
ولقد ترى ما ينكشف عنه كتاب الحسن عليه السلام في خواتيمه، من التهديد الصريح بالحرب. وكان لا مناص للحسن من اتباع هذه الطريقة فيما يفضي به الى معاوية، حين يطلب اليه «أن يدع التمادي في الباطل، وأن يدخل فيما دخل فيه الناس من بيعته» وهي الطريقة السياسية الحكيمة التي يقصد بها اضعاف الخصم عن المقاومة باضعاف عزمه. ثم هو لا يقول له ذلك الا بعد أن يقيم عليه الحجة بما سبق من حجاجهم لقريش.
فدعاه مرشداً، وتوعّده مهدداً، ثم أنذره الحرب صريحاً.
واتبع خطة ابيه معه. وما كان الحسن في ما أحيط به من ظروف، وفي ما مُني به من أعداء، الا ممثّل أبيه حقاً، حتى لكأن قطعة من الزمن كانت من عهد أمير المؤمنين عليه السلام، تأخرت عن حياته فاذا هي عهد ابنه الحسن في الكوفة. وكما كانت الحرب ضرورة لا مفرَّ منها، في عهد الاب الراحل عليه السلام، كانت كذلك ضرورة لا يغني عنها شيء في عهد الابن القائم على الامر.
وكان مما يزين الخلافة الجديدة، أن تزهو في فتوّتها بما تملكه من قوة وسلطان، ولن يتم ذلك الا بأن تضرب على أيدي العابثين، لتبعث الهيبة في النفوس، وتشق طريقها الى الاستقرار لتقبض على نواصي الامور. فلا عجب اذا جاء كتاب الحسن هذا صريحاً في تهديده، شديداً في وعظه، قوياً في لغته الآمرة الناهية «واتق اللّه ودع البغي واحقن دماء المسلمين، فواللّه ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخل في السلم والطاعة ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به منك..».
* * *
أما الشعار الاموي في الشام، فقد ظل مغاضباً للخلافة الهاشمية في الكوفة، متنمراً على بيعة الحسن تنّمره على بيعة أبيه من قبل. ولم تجد معه الرسائل المناصحة المصارحة، ولا كبحت من جموحه أساليبها الحكيمةَ وحججها الواضحة.
ونحن اذا تصفحنا ما وصل الينا من رسائل الحسن عليه السلام الى معاوية، لم نجد فيها كلمة تستغرب من مثله، أو تتجاوز حد الحجة التي تنهض بحقه فيما فرضه اللّه من مودة أهل البيت عليهم السلام، وفيما سجله «الكتاب» من الحكم بطهارتهم من الرجس، أو لوّح اليه من ولايتهم على الناس، وبما صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه واله في نصوص الامامة وتعيين الامام، وبالدعوة - اخيراً - الى الطاعة وحقن الدماء واطفاء النائرة واصلاح ذات البين.
اما رسائل معاوية الى الحسن، فقد رأيناها تأخذ - على الغالب - بأعراض الموضوع دون جوهرياته، وتفزع في الكثير من مضامينها الى نبش الدفائن وتأريث النعرات الخطرة بين الاخوان المسلمين.
ومن الحق ان نعترف لمعاوية بسبقه استفزاز «الشعور الطائفي» لاول مرة في تاريخ الاسلام. بما كان يقصد اليه من طريق نبش هذه الدفائن، وتأريث هذه النعرات. فكان بذلك أول داعٍ الى فصم الوحدة التي بنِي عليها دين التوحيد، والتي هي - بحق - جوهر اصلاحه وسرّ نجاحه بين الاديان.
وكأنّ معاوية حين عجز عن اصطياد المغفلين من الناس، عن طريق نفسه أو عن طريق أبيه «أبي سفيان بن حرب» - ولهذين الطريقين سوابقهما المعروفة لدى المسلمين بأرقامها وتواريخها - رفع عقيرته في رسائله الى الحسن، باسم أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ولوّح فيها بخلاف أهل البيت (عليهم السلام) على بيعة أبى بكر..
وكانت [رسائل معاوية] بجملتها لا ينقصها في الموضوع الذي ابردت لاجله الا الحجة لاثبات الحق الشرعي - عبر العرش المقدس -. وحتى الشبهة المتخاذلة التي كان يصطنعها لمقارعة علي عليه السلام، في حروبه الطويلة الامد، باسم الثأر لعثمان، قد طويت صفحتها بموت الامام الاول، وها هو ذا تجاه الامام الثاني، الذي كان قد جثم بنفسه على باب دار عثمان يوم مقتله، يدافع الناس عنه، حتى لقد «خضب بالدماء» كما يحدثنا به عامة المؤرخين، ويقول الطقطقي في تاريخه(2): «ان الحسن قاتل عن عثمان قتالاً شديداً، حتى كان يستكتفه وهو يقاتل عنه، ويبذل نفسه دونه..».
كل ذلك وعثمان بالموقف الدقيق الذي كان لا يفتأ يؤلب عليه فيه الآخرون، ويخذله الاقربون(3).
كتابه «أيام الحسن» (من صفحة 112 الى 128) ولعل من الافضل أن نختزل هنا الخطوط الرئيسة من تلك الصورة المفصلة، اتماماً للفائدة قال:
«وهؤلاء الامويون لم يكتفوا بأن يفرضوا انفسهم ووجودهم الخالي من الحياة والجهد، بل تجاوزوا هذا، الى تعبئة المجتمع في طبقات.. واذا بالثروات الفاحشة تصير وتجتمع في أيدي الامويين وانصارهم، واذا بمروان يستبد بالمقدرات العليا على هواه، واذا بأكثر الاقاليم تذهب اقطاعات بين فلان وفلان.. فيعلى بن امية يملك ما قيمته مائة الف دينار، عدا عقاراته الكثيرة. وعبد الرحمن بن عوف يملك ما قيمته خمسمائة الف دينار. وزيد بن ثابت يملك من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس.. فلا بدع ان استنكرت الكثرة خطة هذا الجديد، ولا بدع ان تحدوا انصاره واتهموهم بالمروق، ولا بدع ان دخلوا معهم في صراع بدأ خفياً ثم امتد حمياً.
«ولقد باتت الحالة العامة تجيء في كلمتين: حكومة تتآمر بالشعب وشعب يتآمر بالحكومة. ولكن للشعب الكلمة الاخيرة والعليا دائماً.. ومن الانصاف والخير ان نذكر ان الجمهور مع ذلك لم يكن أرعن في ثورته، فقد اتصل بأولياء الامور والسلطة، وطالب بواسطة ممثليه مراراً وتكراراً ولكن مطاليبه في كل مرة كانت تبوء بالفشل وكان فشلاً ذريعاً متواصلاً، ومن النوع المثير.
«وكان عمرو بن العاص في هذه الاثناء يحرض الناس على عثمان ويجبه سياسته علانية ويتجسس عليه ويفضح الاحاديث التي تجري داخل داره، ولا يلقى احداً الا أدخل في روعه كراهيته.. ويقابله حينما خطب عثمان على ملأ من الصاخبين المتمردين بقوله: «يا امير المؤمنين انك قد ركبت نهابير وركبناها معك فتب نتب». وهذه عائشة تجترئ وهو يخطب فتقول وقد نشرت قميص النبي: «هذا قميص النبي لم يبل وقد ابليت سنته». وهذا طلحة والزبير يعينان الثائرين بالمال.. ولكن علياً مع كل ما هو عاتب وواجد.. بادر الى تقديم ولديه لاعتباراتهما التقديرية ومواليه لكي ينهنهوا عوادي الاحداث..
«وحين بلغه أن الناس حصروا داره ومنعوه الماء بعث اليه بثلاث قرب وقال للحسن والحسين اذهبا بسيفكما حتى تقوما على بابه ولا تدعا احداً يصل اليه بمكروه. وكان أن خضب الحسن بالدماء وشج قنبر مولاه.
«هذا ما عرف التاريخ عن علي وبنيه ازاء المصرع، بينما عرف من ناحية ثانية، أن عثمان وهو محاصر كتب الى معاوية وهو بالشام: «أن اهل المدينة قد كفروا واخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة، فابعث الي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول». فاذا بمعاوية حينما جاءه كتابه يتربص به، فقد كره - على حد دعواه - مخالفة أصحاب الرسول، وقد علم اجتماعهم على ذلك. ومن تهكمات القدر أن يحرض عمرو بن العاص على قتل عثمان ونجبهه عائشة علانية ويتخلى معاوية عن نجدته ويعين عليه طلحة والزبير كلاهما، ثم ينفر هؤلاء أنفسهم هنا وهناك يطالبون بدمه علي بن ابي طالب الذي أخلص له النصيحة وحذره من هذا المصير وكان مجنه دون رواكض الخطوب.. اه».
__________________________________
(1) ابن ابي الحديد (ج 4 ص 12).
(2) الفخري (ص 74).
(3) لعل من الخير لمن أراد شرح هذا الاجمال، أن يرجع الى ما صوره الاستاذ عبد اللّه العلايلي حفظه اللّه، من احوال المجتمع على عهد عثمان، في
source : www.sibtayn.com