وردت كلمة (الفتنة) في القرآن والسنة بمعنى عام، ومعنى خاص.
فالمعنى العام: كل امتحان وابتلاء يتعرض له الإنسان، سواء كان من نفسه أو من الشيطان أو الناس، فينجح فيه وينجو من الفتنة، أو يسقط فيها.
والمعنى الخاص: الأحداث والأوضاع التي تؤدي إلى افتتان المسلمين عن دينهم. وهذا المعنى هو المقصود بالفتن التي أنذر منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد روى الصحابة والتابعون على اختلاف مذاهبهم أحاديث عديدة حذَّر فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الفتن من بعده، وكان الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه معروفاً بين الصحابة بأنه خبير بأحاديث الفتن، لأنه كان يهتم بسؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها ويحفظ ما يقوله. ولذا نجد كثيراً من أحاديث الفتن في المصادر مسنداً إلى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث كان حذيفة من خاصة أصحابه أيضاً، وكان(ره) يقول: (ما من صاحب فتنة يبلغون ثلاث مئة إنسان إلا لو شيءت أن أسميه باسمه واسم أبيه ومسكنه إلى يوم القيامة. كل ذلك مما علمنيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
وكان يقول: (لو حدثتكم بكل ما أعلم ما رقبتم بي الليل!).
أي لقتلتموني فوراً وما انتظرتم بي إلى الليل. (مخطوطة ابن حماد ص1- 2)، وهذا يدل على أن الأمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد دخلت في الفتنة.
وقد بلغ من اهتمام المسلمين بأخبار الفتن أنها غلبت عند بعضهم أحياناً على أخبار المهدي عليه السلام وظهوره، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن الأمة لاتخرج من الفتنة إلا على يده، فعقد لها أصحاب الموسوعات الحديثية أبواباً وفصولاً بعنوان(الفتن أو الملاحم والفتن) أي الأحداث والمعارك المهمة التي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوقوعها.
كما ألف عدد من الرواة والعلماء مؤلفات خاصة باسم الفتن، والملاحم، وما شابه، جمعوا فيها الأحاديث الواردة فيها.
وتتفاوت الأحاديث في تعداد الفتن التي حذرا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمة منها، فيذكر بعضها أن عددها خمس فتن، ويذكر بعضها أنها أربع أو ست أو سبع وأكثر، ولعل السبب في اختلاف الرواة أو الروايات في عددها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في بعض المقامات يعدد الفتن الداخلية ويصفها، وفي بعضها يعدد الفتن الخارجية ويصفها، أو يذكر الفتن بحسب أنواعها وتأثيرها على المسلمين.
والذي يهمنا هنا ليس البحث في تعدادها وبدايتها وتطبيقها على تاريخ المسلمين، بل معرفة الفتنة الأخيرة منها، التي يتفق الجميع على أنها تنجلي بظهور المهدي عليه السلام، والتي تنطبق أوصافها وأحداثها الواردة في الأحاديث الشريفة على الفتنة الغربية التي عظم بلاؤها واشتدت وطأتها على شعوب الأمة في مطلع هذا القرن، حيث غزانا الغربيون في عقر ديارنا، وسيطروا علىمقدراتنا وشؤوننا، وشاركهم الشرقيون فغزوا قسماً من بلادنا، وأزالوا منها معالم الإسلام، وضموها إلى دولتهم.
وهذه نماذج من الأحاديث الشريفة.
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( لتأتين على أمتي أربع فتن: الأولى تستحل فيها الدماء. والثانية تستحل فيها الدماء والأموال. والثالثة تستحل فيها الدماء والأموال والفروج. والرابعة صماء عمياء مطبقة، تمور مور السفينة في البحر، حتى لايجد أحد من الناس ملجأ. تطير بالشام، وتغشى العراق، وتخبط الجزيرة بيدها ورجلها. يعرك الأنام فيها البلاء عرك الأديم، لا يستطيع أحد أن يقول فيها مه مه! لا ترفعونها من ناحية إلا انفتقت من ناحية أخرى). (الملاحم والفتن ص17).
وفي رواية: ( إذا ثارت فتنة فلسطين تردد في الشام تردد الماء في القربة، ثم تنجلي حين تنجلي وأنتم قليل نادمون). (ابن حماد ص63) وسيأتي ذلك في دور اليهود في عصر الظهور.
وفي رواية: (تطيف بالشام، وتغشى العراق، وتعرك الجزيرة) (ابن حماد: ص9)
وفي رواية أخرى: (ثم تكون فتنة كلما قيل انقطعت تمادت، حتى لايبقى بيت إلا دخلته ولا مسلم إلا صكته، حتى يخرج رجل من أهل بيتي). (ابن حماد: ص10)
ونلاحظ في هذا الحديث الشريف والأحاديث الكثيرة المشابهة عدة صفات لهذه الفتنة، التي هي الأخيرة بحسب كل الروايات:
أولاً: أن أخبارها بلغت حد التواتر الإجمالي في مصادر الشيعة أو السنة، بمعنى أنه قد رواها رواة عديدون بالمعنى وإن اختلفت ألفاظ رواياتهم، بحيث يحصل العلم للمتأمل أن مضمون هذه الأخبار قد صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.
ثانياً: أنها فتنة عامة تشمل كل أمور المسلمين الأمنية والثقافية والإقتصادية حيث تستحل فيها المحارم كلها كما في حديث آخر أيضاً، فهي (صماء عمياء) أي لا تسمع حتى تدفع بالكلام، ولا ترى فتميز بين أحد وآخر، بل تشمل الجميع وتطبق عليهم، وتدخل كل بيت وتصك بضربتها شخصية كل مسلم، وتموج بمجتمع المسلمين موجاً شديداً كمور السفينة في البحر المضطرب، ولا يجد أحد ملجأ من خطرها على دينه ودين أسرته، ولا ملجأ من ظلم الحكام ومن وراءهم.
ثالثاً: أن شرها وبداية موجها يتركز على بلاد الشام (تطير بالشام) أي تبدأ من بلاد الشام، التي سموها بلد الإشعاع وزرعوا فيها إسرائيل، وفي رواية (تطيف بالشام) أي تحيط ببلاد الشام، ثم تمتد إلى بقية بلاد المسلمين.
بل أطلقت إحدى الروايات الشريفة عليها اسم (فتنة فلسطين) التي يتركز موجها على أهل بلاد الشام أكثر من غيرهم.
رابعاً: أن هذه الفتنة تتمادى زمناً طويلاً ولاينفع معها أنصاف الحلول، لأنها فتنة حضارية أعمق من حلول الترقيع والصلح، ولأن موج المقاومة في الأمة وموج عداوة العدو يفتق الحلول من ناحية أخرى: (لا ترقعونها من ناحية إلا انفتقت من ناحية أخرى) وفي رواية: (لا ترتقونها من جانب إلا انفتقت أو جاشت من جانب آخر) والمعنى واحد، لأن حلها يكون فقط بحركة التمهيد للمهدي عليه السلام في الأمة، ثم بظهوره المبارك أرواحنا فداه.
وقد صرحت العديد من رواياتها بأنها متصلة بظهور المهدي عليه السلام وأنها آخر الفتن، وبعض رواياتها وإن وردت مطلقة لم يصرح فيها بأنها الفتنة التي قبل ظهور المهدي عليه السلام، ولكنها ذكرت أنها الفتنة الأخيرة، ووصفتها بنفس الصفات. فتكون هي المقصودة لا محالة، حملاً للمطلق على المقيد.
هذه الصفات الأساسية في هذه الفتنة، وصفات أخرى وردت في أحاديث أخرى، لا يمكن تطبيقها على أي فتنة داخلية أو خارجية تعرضت لها الأمة من صدر الإسلام إلى عصرنا هذا، سوى الفتنة الغربية. فهي لا تنطبق على الفتن الداخلية في صدر الإسلام وبعده، ولا على فتنة الغزو المغولي، ولا على فتنة الغزو الصليبي في مراحل حملاته التاريخية التي بدأت قبل نحو تسع مئة سنة، وكانت في مد وجزر متباعدين.
وإنما تنطبق فقط على مرحلته الأخيرة حيث تمكن الغربيون من غزو الأمة غزواً كاملاً، ودخلت جيوشهم كل بلادها وأسقطوها صريعة في فتنتهم، وزرعوا في قلبها قاعدة حلفائهم اليهود.
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والذي نفسي بيده ليلين أمتي قوم، إذا تكلموا قتلوهم، وإن سكتوا استباحوهم. ليستأثرن بفيئهم، وليطأن حرماتهم، وليسفكن دماءهم، وليملأن قلوبهم دغلاً ورعباً، فلا تراهم إلا وجلين خائفين مرعوبين.
عندها يجئ قوم من المشرق وقوم من المغرب يلون أمتي، فالويل لضعفاء أمتي منهم، والويل لهم من الله، لا يرحمون صغيراً، ولا يوقرون كبيراً، ولا يتجافون من شيء. جثثهم جثث الآدميين، وقلوبهم قلوب الشياطين). (بشارة الإسلام ص25)
وهذا الحديث الشريف يكشف عن الترابط بين الظلم الداخلي والإستعمار الخارجي، ويجعل السبب في سيطرة الكفار الشرقيين والغربيين على الأمة جور حكامها وظلمهم لشعوبهم المسلمة، وإرهابهم وخنقهم لحرياتهم، لأن ذلك يجعل الناس ناقمين على حكامهم مشغولين بمصيبتهم بهم عن دفع العدو الخارجي، فيستغل العدو ذلك ويغزو بلادهم بحجة إنقاذهم من ظلم الحكام، كما فعل نابليون في غزوه لمصر! فقد وجه رسالة إلى المصريين عندما اقتربت سفنه من الساحل المصري يمدح فيها الإسلام ويظهر حبه له! وأنه إنما جاء لينقذ المصريين من ظلم المماليك!
ثم واصل سياسته هذه بعد احتلاله مصر، حتى أنه لبس الزي المصري وأعلن إسلامه، واحتفل بعيد المولد النبوي!
ثم استعملت بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا أساليب مشابهة، مدعية أنها جاءت لتحرير شعوب المسلمين، وما زالت تستعملها لإدامة سيطرتها على بلاد المسلمين ومقدراتهم.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يزال بكم الأمر حتى يولد في الفتنة والجور من لا يعرف غيرها، حتى تملأ الأرض جوراً فلا يقدر أحد يقول: الله. ثم يبعث الله عز وجل رجلاً مني ومن عترتي فيملأ الأرض عدلاً كما ملأها من كان قبله جوراً). (البحار:51/ 68).
وهذا الحديث الشريف يدل على أن الفتنة الأخيرة تستمر أجيالاً حتى يولد فيها الجيل من أبناء المسلمين لا يعرف فكراً غير فكر الإنحراف عن الدين، ولا سياسة غير سياسة الظلم والجور. وهو تعبير دقيق عن الأجواء الثقافة المسيطرة، التي ينشأ الطفل المسلم في ظلها وهو لايعرف شيئاً عن أجواء الإسلام وثقافته وعدله، إلا من هيأ الله تعالى له أسباب الهداية والعصمة.
ومعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (حتى تملأ الأرض جوراً فلا يقدر أحد يقول: الله) أن قوانين الظلم والجور وسياسات الظالمين الجائرين تشمل كل مرافق الحياة ومناطقها.
حتى لا يقدر أحد أن يقول: نحن مسلمون ربنا الله تعالى، وهو يأمرنا برفض الظلم والجور.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (إن دولة أهل بيت نبيكم في آخر الزمان، ولها إمارات فإذا استثارت عليكم الروم والترك، وجهزت الجيوش. ويتخالف الترك والروم، وتكثر الحروب في الأرض). (البحار:52/208).
وكلامه عليه السلام واضح في أن فتنة الروم والترك وتحركهم لغزو بلادنا من أمارات ظهور المهدي عليه السلام. وتعبير (استثارت) تعبير دقيق، أي تحركت ذاتياً على بلادنا الإسلامية من أجل التسلط عليها واستثمارها.
وكذلك تعبير (ويتحالف الترك والروم) وذلك في صراعهم على تقاسم النفوذ والسيطرة بعد أن كانوا متخالفين ولكنهم متفقون في عدائهم لنا.
(وتكثر الحروب في الأرض) كما نرى أنه لا تخلو قارة من حرب أو أكثر، ولا تهدأ حرب حتى تنفتح حرب أخرى أو أكثر، كل ذلك بسبب استثارة الروم، واليهود وراءهم يشعلون فتيل الحروب كلما استطاعوا.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ينزل بأمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم لم يسمع بلاء أشد منه، حتى تضيق بهم الأرض الرحبة، وحتى تملأ الأرض جوراً وظلماً حتى لا يجد المؤمن ملجأ يلجأ إليه من الظلم. حتى يبعث الله عز وجل رجلاً من عترتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً. يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض. لا تدخر الأرض من بذرها شيئاً إلا أخرجته، ولا السماء من قطرها إلا صبته عليهم مدراراً). (بشارة الإسلام ص 28).
وعن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ويح هذه الأمة من ملوك جبابرة كيف يقتلون ويطردون المسلمين إلا من أظهر طاعتهم! فالمؤمن التقي يصانعهم بلسانه ويفر منهم بقلبه. فإذا أراد الله تبارك وتعالى أن يعيد الإسلام عزيزاً قصم ظهر كل جبار عنيد، وهو القادر على ما يشاء، وأصلح الأمة بعد فسادها.
يا حذيفة لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي، يظهر الإسلام، والله لا يخلف وعده وهو على كل شيء قدير).( بشارة الإسلام ص 29).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم، تداعي الأكلة على قصعتها. وأنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، من حب الدنيا وكراهية الموت). (الملاحم والفتن ص129)
وهي أحاديث واضحة بليغة عليها نور النبوة، تصور حالة الأمة مع عدوها المتسلط، وتبشر بالفرج بظهور المهدي عليه السلام.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يستخدم المشركون المسلمين ويبيعونهم في الأمصار، ولا يتحاشى لذلك بر ولا فاجر. ولا يزال ذلك البلاء على أهل ذلك الزمان، حتى إذا يئسوا وقنطوا وأساؤوا الظن أن لايفرج عنهم، إذ بعث الله رجلاً من أطايب عترتي وأبرار ذريتي، عدلاً مباركاً زكياً، لايغادر مثقال ذرة، يعز الله به الدين والقرآن والإسلام وأهله، ويذل به الشرك وأهله. يكون من الله على حذر، لا يغتر بقرابة، ولا يضع حجراً على حجر، ولايقرع أحداً في ولايته بسوط إلا في حد. يمحو الله به البدع كلها، ويميت الفتن كلها. يفتح الله به باب كل حق، ويغلق به باب كل باطل. يرد به سبي المسلمين حيث كانوا). ( الملاحم والفتن ص 108).
وهو حديث يصور حالة استضعاف المسلمين المؤلمة، وبيعهم وشراءهم وسبيهم في البلاد. وهي حالة لا تقتصر على المسلمين الذين يعملون عند المشركين خدماً وموظفين محتقرين، بل تشمل بيع المشركين لشعوبنا الإسلامية وشراءها وتهجيرها وسبيها.
ثم يذكر الحديث الشريف ظهور المهدي المنقذ أرواحنا فداه، فجأة في حالة اليأس والإستضعاف.