يظل (الدعاء) واحداً من الاشكال الفنية التي توفر الامام (عليه السلام) على صياغتها:
فمن حيث (المظهر الخارجي) له، يقوم الدعاء على عنصر (المحاورة الانفرادية) وهي: التوجه بكلام مسموع الى الله تعالى، ومن حيث المظهر الداخلي له، يقوم الدعاء على عنصر (وجداني) يجسده الكلام المذكور.
ومن حيث أدوات الفن يقوم الدعاء على نفس أدوات الصياغة اللفظية والايقاعية والصورية والبنائية التي تستثمر في سائر الاشكال الادبية.
ومن حيث (المضمون) تنطوي هذه المحاورة على جملة افكار بعضها فردي يتصل بحاجات الداعي الشخصية، وبعضها (موضوعي) يتصل بظواهر عبادية واجتماعية... في صعيد ما هو (عبادي) ينحصر الدعاء في ذكر صفات الله تعالى ومعطياته، وفي صعيد ما هو اجتماعي ينحصر في الطلب الى الله تعالى بتحقيق حاجات اجتماعية مثل: طلب النصر على العدو، ومثل استسقاء المطر ونحو ذلك، وفي صعيد ما هو فردي يظل الطلب مرتبطاً بمختلف الحاجات دنيوياً واخروياً، مما سوف نعرض لمستوياته في الحقول اللاحقة من هذا الكتاب.. اما الآن فيعنينا ان نعرض سريعاً لفن الدعاء عند الامام (عليه السلام) من حيث كونه ينطوي على عناصر فنية هي:
عنصر المحاورة، ثم أدوات الصياغة: لفظياً وصوتياً وصورياً وبنائياً، فضلاً من البطانة الداخلية له وهي: العنصر الوجداني، وفضلاً عن مضموناته العبادية والاجتماعية والفردية. وأول ما ينبغي لفت النظر اليه هو ان صياغة الدعاء تختلف عن كثير من الاشكال الفنية بكونها ذات مهمة مزدوجة تتمثل في ان الدعاء يختص حيناً بشخصية قائله فيعبر عن شخصيته بما هي ذات تركيب عبادي تختص به، وحيناً آخر في كونه قد كتب ليدعى به على لسان الآخرين، وحيناً ثالثاً يكتب مطلقاً فيدعو به كل من صاحب الدعاء والآخرين... ويترتب على هذه الفوارق ان بعض الادعية التي تطالب بغفران الذنب الذي يستتلي انزال النقمة او البلاء او حبس المطر، ونحوها، لا يمكن ان تعبر عن تركيبة النبي (صلى الله عليه وآله) أو الامام (عليه السلام) نظراً للعصمة التي تطبع صاحب الدعاء، ولذلك تكتب مثل هذه الادعية على لسان العاديين من البشر. طبيعياً ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه كان يستغفر الله تعالى ولكن من دون ذنب، وهذا امر يختص به المعصوم بصفة ان الله لا يمكن ان يعبد حق عبادته، ولذلك فان (التقصير عبادياً) يظل ملازماً للمخلوقات انى كان مستوى عصمتها، مما يترتب على ذلك الاستغفار من التقصير العبادي، وهو امر يختلف عن التقصير (المتعمد) الذي يصدر عن مطلق البشر العادي...
واليك بعض النماذج من الدعاء المأثور عن الامام (عليه السلام) ومنها: ما يرتبط بالبعد الفردي:
۱- (اللهم صن وجهي باليسار، ولا تبذل جاهي بالاقتار، فاسترزق طالبي رزقك، واستعطف شرار خلقك، وابتلي بحمد من اعطاني، وافتتن بذم من منعني)، (۱٥) فالملاحظ هنا ان هذه الفقرات تتضمن عنصراً صوتياً وصورياً مثل (صون الوجه - استعارة) ومثل (اليسار - الاقتار، رزقك، خلقك - سجع)...
ومنها: ما يرتبط بالبعد الاجتماعي، مثل دعائه (عليه السلام) في المواقف العسكرية:
۲- (اللهم اليك افضت القلوب ومدت الاعناق وشخصت الابصار، ونقلت الاقدام، وانضيت الابدان، اللهم قد صرح مكنون الشنآن، وجاشت مراجل الاضغان، اللهم انا نشكو اليك غيبة نبينا وكثرة عدونا وتشتت اهوائنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وانت خير الفاتحين) (۱٦)
ان هذا الدعاء يرتبط بالبعد الاجتماعي - وليس بالبعد الفردي الذي يخص شخصية الداعي فحسب- كما انه قد صيغ (من حيث المبنى الهندسي للدعاء) وفق متطلبات السياق، فافضاء القلب ومد العنق وشخص البصر ونقل القدم ونضو البدن، والشنآن والاضغان: تظل مرتبطة بالموقف العسكري الذي يستتلي نقل الاقدام ونضو الابدان.. الخ، كما انه من حيث ادوات الصياغة قد وشح بعنصر الصورة (جاشت مراجل الاضغان - استعارة) وعنصر الايقاع (الابدان، الشنآن، الأضغان).
ومثله: دعاؤه في الاستسقاء:
(اللهم قد انصاحت جبالنا، واغبرت أرضنا، وهامت دوابنا، وتحيرت في مرابضها، وعجت عجيج الثكالى على اولادها، وملت التردد في مراتعها والحنين الى مواردها: اللهم فارحم أنين الآنة وحنين الحانة.. الخ) (۱۷) فهنا نواجه دعاء اجتماعياً يتصل ليس بالحاجات البشرية فحسب بل يتجاوزه الى العنصر غير البشري ايضاً، ... والمهم أن ادوات الصياغة صورياً وايقاعياً قد توفرت بنحو ملحوظ في هذا النموذج (عجيج الثكالى - تشبيه) (أنين الآنة، حنين الحانة - ايقاع)...
ومنها: ما يرتبط بالبعد الموضوعي (أي الدعاء الذي يختص بتمجيد الله). من نماذجه دعاء الصباح المعروف وغيره... بيد أن ما ينبغي لفت النظر اليه أن الادعية الموضوعية تتضمن بالضرورة بعداً فردياً، كما أن الدعاء الفردي يتضمن بالضرورة بعداً موضوعياً: بخاصة ان الاهداف الفردية تكتسب في الدعاء مشروعية يندب اليها عبادياً لان التوجه الى الله تعالى دون الآخرين يحمل (موضوعية) أيضاً بخاصة اذا كان مقترناً بتحقيق الاهداف العبادية، فمثلاً لو وقفنا عند هذه الفقرات من الدعاء الذي صاغه (عليه السلام) وعلمه (كميل بن زياد):
(فهبني يا الهي وسيدي ومولاي وربي، صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك، وهبني يا الهي صبرت على حر نارك فكيف اصبر عن النظر الى كرامتك... الخ) (۱۸) فبالرغم من أن الدعاء ينطلق من بعد فردي هو: التعوذ من النار، فان التعوذ نفسه هدف عبادي: مادامت الوظيفة الخلافية في الارض تستهدف البشر بصفتهم (افراداً)، ولكن الاهم من ذلك كله أن هذا الهدف الفردي (التعوذ من النار) قد قرنه الدعاء باهم بعد عبادي هو: طلب رضا الله تعالى (فكيف اصبر على فراقك...).
ومهما يكن، فان النماذج المتقدمة من ادعية الامام (عليه السلام) تفصح عن كون الدعاء شكلاً فنياً يتميز عن الاشكال الاخرى بمظهره الخارجي القائم على المحاورة، ومظهره الوجداني، يماثل الاشكال الاخرى من حيث ادواته اللفظية والصورية والصوتية التي المحنا عابراً اليها، كما انه يخضع لنفس العنصر البنائي الذي يسم الاشكال الفنية الاخرى.
ويمكننا ملاحظة هذا الجانب في النموذج الآتي وهو الدعاء الذي يتلى في شعبان:
(اللهم صل على محمد وآل محمد: واسمع دعائي اذا دعوتك، واسمع ندائي اذا ناديتك، واقبل علي اذا ناجيتك: فقد هربت اليك ووقفت بين يديك، مستكيناً لك متضرعاً اليك: راجياً لما لديك ثوابي، وتعلم ما في نفسي وتخبر حاجتي وتعرف ضميري، ولا يخفى عليك امر منقلبي ومثواي، وما اريد ان أبدىء به من منطقي واتفوه به من طلبتي، وأرجوه لعاقبتي، الهي كأني بنفسي واقفة بين يديك وقد اظلها حسن توكلي عليك، فقلت ما انت اهله، وتغمدتني بعفوك، الهي ان عفوت فمن اولى منك بذلك، وان كان قد دنا منك اجلي ولم يدنني منك عملي، فقد جعلت الاقرار بالذنب اليك وسيلتي، الهي قد جرت على نفسي في النظر لها، فلها الويل ان لم تغفر لها. الهي لم يزل برك علي ايام حياتي، فلا تقطع برك عني في مماتي...الخ) (۱۹)
ويمضي هذا الدعاء على النحو الذي لحظناه، حائماً على فكرة (الثواب والمصير الاخروي) حيث استهل بفقرات ختمت بقوله (عليه السلام):
(راجياً لما لديك ثوابي).. هذه الفقرة هي التي تحوم عليها جميع اقسام الدعاء بحيث تصب كل أشكال الدعاء على الطلب المذكور، حتى أنه (عليه السلام) وصل بين بداية الدعاء وخاتمته بفقرة تشكل الخيط العضوي الذي يربط بين جزئيات النص وهي فقرة (الهي ما اظنك تردني في حاجة قد أفنيت عمري في طلبها منك)... والحاجة هي: الثواب الاخروي الذي تحوم عليه جميع فقرات الدعاء، ... ولكن النص لم يذكر في الفقرة المشار لها «لا اظنك تردني في حاجة قد أفنيت عمري في طلبها منك» تحديداً لهذه الحاجة بل تركها للقارىء ليستوحي بنفسه: أن المقصود منها هو: طلب الثواب الاخوري، وهو امر ينطوي على اسرار فنية (من حيث عمارة النص الادبي) وصلته بعنصر الاستيحاء النفي .. فمادامت كل فقرات الدعاء تحوم على طلب الثواب الاخروي، حينئذ فان المطالبة «بحاجة قد أفنى الداعي عمره من اجلها» سوف يكتشفها القارىء سريعاً من حيث كونها تصب في نفس الطلب الذي تكرر في جميع فقرات الدعاء ... وهذا واحد من اسرار الجمال الفني في هذا النص.
ومما يضفي مزيداً من عنصر الجمال الفني على النص هو: توشيحه ببعد (عرفاني) يتناسب مع طلب الثواب الاخروي، حيث جاء في النص:
(الهي: هب لي كمال الانقطاع اليك، وانر ابصار قلوبنا بضياء نظرها اليك، حتى تخرق ابصار القلوب حجب النور فتصل الى معدن العظمة)... ان الوصول الى معدن العظمة لا يتأتى الا لمن محض كل تحركاته لله تعالى، وافنى جوارحه تعاطفاً ومعايشة ووجداً مع الله تعالى، وهو امر يتجانس مع خطورة الثواب الاخروي الذي حام عليه النص بأكمله...
اما فنياً: فان الفقرة (العرفانية) الاخيرة قد احتشدت بعناصر (استعارية) مدهشة (خرق ابصار القلوب بحجب النور) (انارة ابصار القلوب بضياء النظر الى الله تعالى).. الخ... فيما تتجانس هذه الصورة مع طبيعة الطلب العرفاني، كما هو واضح
source : irib.ir