عربي
Thursday 9th of May 2024
0
نفر 0

عبيدُ اللّه بن عبّاس

عبيدُ اللّه بن عبّاس

عبيدُ اللّه بن عبّاس

اما ذلك القائد الملتهب بالحماسة للحرب، والموتور من معاوية بابنيه المقتولين صبراً في اليمن، فقد كان منذ انفصل بجيشه من دير عبد الرحمن، لا ينفك يتسقط أخبار الكوفة، وانه ليعهد في الكوفة دعاوتها الشيعية السائرة على وتيرتها المحببة، والذاهبة صعداً في نشاطها والتي كان ينتظر من تعبئتها النجدات التي يجب أن لا تنقطع عنه.
ونمى اليه، وقد انتهى الى «مسكن» وهي النقطة التي التقى عندها الجيشان المتحاربان، أن الدعاوات النشيطة البارعة في أسباع الكوفة لم تئمر شيئاً جديداً، الا ان تكون بعض الفصائل من مقاتلة الاطراف أو من متطوعة المدائن نفسها، قد التحقت بمعسكرها هناك.
وبلغه أن المناورات العدوة التي كان يقودها بعض الزعماء الكوفيين هي التي أحبطت المساعي الكثيرة لرجالات الشيعة، وهي التي عرقلت النفير العام بنطاقه الواسع الذي كان ينتظر نتيجة لذلك النشاط المحسوس.
ولم يكن عجيباً، ان تغيظ هذه الانباء عبيد اللّه بن العباس فتملأ اهابه ثورة على الوضع وحنقاً على الناس.
وكان عليه كقائد جيش ضعف أمله بالنجدات القريبة التي كان يعلق عليها أروع آماله، أن ينتفع من هذا الدرس الذي أملته عليه ظروف الكوفة، وأن يرجع الى قواته هذه فيوازن بها قوات عدوه التي تنازله وجهاً لوجه، والتي علم أنها لا تقلّ عن ستين الفاً من أجناد الشام المعروفين بالطاعة العمياء لأمرائهم وقوادهم.
ولم يكن التفاوت بالعدد مما يستفزه كثيراً، ولكنه كان شديد العناية بالمزايا المعنوية التي يتحلى بها جنود الفريقين. وكان القائد الحريص على روحية جيشه التي هي كل ما يدخره للقاء عدوه.
ولاح له في سبيل موازنته، اشتراك «الاخلاط» من العناصر المختلفة في جيشه. وانه ليستقبل حرباً لن تجدي فيها غير الكثرة المخلصة من المحاربين الاشداء، فما شأن الجماعات التي لم تفهم الجهاد الا كوسيلة للغنائم.
وتشاءم عبيد اللّه بن عباس، منذ الساعة الاولى التي يمم بها معسكره في «مسكن»، تشاؤماً كان له أثره في المراحل القريبة مما استقبله من خطوات.
وكان أنكى ما يخافه على مقدّرات جيشه، أن تتسرب الى صفوفه أخبار التعبئة الفاشلة في الكوفة، أو أن تحبو اليه أحابيل معاوية بما تحمله من أكاذيب ومواعيد، وهاهم أولاء وقد جمعهم صعيد واحد ومشارع واحدة واظلتهم سماء مسكن جميعاً، وماذا يؤمنه من أن يكون مع جنوده أو من جنوده انفسهم من هو بريد معاوية في الافساد عليه وعلى الامام. وكانت أسلحة معاوية (الباردة) أروع أسلحته في هذا الميدان بل في سائر ميادينه.
وصدق ظن عبيد اللّه.
فاذا بباكورة دسائس معاوية تشق طريقها الى معسكر مسكن، وفي هذا المعسكر من أصحاب الحسن مخلصون ومنافقون، وآخرون يؤثرون العافية ويتمنون لو صدقت الشائعة الجديدة، وكانت الشائعة الكاذبة «أن الحسن يكاتب معاوية على الصلح، فَلمَ تقتلون انفسكم(1)».
ولم يُجدِ ابن عباس أن يعلم هو وخاصته كذب الشائعة، واصطدامها بالواقع الذي لا يقبل الشك، لان الحسن الذي لا يزال يشمّر للحرب في رسله الى الاطراف، وفي رسائله الى معاوية، وفي خطبه بالكوفة، لن يكتب في صلح ولن ينزل عن رأي ارتآه.
ولكنها كانت أحبولة الشيطان الرائعة الصنع.
وارتفعت أصوات المخلصين من الانصار، تدعو الناس الى الهدوء، وتستمهلهم ريثما يصل بريد المدائن، ولكنها كانت صيحات في واد، ونفخات في رماد، واجتاح الموقف ارتباك مؤسف لا يناسب ساحة قتال.
وتخاذل عبيد اللّه للخدعة الخبيثة التي أصابت المحزَّ من موقفه الدقيق.
فخلا بنفسه، وانقبع تحت سماء خيمته البعيدة عن ضوضاء الناس. ورأى ان قيادته هذه ستطوح بمكانته العسكرية الى أبعد الحدود، فثار لسمعته وحديث الناس عنه، وندم على قبولها. وكان من دفعات الحدّة التي طبع عليها، أن لعن الظروف التي عاكسته في رحلته العسكرية هذه والظروف التي خلقت منه قائداً على هذه الجبهة. ثم انطوى على نفسه تحت كابوس من القلق وحب الذات لا يدري ماذا يصنع.
ورأى اخيراً [وكان المخرج الذي بلغته قصارى براعته] أن يتقدم باستقالته، نزولاً على حكم ملكاته الانانية التي كان يستكين لها راغباً عامداً. وما يدرينا، فربما لم يكن له من القابليات الشخصية ما يمكنه من محاسبة نفسه والتفكير في اصلاح ما يمر به من اخطاء أو ما يفجؤه من نكبات.
وكان عليه - وقد صمم على الاستقالة - أن يترك مقر القيادة الى مصيرها الذي لا يعدو رأي الامام، أو يتخلى عنها لخليفته وهو (قيس بن سعد بن عبادة الانصاري).
ولكنه فطن - ولما يغادر فسطاطه المترفع الذي كان يقع على جانب بعيد من مضارب جنوده، والذي شهد وحده ثورة القائد المتخاذل، وسمع كما احتملها ظرف اخيه الحسين، فيما كان قد اصطلح عليه من مضايقات هي في الكثير من ملامحها، صورة طبق الاصل عن ظروف أخيه، وقد خرج منها بالشهادة دون الصلح، وكانت آية خلوده في تاريخ الانسانية الثائرة على الظلم.
اذاً، فلماذا لم يفعل الحسن اولاً، ما فعله الحسين اخيراً ؟.
ألِجبُنٍ - واستغفر اللّه - وما كان الحسين بأشجع من الحسن جناناً، ولا امضى منه سيفاً، ولا اكثر منه تعرضاً لمهاب الاهوال. وهما الشقيقان بكل مزاياهما العظيمة، خُلُقاً، وديناً، وتضحيةً في الدين، وشجاعة في الميادين، وابنا أشجع العرب، فأين مكان الجبن منه يا ترى ؟.
أم لطمع بالحياة، وحاشا الامام الروحي المعطر التاريخ، أن يؤثر الحياة، على ما ادخره اللّه له من الكرامة والملك العظيم، في الجنان التي هو سيد شبابها الكريم، والطليعة من ملوكها المتوجين، وما حياة متنازل عن عرشه، حتى تكون مطمعاً للنفوس العظيمة التي شبت مع الجهاد، وترعرعت على التضحيات ؟.
أم لانه رضي معاوية لرياسة الاسلام، فسالمه وسلم له، وليس مثل الحسن بالذي يرضى مثل معاوية، وهذه كلماته التي أثرت عنه في شأن معاوية، وكلها صريحة في نسبة البغي اليه، وفي وجوب قتاله، وفي عدم الشك في أمره، وفي كفره اخيراً.
فيقول فيما كتبه اليه أيام البيعة في الكوفة: «ودع البغي واحقن دماء المسلمين، فواللّه مالك خير في أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر مما انت لاقيه به(2)!..».
ويقول وهو يجيب أحد اصحابه العاتبين عليه بالصلح: «واللّه لو وجدت انصاراً لقاتلت معاوية ليلي ونهاري(3)».
ويقول في خطابه التاريخي في المدائن «انا واللّه ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم..».
ويقول لابي سعيد فيما نقلناه عنه آنفاً: «علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول اللّه لبني ضمرة وبني أشجع ولاهل مكة، حين انصرف من الحديبية، اولئك كفار بالتنزيل، ومعاوية وأصحابه «كفار» بالتأويل.
اذاً، فما سالم معاوية رضا به، ولا ترك القتال جبناً عن القتال، ولا تجافى عن الشهادة طمعاً بالحياة، ولكنه صالح حين لم يبق في ظرفه احتمال لغير الصلح، وبذلك ينفرد الحسن عن الحسين، اذ كان للحسين محرجان ميسّران من ظرفه - الشهادة والصلح - ولن يتأخر افضل الناس عن أفضل الوسيلتين، اما الحسن فقد اغلق في وجهه طريق الشهادة، ولم يبق أمامه الا باب واحد لا مندوحة له ومن ولوجه.
وأقول ذلك وانا واثق بما أقول.
وقد يبدو مستغرباً قولي [أغلق في وجهه طريق الشهادة]، وهل شهادة المؤمن الذي نزل للّه عن حقه في حياته، الا أن يقتحم الميدان مستقتلاً في سبيل اللّه، تاركاً ما في الدنيا للدنيا، وبائعاً للّه نفسه تنتاشه السيوف، وتنهل من دمه الاسنة والرماح، فاذا هو الشهيد الخالد. وكيف يغلق مثل هذا على مجاهدٍ له من ميدانه متسع للجهاد ؟. وللحسن ميدانه الذي يواجه به العدوّ في «مسكن»، فلماذا لم يخفَّ اليه ؟. ولم لم نسمع أنه وصله أو بارز العدوّ فيه، أو اقتحمه اقتحامة الموت، يوم ضاقت به الدنيا، فسدّت في وجهه كل باب الا باباً واحداً ؟. وانه لو فعل ذلك فبرز الى ميدانه مستميتاً، لاستمات بين يديه عامة شيعته المخلصين لاهدافه، فانما كانوا ينتظرون منه كلمته الاخيرة لخوض غمرات الموت.
نعم، ومن هنا كان مهبّ الرياح التي اجتاحت قضية الحسن بين قضايا أهل البيت عليهم السلام، ومن هنا جاءت الشبهات التي نسجت هيكل المشكلة التاريخية التي لغا حولها اللاغون ما شاء لهم اللغو، فزادوا
الواقع تعقيداً وابتعاداً به عن فهم الناس.
ثم كان من طبيعة هذا اللغو - أبعد ما يكون عن التغلغل في الصميم من تسلسل الحوادث - أن يرتجل الاحكام، وأن يتناول قبل كل شيء سياسة الحسن فينبزها بالضعف، ويتطاول عليها بالنقد غير مكترث ولا مرتاب.
وسنرى بعد البحث، أيّ هاتيك الآراء مما اختاره الحسن أو مما افترضه الناقدون، كان أقرب الى الصواب، وانفذ الى صميم السياسة.
وما كان الحسن في عظمته بالرجل الذي تستثار حوله الشبه، ولا بالزعيم الذي يسهل على ناقده أن يجد المنفذ الى نقده والمأخذ عليه.
________________________________________
(1) شرح النهج (ج 4: ص 15).
(2) شرح النهج (ج 4 ص 12).
(3) احتجاج الطبرسي (151).

 


source : www.sibtayn.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أروى بنت الحارث
البشائر ببعثته
بقيت إلا الرأس
خيبر
حرب صافوراء مع وصي موسي (علیه السلام)
هل كتب الشيعة تكفر عامة الصحابة كافة ؟
مناظرة الإمام الجواد(ع) مع ابن اكثم
خطبة الإمام السجاد ( عليه السلام ) في الكوفة
الابتعاد عن التشيع .
المذهب الحنبلي

 
user comment