جاء في بعض الارشادات الحث على الإهتمام بالمصدر الذي يستقى العلم منه و أن ينظر الانسان الى علمه من أين يأخذه، و في الوقت نفسه جاءت توصية أخرى تقول: "انظر الى ما قيل و لا تنظر الى من قال"، أ ليس بين المقولتين تناف و تعارض ظاهري، و كيف يمكن حل هذه الاشكالية؟
الجواب الإجمالي
الموقف الاسلامي يؤكد على أن الانسان في مجال معرفة الحق و الحقيقة لا ينبغي له أن يجعل المعيار شخصية المتكلم فقط، بل لابد من تحليل الكلام و التأمل فيه و معرفة مدى تطابقه مع المعايير العقلية و الدينية العامة ثم الخروج بالموقف المناسب، فاذا كان الكلام الصادر متوفراً على جميع المعايير و المقاييس العلمية و الاخلاقية الصحيحة فحينئذ يؤخذ به و لا ينظر الى مصدره و المتحدث به. و لكن هذا لا يعني بحال من الاحول عدم الاخذ بنظر الاعتبار اخلاقيات الاستاذ؛ لان التعلم على يد انسان قد توفر على البعدين العلمي و الاخلاقي و انسجمت سلوكياته مع معتقداته، يعود على المتعلم بوافر النفع و التكامل الاخلاقي و المعرفي. هذا أولا.
و ثانياً: ان الأئمة (ع) عليهم قد أباحوا لنا أخذ الحكمة من أي مصدر كان و ان الحكم ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها، الا انهم في الوقت نفسه حذروا من التلمذ و الجلوس تحت منبر انسان لا ينسجم علمه مع سلوكه؛ و ذلك للانعكاسات السلبية و المخاطر النفسية التي يبتلى بها المتعلم، فان المعلم في الوقت الذي يلقي الى تلامذته بالعلوم و المعارف العقلية و النظرية يلقي بظلاله على سلوكياتهم و يتأثرون بها بصورة لا شعورية قطعاً. و من تلك المخاطر التي يبتلى بها التلميذ:
1. قد يخفي الاستاذ بعض المعارف عن تلامذته و ذلك لعدم انسجامها مع ميوله النفسيه و منافعه الشخصية، و حينئذ يكون قد اعطاهم معارف ناقصة؛ 2. تزعزع الثقة بالمعارف التي تعلموها من استاذهم؛ 3. ان هكذا استاذ قد يستفيد من تلك المعارف و المصطلحات التي تعلمها ليمزج الحق بالباطل في مركب لا يستطيع الطالب المبتدئ من تمييزه، و بهذا يقع فريسة للشبهات المؤطرة باطار الحق.
إنطلاقاً من هذه المخاطر و المحتملات العقلائية حذر الأئمة (ع) من خطورة الاستاذ و دوره التضليلي اذا لم يكن متوفراً على عنصري العلم و التقوى، وقد اوصوا بضرورة البحث عن الاستاذ الجدير بالأخذ منه و عدم التساهل في هذا المجال، كي لا يقع الانسان في مطبات خطيرة و منزلقات تؤدي به الى الهاوية من دون أن يشعر.
و بهذا يتضح أنه لا معارضة و لا مضادة بين الطائفتين من الارشادات و الوصايا التي جاءت عن المعصومين (ع)؛ و ذلك لان كل واحدة منها ناظرة الى قضية تختلف عن الأخرى اختلافاً تاماً، إذ الاولى ناظرة الى مجرد اخذ الحكمة من دون تلمذ و تعامل مستمر مع الاستاذ، و الثانية ناظرة الى حالة التلمذ و التواصل معه. بل الاكثر من ذلك ان كلا الطائفتين يكمل بعضها البعض الآخر.
الجواب التفصيلي
ينبغي الاشارة في البدء الى قضية مهمة مستفادة من التجارب الحياتية، و هي:
قد يوجد أحيانا بين الاقارب و الاصدقاء من إبتلي بتعاطي المخدرات أو المشروبات الكحولية أو أي سلوكية انحرافية أخرى، الا أنه بارع في مجال تخصصه كالرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء، فاذا ما استعصت مسألة من المسائل التي لها علاقة بتخصصه و قام أحد أبناء الاسر القريبة منه أو الاصدقاء بالسؤال عن تلك المسألة، و حصل منه على الإجابة الصحيحة و الحل الشافي لمسألته، فهل يرى أولياء ذلك التلميذ غضاضة في هذا المقدار من التعامل؟ قطعاً كلا. و هل يمكن القول بان هذا الجواب لا ينفع لانه صدر من إنسان مبتلى بالمخدرات مثلا!! قطعا لا يصدر هذا المعنى من أي عاقل ينظر الى هذه الامور بموضوعية؛ و ذلك لان الجواب الصحيح محترم سواء صدر من عالم مؤمن أو من كافر أو من انسان مبتلى بأمراض سلوكية.
نعم، لو قدّر للأسر أن ترسل أبناءها الى المدارس الخصوصية أو الأهلية لتدعيم البنية العلمية لديهم، فحينئذ تجد تلك العوائل تصر على التأكد من الطبيعة السلوكية لهؤلاء المعلمين و مدى التزامهم الاخلاقي و السلوكي، و لا يسمحون لانفسهم بان يضعوا فلذة اكبادهم و أبناءهم تحت الاشراف الدائم لهؤلاء المعلمين المنحرفين؛ و ذلك لان القضية لم تنحصر حينئذ بتحصيل المسائل العلمية فقط، بل القضية تتعدى الى قضية أخرى مهمة جداً تتمثل بالاعداد الروحي و السلوكي لهم، الأمر الذي يجعل الآباء يقلقون على مصير أبنائهم و لا يتساهلون به أبداً.
إذا اتضح ذلك ننتقل الى حل اشكالية التعارض بين التوصيتين:
يظهر من خلال التأمل في الروايات الواردة في هذا المجال:
1. الموقف الاسلامي يؤكد على أن الانسان في مجال معرفة الحق و الحقيقة لا ينبغي له أن يجعل المعيار شخصية المتكلم فقط، بل لابد من تحليل الكلام و التأمل فيه و معرفة مدى تطابقه مع المعايير العقلية و الدينية العامة ثم الخروج بالموقف المناسب، فاذا كان الكلام الصادر متوفراً على جميع المعايير و المقاييس العلمية و الاخلاقية الصحيحة فحينئذ يؤخذ به و لا ينظر الى مصدره و المتحدث به.
من هنا نرى النبي الاكرم (ص) يشير الى هذا المعنى عندما قال "اطلب العلم و لو كان في الصين"[1]، كذلك اشار الى هذا المعنى أمير المؤمنين (ع) في حكمته المعروفة: " خذ الحكمة ممن أتاك بها و انظر إلى ما قال و لا تنظره إلى من قال".[2] و عنه (ع) أيضاً: " خُذِ الْحكمَةَ أَنَّى كَانَتْ فَإِنَّ الْحِكْمَةَ تَكُونُ فِي صَدْرِ الْمُنَافِقِ فَتَلَجْلَجُ فِي صَدْرِهِ حَتَّى تَخْرُجَ فَتَسْكُنَ إِلَى صوَاحِبِهَا فِي صَدْرِ الْمُؤْمِنِ".[3]
و بعبارة أخرى: " الحِكمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَخُذِ الْحِكْمَةَ و لوْ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ".[4]
المستفاد من هذه الطائفة من الروايات أن الحكمة و كلام الحق و المعرفة الصحيحة لابد من الأخذ بها مهما كان مصدرها و بأي وسيلة حصلت.
نعم، لابد من الساعي في هذا الطريق - طريق تحصيل الحكمة- أن يكون من المؤهلين للتمييز بين الحق و الباطل و معرفة الحكمة و متوفر على درجة جيدة من النقد و التحليل لما يتلقاه من كلام، و من هنا نجد النبي عيسى (ع) يوصي اصحابه بقوله: " خُذُوا الْحَقَّ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَ لا تَأْخُذُوا الْبَاطِلَ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ كُونُوا نُقَّادَ الكَلامِ فَكَمْ مِنْ ضَلالَةٍ زُخْرِفَتْ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَمَا زُخْرِفَ الدِّرْهَمُ مِنْ نُحَاسٍ بِالْفِضَّةِ الْمُمَوَّهَةِ النَّظَرُ إِلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ وَ الْبُصَرَاءُ بِهِ خُبَرَاء".[5]
و الجدير بالذكر أن ما روي عن أمير المؤمنين (ع): "انظر الى ما قال" و المأخوذ من الآيات و الروايات[6]، لا يعني بحال من الاحوال التلقي الاعمى بلا قيد أو شرط، بل المراد الأخذ به بعد إمعان النظر و التأمل فيه و مطابقته مع المعايير الحقة.
2. أما بالنسبة الى انتخاب الاستاذ و القدوة و المربي، فهذه قضية نظر الاسلام اليها بحساسية شديدة جداً، إذ حذر من المعلم الفاسد و الانسان المنحرف و حث على الاقتداء بالصالحين و الأخذ من المصادر النقية و النفوس الزكية، فعلى سبيل المثال نجد الإمام الباقر (ع) في بيانه لقول اللَّه عزَّ و جلَّ (فلينظر الإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) يقَول: "علمهُ الَّذي يأْخذهُ عمَّنْ يَأْخُذُهُ" [7] و روي عن الامام العسكري (ع) أنه قال: " مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ حَافِظاً لِدِينِهِ مُخَالِفاً على هَوَاهُ مُطِيعاً لأَمْرِ مَوْلاهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوه ".[8] فالعالم المتوفر على هكذا خصوصيات هو الجدير بالاتباع، و لا ينبغي اتباع من لا يتوفر عليها و أن احتمل أنه يلقي اليهم بين الحين و الآخر بعض الحكم و المواعظ المفيدة؛ لكن يبقى دائماً أن هكذا عالم قد يقترف المزالق التالية:
2-1. ان بعض المعارف و القيم العلمية لا تنسجم مع منافعه الشخصية و رغباته المادية، و حينئذ يضن بها على تلامذته و لا يضعها تحت اختيارهم. و لقد أشار القرآن الكريم الى هذا النوع من العلماء ذاماً و موبخاً لهم.[9]
2-2. لا ينسجم سلوكه مع ما يعلم و أنه لا يعمل بما علم، فعندما يرصد تلامذته هذا الانفصام بين القول و العمل لديه، يصابون بحالة من الاضطراب النفسي و القلق المعرفي؛ و ذلك لحصول حالة من عدم الثقة بما تعلموه من استاذهم إذ قد يكون غير مطابق للواقع و انه مجرد تلاعب بالالفاظ لا غير، مما ينجر في نهاية المطاف الى عدم الانتفاع بالحكم التي يتلقونها منه.
فقد جاء في وصية ذي القرنين الاشارة الى هذا المعنى الخطير جداً: " لا تَتَعَلَّمِ الْعِلْمَ مِمَّنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ لا يَنْفَعُكَ".[10] و هذا المعنى جاء أيضاً في كلام السيد المسيح (ع) أيضاً حيث قال: " الدُّنْيَا دَاءُ الدِّينِ و الْعَالِمُ طَبِيبُ الدِّينِ فَإِذَا رَأَيْتُمُ الطَّبِيبَ يَجُرُّ الدَّاءَ إِلَى نَفْسِهِ فَاتَّهِمُوهُ و اعْلَمُوا أَنَّهُ غَيْرُ نَاصِحٍ لِغَيْرِه".[11]
3-2. و الاخطر من ذلك كله، إن هكذا عالم صحيح أنه توفّر على مقدار من العلم و المعرفة النظرية الا أنه لم يبذل أي جهد في الاعداد الروحي و البناء النفسي، و من هنا يكون خطره على تلامذته أكبر؛ و ذلك لانه قد يستفيد من تلك المعارف و المصطلحات التي تعلمها ليمزج الحق و الباطل في مركب لا يستطيع الطالب المبتدئ من تمييزه، و بهذا يقع فريسة للشبهات المؤطرة باطار الحق. و قد أرشد الباري تعالى الى هذا النوع من التلاعب بالمفاهيم و محذرا من خلط الامور في قوله تعالى: " و لا تلبسوا الحق بالباطل و تکتموا الحق و أنتم تعلمون".[12]
و روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه اشار الى خطر هذه الظاهرة قائلا: " قطع ظهري رجلان من الدنيا، رجل عليم اللسان فاسق، و رجل جاهل القلب ناسك، هذا يصد بلسانه عن فسقه، و هذا بنسكه عن جهله، فاتقوا الفاسق من العلماء و الجاهل من المتعبدين، أولئك فتنة كل مفتون، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: يا علي هلاك أمتي على يدي كل منافق عليم اللسان".[13]
و يمكن الاشارة هنا الى الخوارج كنموذج لهؤلاء العلماء - ظاهراً- الذين انطلقوا من الآيات القرآنية الكريمة جهلا بتطبيقاتها،[14] فتصدى لهم الإمام أمير المؤمنين (ع) مبينّاً أن ما رفعوه من شعار ما هو الا " كلمة حق يراد بها باطل".[15]
إنطلاقاً من هذه المخاطر و المحتملات العقلائية حذر الأئمة (ع) من خطورة الاستاذ و دوره التضليلي اذا لم يكن متوفراً على عنصري العلم و التقوى، وقد اوصوا بضرورة البحث عن الاستاذ الجدير بالأخذ منه و عدم التساهل في هذا المجال، كي لا يقع الانسان في مطبات خطيرة و منزلقات تؤدي به الى الهاوية من دون أن يشعر.
و بهذا يتضح أنه لا معارضة و لا مضادة بين الطائفتين من الارشادات و الوصايا التي جاءت عن المعصومين (ع)؛ و ذلك لان كل واحدة منها ناظرة الى قضية تختلف عن الأخرى اختلافاً تاماً، إذ الاولى ناظرة الى مجرد اخذ الحكمة من دون تلمذ و تعامل مستمر مع الاستاذ، و الثانية ناظرة الى حالة التلمذ و التواصل معه. بل الاكثر من ذلك ان كلا الطائفتين يكمل بعضها البعض الآخر.
[1] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشیعة، ج 27، ص 27، ح 33119، مؤسسة آل البیت، قم، 1409 ه ق.
[2] التميمي الآمدي، عبد الواحد بن محمد، غرر الحکم و درر الکلم، ص 58، ح 612، مكتب الاعلام الاسلامي، قم، 1366 ه ش
[3] نهج البلاغة، ص 481، الحکمة 79، انتشارات دار الهجرة، قم، بلا تاريخ.
[4] نفس المصدر، الحكمة 80.
[5] المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار، ج 2، ص 96، ح 39، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 ه ق.
[6] المائدة، 75؛ الانعام، 65 و ...
[7] الكافي ج : 1 ص : 50، الحديث 8.
[8] وسائل الشیعة، ج 27، ص 131، ح 33401.
[9] انظر: البقرة، 146، 159، 174 و ....
[10] بحار الانوار، ج 2، ص 99، ح 53.
[11] وسائل الشیعة، ج 20، ص 25، ح 24938.
[12] انظر: البقرة، 42؛ آل عمران،71.
[13] الشيخ الصدوق، الخصال، ج1، ص 69، ح 103، نشر جماعة المدرسین، قم، 1403 ه ق
[14] انعام، 57؛ یوسف، 40 و 67، "إن الحکم إلا لله".
[15] نهج البلاغة، ص 82، خطبه.
source : www.islamquest.net