يقول تعالى : (إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكّة مباركاً و هدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام ابراهيم ومَن دخله كان آمناً وللّه على الناس حجّ البيت من استطاع اليه سبيلاً ومن كفر فانَّ الله غني عن العالمين)1.
صلة الآية بما سبقها :
لقد سُبقت الآية اكريمة الآنفة بقوله تعالى : (فاتّبعوا ملّة ابراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)2،ثم جاء قوله تعالى : (انّ أول بيت وُضع للناس ...)والذي يدلنا على هذا الترتيب انّ خطاب الآية ينصرف إلى اليهود الذين كانوا يزعمون انهم على دين إبراهيم الخليل، فجاء القرآن يحاججهم : لو أنكم على ملة إبراهيم الخليل فعلاً وحقّاً، إذاً لعظمتم البناء الإبراهيمي ، واتّخذتموه قبلةً ومطافاً.
شبهة أهل الكتاب :
نستفيد من ظاهر الآية أيضاً انها جاءت ناظرة لشبهة كان يُلقي بها أهل الكتاب على المسلمين ، ومفاد الشبهة :
أولاً : لا مجال للباطل أن ينفذ إلى دين ابراهيم الخليل(عليه السلام). لذلك لا يصح القول بالنسخ الذي يذهب اليه المسلمون واتخذوا بمقتضاه الكعبة قبلة بدلاً من بيت المقدس .
فبيت المقدس لا زال في زعم أهل االكتاب هو قبلة المسلمين التي يجب أن يتولّوها كما كانوا يتولونها فعلاً قبل الهجرة إلى المدينة ، وإنّ تحوّلهم عنه إلى الكعبة بذريعة النسخ لا يعدو أن يكون ضرباً من الوهم والخيال ، لأنّ النسخ لا يجوز في حكم الله!
ثانياً : لقد أتيتم باطلاً في قولكم : إنَّ هذا السلوك هو من دين ابراهيم ; وفي زعمكم أنَّ ابراهيم(عليه السلام) كان مسلماً وأنكم مُتّبِعوُه . فأنتم اذن اجترحتم الباطل مرتين ; مرَّة حين قلتم بالنسخ ; ومرَّة حين نسبتم تصرفكم في تحويل القبلة إلى ابراهيم وقلتم إنكم تبعٌ له في ذلك!
معالجة شبهة أهل الكتاب :
إنَّ أول ما يمكن أن يقال في جواب الشبهة : إنَّ النسخ جائز وليس ثمة ما يدل على استحالته.
ثمّ إنَّ الحكم الأصلي للقبلة كانَ يختص بالكعبة ، يقول تعالى : (إنَّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة ... )فابراهيم(عليه السلام) كان قد اضطلع بمهمة بناء الكعبة ورفع قواعدها واتخاذها قبلة ومطافاً قبل أن يقوم سليمان(عليه السلام) ببناء بيت المقدس في فلسطين.
لذا فإنَّ رجوع المسلمين إلى الكعبة قبلةً وترك بيت المقدس ، إنما هو عودٌ إلى السيرة الابراهيمية، ورجوع إلى القبلة الأُلى التي تولاّها ابراهيم، ومن اقتفى أثره من أنبياءالله.
هذه الحقيقة يحدثنا بها القرآن حين يعرض سبحانه إلى سيرة ابراهيم. فابراهيم(عليه السلام) حين ترك ابنه وزوجته في أرض مكة القفرة دعا ربّه : (ربنا إني أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع عِندَ بيتك المحرّم ... )3 ثم أبان(عليه السلام)مُراده من ذلك بقوله : (ربَّنا ليقيموا الصلاة )4 فالقصد اذن هو اقامة الصلاة في أشرف بقعة من بقاع الأرض ، أي انّ أفضل ذرية أُمرت أن تقيم الصلاة في أعظم أرض.
الموقع الإعرابي لكلمتي آ«مباركاًآ» وآ«هدىآ» :
إنَّ (مباركاً) و (هدىً )إما أن تكون منصوبة على الحال ، وهي متعلقة (ببكة )فيكون المعنى ; إنَّ البيت في حال البركة والهداية . وإمّا أن تكون آ«حالاًآ» للضمير آ«وضعآ» فيكون المعنى : آ«وضع مباركاً وهدىآ» أو آ«للناس مباركاً وهدىًآ» أو (للذي ببكة مباركاً وهدىً).
وما يعنينا التأكيد عليه أنَّ جميع هذه الاحتمالات نافذة قابلة للتطبيق ، لأنَّ الكعبة منار هداية لجميع الناس ، بحيث يستطيع البشر كافة أن ينالوا قسطاً من هداية الكعبة وبركاتها.
مواقع استعمال آ«الأوليةآ» في القرآن :
لقد استعمل القرآن الكريم مصطلح آ«الأوليةآ» في مواطن كثيرة تدل على النسبة، بيد أنَّ الاستخدام لهذه اللفظة في قوله تعالى : (أول بيت وضع للناس )هو استعمال نفسيّ.
أما في قوله تعالى من سورة التوبة (لا تقم فيه أبداً )5 حكاية عن نهي النبي من الاقامة في مسجد ضرار، وحثّه في المقابل للاقامة في مسجد قبا حيث يصفه سبحانه بقوله : (لمسجد أُسّس على التقوى من أوّل يوم أحق أن تقوم فيه )6. فانَّ استعمال (أول يوم)في الآية يكون نسبيّاً لا نفسياً، والمعنى : أنَّ المسجد أُسّس يوم بُني على التقوى.
ولقد ذكر الشيخ الطوسي(رحمه الله) عند تفسير الآية : آ«أول الشيء ابتداؤه ، ويجوز أن يكون المبتدأ لهُ آخر، ويجوز أن لا يكون له آخر، لأنّ الواحد أول العدد، ولا نهاية لآخره ، ونعيم أهل الجنة لَهُ أول، ولا آخر له ، فعلى هذا انما كان أول بيت ، لأنه لم يكن قبله بيت يحج اليهآ»7.
وقد ذهب مفسرّون آخرون8 إلى أنَّ الأول لا يستلزم دائماً، وبالضرورة أن يكون لَهُ ثان ، فقد يقول المرء : هذا سفري الأول إلى بيت الله الحرام ، دون أن يستلزم كلامه ضرورة أن يوفق لحج البيت مرةً أخرى . وعلى هذا يكون معنى الأولية هنا، أنّه لم يكن قبله شيء. وعليه ; حين يقال أول بيت ، فلا يستلزم القول أن يكون ثمة بيت ثان وهكذا.
وهذا الكلام لا يتعارض مع وجود بيوت أخرى للعبادة ، تكون ثانية وثالثة وهكذا ; من زاوية : (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه )9 بيد أنَّ وجود هذه البيوت لا يكون في مقابل وجود الكعبة . فكلام الشيخ الطوسي وإن كان صحيحاً في نفسه ، إلاّ أنّ مصداقه غير صحيح . فما يقوله من أن تنعم أهل الجنة له أول ولا آخر له لا يصح ، رغم أنَّ لهذا النعيم أولاً . ووجه عدم الصحة أنّ هذه النعم بنفسها لا أول لها ولا آخر، فالجنة موجودة الآن ـ لا أنها تخلق بعد الدنيا ـ ونعمها دائمة ثابتة دون انقطاع ، خصوصاً تلك الجنة التي يقول عنها تعالى : (عِندَ مليك مقتدر )10.
الأولية بالذات وبالغير :
إنَّ الأولية بالذات تختص بالله سبحانه فـ آ«هو الأول والآخرآ»11. وفيوضاته غير محدودة إذ آ«وَكلّ مَنّه قديمآ» وهو آ«دائم الفضلآ» لا أوّل لها ولا آخر، لكنه أول بالعرض لا بالذات، فانَّ بدايته ترتبط بـ آ«هو الأولآ» ونهايته بـ آ«هوالآخرآ» وذلك خلافاً لذات الله تعالى التي لا أول ولا آخر لها، وانما هو سبحانه بالذات ، الأول والآخر.
الكعبة أول معبد :
إنَّ الآية الكريمة تدل على أنَّ الكعبة هي أول معبد بني على سطح الارض. أما كون دلالة الآية على أنَّ الكعبة كانت أول بيت بني للسكن ، فهو أمر مستبعد ، ومثل هذا الاستنباط محفوف بالمشكلات، خصوصاً وأنَّ الأولية مقيّده بكون الكعبة بنيت آ«مسجداًآ».
بيد أنَّ ذلك لا يمنع من القول : إنَّ مكة هي أول أرض تكوّنت من سطح اليابسة، بعد أن انزاح عنها الماء . أما إن تُفيد الآية أنّ الكعبة كانت أول بيت; فالأمر ينطوي على اشكال كما أشرنا.
إلاّ أنَّهُ علينا أن نذكر أنَّ الآية مثلما لا تثبت ; فهي لا تنفي أيضاً، ومَرَدُّ ذلك أنَّ الجملة الوصفية أو المقيّدة لا مفهوم لها ـ بالمعنى الاصولي ـ وما لا مفهوم له لا اطلاق له أيضاً. والذي نقصدهُ بأنَّ الجملة لا مفهوم لها، أنَّ الجملة الوصفية واللقبية ليسَ بمقدورهما أن يقيِّدا الدليل اذا كانَ مطلقاً، لا انَّه بمقدورنا أن نقتنص الإطلاق منهما. وبه يتضح الفرق بين قولنا : إنّ الجملة لا مفهوم لها، وبين كون الدليل مطلقاً.
فالجملة الوصفية أو اللقبية لا مفهوم لها بمعنى لا تثبت، ولا تُفيد الاطلاق ، وانما يكون لها مفهوم في مقام التحديد وَ حسب، فلذلك اذا دلَّ دليل من الخارج ـ من خارج الآية ـ أنَّ الكعبة هي أول بيت بني على سطح الأرض ، على أساس آ«دحو الأرضآ» فإنَّ الآية لا تخالف ما يدل عليه مثل هذا الدليل. وإنما يصعب استظهار مثل هذا المعنى من الآية نفسها.
بناء الكعبة :
إنَّ المقصود من آ« البيت آ» هو خصوص الكعبة ، حيث يقول تعالى في سورة المائدة : (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس )12
آ«قياماًآ» هي مفعول ثان للفعل آ«جعلآ» . انَّ الله جعل الكعبة أو البيت الحرام يتصف بكونه عنصر قيام لجميع الناس .
وستتضح العلاقة بين هذه الصفة ، وبين ما رأيناه في الآية مورد البحث ، من أنَّ البيت ينطوي على سرّ البركة والهداية للناس كافة.
وما ينبغي أن نشير اليه أنَّ البيت كانَ موجوداً قبل ابراهيم(عليه السلام) ، إلاّ أنَّ عوامل كثيرة أثَّرت عليه من قبيل الطوفان ، فلم يبق على هيئته الاولى. وحين قام ابراهيم(عليه السلام) بتشييد البيت ورفع قواعده ، أصبحنا منذ تلك اللحظة أمام معالم واضحة لتاريخ البيت ومساره على مرَّ العصور.
واحدة من هذه المعالم ، يحدثنا عنها ما يحكيه سبحانه على لسان إبراهيم ، في سورة ابراهيم ، حيث يقول(عليه السلام) : (ربنا إني أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرَّم )13 فحين ترك الخليل زوجته هاجر وولده اسماعيل(عليهما السلام) ، في هذه الأرض القفرة وَهمَّ بوادعهما، سألته هاجر : آ«إلى من تدعني؟آ» فأجاب : إلى ربّ هذه البنية.
لذلك يقول ابراهيم(عليه السلام) : (ربنا إني أسكنت . . .) ثم بيَّن ما يقصده بما يحكيه القرآن على لسانه : (ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون )14 لأنك أنت آ«مقلب القلوبآ». ولقد قال ابراهيم (أفئدةً من الناس) وإلاّ لو كان الخليل(عليه السلام) قد قال كما يذكر الطبري في تفسير الآية : (أفئدة الناس) لحج جميع الناس سواء منهم اليهودي والنصراني وأصحاب الملل الأخرى.
لم تكن مكة أرضاً مواتاً يمكن استصلاحها لتعمر بالنبات والزرف وإنما كانت أرضاً جبلية صخرية تفتقر إلى الماء. لذلك عبَّرت الآية في دعاء الخليل(عليه السلام) عن وادي مكة بانَّهُ (غير ذي زرع) وَلم تعبّر عنه بأنَّهُ آ« لم يزرع آ» اذ لو كانت الأرض صالحة للزراعة ، بيد أنها مهملة بانصراف الجهد الانساني عنها، لقيل عنها آ« لم تزرع آ» من باب آ« عدم الملَكة آ» أما أنّها غير صالحة للزراعة والأعمار أصلاً فقد عبر عنها بأنهار آ« غير ذي زرع آ».
إلاّ أنَّ الخليل(عليه السلام) العارف بقدرات الله غير المتناهية ، قال معَ ذلك : (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) وقد أوكل الأمر اليه سبحانه في أن يفعل ما يشاء.
لقد تضمن هذا المقطع من الدعاء بيان المقاصد التالية :
1 ـ انَّ القصد الأساس هو أن يقيموا الصلاة (ربنا ليقيموا الصلاة) وإن كان ثمة مقاصد أخرى في السياق.
2 ـ طلب(عليه السلام) أن يعطف قلوب وعقول شطر من الناس إليهم.
3 ـ ثم أراد من ربّه أن يشملهم من الثمرات رزقاً (لعلّهم يشكرون).