في سيرة الزهراء سلام الله عليها مواقف مشرّفة من جهاد في سبيل الله ومحاجة مع بعض الصحابة ودعوة الى التوحيد ، وقد وردت اخبار واحاديث كثيرة كلها تجعل من فاطمة الزهراء عليها السلام المثل الاعلى في علو الهمة والبطولة والايثار وتبصرة الحق والتعاون على البر والتقوى والتمسك بالخلق وما الى ذلك . ونحن اذ نذكر هنا بعضاً من فضائلها ومناقبها في ازمان وسنين توالت . ففي خروج ابي سفيان الى المدينة للصلح واخفاقه ذكر ابن هشام فقال : خرج ابو سفيان فدخل على علي بن ابي طالب رضوان الله عليه وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها ، وعندها الحسن بن علي غلام يدب بين يديها . فقال : يا علي انك امس القوم بي رحماً واني جئتك في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً فاشفع لي الى رسول الله ، فقال : ويحك يا ابا سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امر لا نستطيع ان نكلمه فيه ، فالتفت الى فاطمة فقال : يا بنت محمد هل لك ان تأمري بنيّك هذا فيجير بين الناس ، فيكون سيد العرب الى آخر الدهر ؟ قالت : والله ما بلغ بنّي ذاك ان يجير بين الناس وما يجير احد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : يا ابا الحسن اني ارى الامور قد اشتدت عليّ فانصحني ، قال : والله ما اعلم لك شيئاً ، ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك ، قال : او ترى ذلك مغنياً عني شيئاً ؟ قال لا والله ما اظنه ، ولكني لا اجد لك غير ذلك ، فقام ابو سفيان في المسجد فقال : ايها الناس اني قد اجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره فانطلق ، فلما قدم على قريش ، قالوا ما وراءك ؟ قال : جئت محمداً فكلمته ، فو الله ما ردَّ عليَّ شيئاً ، ثم جئت ابن ابي قحافة فلم اجد فيه خيراً ، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته ادنى العدو ، قال : ابن هشام اعدى العدو (1) .
وفي ما امر به الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم عليها من أمور حج بيت الله الحرام ، قال ابن اسحاق : وحدثني عبد الله بن ابي نجيح : ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان بعث علياً رضي الله عنه الى نجران ، فلقيه بمكة وقد احرم ، فدخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضى الله عنها فوجدها قد حلت وتهيأت ، فقال : مالك يا بنت رسول الله ؟ قالت : امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نحلّ بعمرة فحللنا ، ثم اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من الحَير عن سفره ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق فطف بالبيت وحلّ كما حلّ باصحابك ؟ قال : يا رسول الله اني هللت كما اهللت ، فقال : ارجع فاحلل كما حل اصحابك ، قال : يارسول الله اني قلت حين احرمت : اللهم اني اهلّ بما اهلّ به نبيك وعبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : فهل وثبت على احرامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى فرغا من الحج ، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي عنهما (2) . وعن ابي هريره قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اول شخص يدخل علىّ الجنة فاطمة بنت محمد . وروي باللفظ الصريح يرويه كل من النجار ومسلم والترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال : قد كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء الا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون . وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد . وعن كتاب العترة النبوية مرفوعاً الى قتادة عن انس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : خير نسائنا مريم وخير نسائنا فاطمة بنت محمد وآسية امراة فرعون . وبإسناده ايضاً عن انس ان النبي صلى الله عليه وآله قال : حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد . وعنه ايضاً قالت عايشة لفاطمة : الا يسرك اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : سيدات نساء اهل الجنة أربع مريم بنت عمران وفاطمة بنت محمد وخديجة بنت خويلد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون . وعنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : اذا كان يوم القيامة قيل يا اهل الجمع غضوا ابصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد وعليها ربطتان خضراوان وفي بعض الروايات حمراوان (3) .
وروي عن مجاهد قال : خرج النبي صلى الله عليه وآله وهو آخذ بيد فاطمة فقال : من عرف هذه فقد عرفها ومن لم يعرفها فيي فاطمة بنت محمد ، وهي بضعة مني وهي قلبي وروحي التي بين جنبي فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله (4) . قال الشيخ عن الحسين الحويزي :
فاطمة بنت أحمد سادة الخلق جميعا لم تنـل مريـم وآسيـة الزهـرا رجـالها ونسـاءها ولا سارة ولا حوّاها
وروي ان اليهود كان لهم عرس فجاؤوا الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : لنا حق الجوار فنسألك ان تبعث فاطمة بنتك الى دارنا حتى يزداد عرسنا بها وألحوا عليه فقال : انها زوجة علي بن ابي طالب وهي بحكمه ، وسألوه ان يشفع الى علي في ذلك وقد جمع اليهود الطم والرمّ (5) من الحلي والحلل ، وظن اليهود انّ فاطمة تدخل في بدلتها وارادوا استهانة بها ، فجاء جبرئيل بثياب من الجنة وحلي وحلل لم يروا مثلها فلبستها فاطمة وتحلّت بها فتعجب الناس من زينتها والوانها وطيبها فلما دخلت فاطمة دار اليهود سجد لها نساؤهم يقبلن الارض بين يديها واسلم بسبب مارأوا خلق كثير من اليهود (6) .
لقد فقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته بناته بعد خديجة واحدة بعد الاخرى بعد ان كبرن وصرن ازواجاً وامهات ، فلم تبق له منهن غير فاطمة ، هؤلاء الابناء والبنات الذين تساقطوا من حوله قد دفنهم بيده تحت صفائح الثرى ، تركوا في نفسه قرحة ألم اندملت بمولد ابراهيم واثمرت مكانها رجاءً واملاً ، وكان حلاً له ان يمتلئ بهذا الامل غبطة واستبشاراً .
مرّ بنا كيف ان النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب فاطمة ، يصونها ويؤنس وحشتها ، لكن محمداً قد مرض وقد بلغت به شدة المرض حداً آلمه ، ذلك ان الحمى زادت به حتى لقد كانت عليه قطيفة ، فاذا وضع ازواجه وعوّاده ايديهم من فوقها شعروا بحر هذه الحمى المضنية ، وكانت ابنته فاطمة تعوده كل يوم ، وكان يحبها ذلك الحب الذي يمتلئ به وجود الرجل للابنة الواحدة الباقية له من كل عقبه ، لذلك كانت اذا دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام اليها وقبلها واجلسها في مجلسه ، فلما بلغ منه المرض هذا المبلغ دخلت عليه فقبلته ، فقال : مرحباً يا بنيتي ، ثم اجلسها الى جانبه واسرَّ اليها حديثاً آخر فضحكت ، فسألتها عائشة في ذلك ، فقالت : ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما مات ذكرت انه اسرَّ اليها انه سيقبض في مرضه هذا فبكت ، ثم اسرَّ انها اول اهله يلحقه ، فضحكت ، وكانوا لاشتداد الحمى به يضعون الى جواره اناء فيه ماء بارد ، فما يزال يضع يده فيه ويمسح بها على وجهه ، وكانت الحمى تصل به حتى يغشى عليه احياناً ثم يفيق وهو يعاني منها اشد الكرب . حتى قالت فاطمة يوماً وقد حز الالم في نفسها لشدة الم ابيها : واكرب ابتاه ، فقال : لا كرب على ابيك بعد اليوم . يريد انه سينتقل من هذا العالم ، عالم الاسى والألم (7) .
وعن مهاجر بن ميمون عن فاطمة عليها السلام قالت : قلت لابي صلى الله عليه وآله وسلم : اين أمنا خديجة ؟ قال : ببيت من قصب لا لغوب فيه ولا نصب بين مريم وآسية امرأة فرعون ، قلت : أمن هذا القصب ؟ قال : لا بل من القصب المنظوم بالدر والياقوت .
وعن حذيفة رفعه : نزل ملك من السماء فاستأذن الله ان يسلم على ما لم ينزل قبلها فبشرني عن الله عز وجل ان فاطمة سيدة نساء اهل الجنة (8) .
لعلنا لم نأت بجديد حين نقول ان هناك آيات نزلت في حق علي واهل بيته ينص على ذكرها المؤرخون في اسفارهم ، ومن هذه الآيات الدالة على كرمهم قوله سبحانه وتعالى في محكم كتابه : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلىَ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (9)فعن ابن عباس ، انها نزلت في علي وفاطمة وابنيهما وجاريتهما فضة (10) .
ومن اخبارها سلام الله عليها ما نقله ابن ابي الحديد في شرحه قائلاً : ( ان الشيخ رأى في حلمه ان فاطمة الزهراء ) بنت رسول الله دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين صغيرين ، فأسلمتهما اليه وقالت علمهما الفقه ، فانتبه الشيخ عجباً ، فلما تعالى النهار صبيحة تلك الليلة ، دخلت عليه المسجد فاطمة بنت الناصر ، وحولها جواريها وبين يديها ابناها ( علي المرتضى ) و ( محمد الرضي ) صغيرين ، فقام اليهما وسلم عليهما ، فقالت له : ايها الشيخ هذان ولداي قد احضرتهما اليك لتعلمهما الفقه ، فبكى الشيخ وقص عليها الرؤيا وتولى تعليمهما (11) الى غير ذلك من المناقب الشريفة والمراتب العالية المنفية .
________________________________________
(1) السيرة النبوية / ابن هشام ج 3 و 4 / ص 396 / وانظر حياة محمد / محمد حسين هيكل / ص 261 .
(2) السيرة النبوية / ابن هشام / ج 3 / ص 602 .
(3) الفصول المهمة في معرفة احوال الائمة ـ لعلي بن محمد المالكي الشهير بابن الصباغ / ص 129 .
(4) الفصول المهمة / ص 131 .
(5) أي بكل ما كان عنده مستقصى فما كان من البحر فهو الطم وما كان من البر فهو الرم .
(6) بحار الانوار للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ـ المجلد العاشر / ج 43 / ص 30 .
(7) حياة محمد / محمد حسين هيكل / ص 313 .
(8) ينابيع المودة ـ للقندوزي / ج 2 / ص 89 .
(9) سورة الدهر / 8 .
(10) ينابيع المودة / ج 2 / ص 36 .
(11) شرح نهج البلاغة / ابن ابي الحديد / ج1 / ص 24 .
source : sibtayn