الحبّ :
الاُنس القلبي منشأه الحبّ ، وإنّما يستأنس بشيء من كان محبّاً له ، وهذا أمر بديهي ومن القضايا التي قياساتها معها ، ومن أحبّ الله " والذين آمنوا أشدّ حُبّاً لله "(1) لا شكّ يأنس بالله سبحانه ويذكره ، ويظهر آثار الحبّ على جوارحه وجوانحه ، كثمار الشجرة بعد انفلاقها من الحبّة ، والحُبّ ـ بضمّ الحاء المهملة ـ والحبّ ـ بفتحها ـ من مصدر واحد ، وينبئ عن حقيقة واحدة ، فالحبّةُ حينما تزرع بين التراب وفي باطن الأرض ، وتجود الشمس بأشعّتها عليها ، ويُسقيها الفلاّح الماء العذب ، ويُباريها ويراعيها ويراقبها ، فإنّ الحَبّةُ ستنفلق وتشقّ الأرض وتفلحها ـ ولهذا سُمّي الفلاّح فلاّحاً ـ فتخرج السنبلة التي تحمل سبعمائة حبّة ، والله سبحانه يضاعف لمن يشاء ، وتصبح الحبّةُ يوماً شجرة ذات أغصان بهيّة ، وأوراق طريّة ، وأثمار شهيّة ، فكذلك الحُبّ ـ سواء المجازي أو الحقيقي ـ فإنّه لو زرع في القلب وباطن الإنسان ، ونمت واشتدّت وربت بعناية الله ورعاية الإنسان نفسه ، ويصبح الحبّ يوماً أشجار الشوق في بساتين الصدور كما جاء ذلك في مناجاة العارفين : ( إلهي اجعلنا من الذين ترسّخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم وأخذت لوعة محبّتك بمجامع قلوبهم )(2) .
ومن يصل إلى هذا المقام الشامخ مقام الحبّ والاُنس بالله فإنّه ينال آثاره ، كما يقوله زين العابدين (عليه السلام) : ( فهم إلى أوكار الأفكار يأوون ، وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون ، ومن حياض المحبّة بكأس الملاطفة ـ أي ربّنا حينما يسقيهم من الشراب الطهور من حياض المحبّة يلاطفهم وبكأس الملاطفة ـ يكرعون (يشربون) وشرايع المصافات يردون ، فشريعتهم شريعة المحبّة والصفاء والمودّة ـ وقد كشف الغطاء عن أبصارهم وانجلت ظلمة الريب عن عقائدهم وضمائرهم .. وطاب في مجلس الاُنس سرّهم . ومن أحبّ شيئاً لهج بذكره ، ودليل الحبّ إيثار المحبوب على من سواه . ولا يمحص رجل الإيمان بالله حتى يكون الله أحبّ إليه من نفسه وأبيه واُمّه وولده وأهله وماله ومن الناس كلّهم ) .
وفي الدعاء : إلهي أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سواك .. ماذا وجد من فقدك ؟ وما الذي فقد من وجدك ؟ لقد خاب من رضي دونك بدلا .
ومن لم يحبّ الله ابتلاه الله بحبّ غيره ، كما سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن العشق ـ كحبّ قيس ليلى ـ فقال (عليه السلام) : قلوب خلت عن ذكر الله فأذاقها الله حبّ غيره .
فيما اُوحي إلى داود (عليه السلام) : يا داود ! ذكري للذاكرين وجنّتي للمطيعين وحُبّي للمشتاقين ، وأنا خاصّة للمحبّين . أحبّوا الله من كلّ قلوبكم .
ومن آثر محبّته على محبّة نفسه ، كفاه الله مؤونة الناس ، القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله . اللّهم إنّي أسألك أن تملأ قلبي حبّاً لك ، وخشيةً منك ، وتصديقاً بك ، وإيماناً بك ، وفرقاً منك ، وشوقاً إليك .
وهل الدين إلاّ الحبّ ؟ الدين هو الحبّ والحبّ هو الدين ، طلبت حبّ الله عزّ وجلّ فوجدته في بغض أهل المعاصي ، وإذا تخلّى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حبّ الله ، وكان عند أهل الدنيا كأنّه قد خولط ، وإنّما خالط القوم حلاوة حبّ الله ، فلم يشتغلوا بغيره .
إنّما يحبّ الله المحسنين التوّابين المتطهّرين المتّقين الصابرين المتوكّلين المقسطين ، الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأ نّهم بنيان مرصوص .
ثلاثة يحبّهم الله عزّ وجلّ : رجل قام من الليل يتلو كتاب الله ، ورجل تصدّق بيمينه يخفيها عن شماله ، ورجل كان في سرية فانهزم أصحابه فأستقبل العدوّ .
وإنّ الله لا يحبّ المعتدين الظالمين المفسدين المسرفين الخائنين المستكبرين الفرحين الكافرين ، ومن كان مختالا فخوراً ، وخوّاناً أثيماً ، وكلّ كفّار أثيم .
وأحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ رجل صدوق في حديثه ، محافظ على صلواته ، وما افترض الله عليه مع أدائه الأمانة .
الخلق عيال الله ، فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله ، وأدخل على أهل بيت سروراً .
أحبّ المؤمنين إلى الله من نصب نفسه في طاعة الله ، ونصح لاُمّة نبيّه ، وتفكّر في عيوبه ، وأبصر وعقل وعمل .
ممّـا في صحيفة إدريس : طوبى لقوم عبدوني حبّاً ، واتخذوني إلهاً وربّاً ، وسهروا الليل ، ودأبوا النهار طلباً لوجهي ، من غير رهبة ولا رغبة ، ولا لنار ولا جنّة ، بل للمحبّة الصحيحة ، والإرادة الصريحة والانقطاع عن الكلّ إليّ ...
فيما أوحى الله تعالى إلى داود : يا داود ! أبلغ أهل أرضي أ نّي حبيب من أحبّني ، وجليس من جالسني ، ومؤنس لمن آنس بذكري ، وصاحب لمن صاحبني ، ومختار لمن اختارني ، ومطيع لمن أطاعني ، وما أحبّني أحدٌ أعلم ذلك يقيناً من قلبه ، إلاّ قبلته لنفسي ، وأحببته حبّاً لا يتقدّمه أحدٌ من خلقي ، من طلبني بالحقّ وجدني ، ومن طلب غيري لم يجدني .
فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها ، وهلمّوا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي ، وآنسوني أؤنسكم ، واُسارع إلى محبّتكم .
إذا أحبّ الله عبداً ألهمه الطاعة ، وألزمه القناعة ، وفقّهه في الدين ، وقوّاه باليقين ، فاكتفى بالكفاف ، واكتسى بالعفاف ، وإذا أبغض الله عبداً ، حبّب إليه المال وبسطه له ، وألهمه دنياه ، ووكّله إلى هواه .
عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : يا ربّ ، وددت أن أعلم مَنْ تُحبّ من عبادك فاُحبّه ؟ فقال : إذا رأيت عبدي يكثر ذكري ، فأنا أذنت له في ذلك وأنا أحبّه ، وإذا رأيت عبدي لا يذكرني فأنا حجبتُه ، وأنا أبغضته .
فمن يتوفّق إلى الأعمال الصالحة متقرّباً بذلك إلى الله ، فإنّ هذا من علامة التوفيق الإلهي وحبّ الله لعبده .
فيما أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) : كذب من زعم أنّه يحبّني فإذا جنّه الليل نام عنّي ، أليس كلّ محبّ يحبّ خلوة حبيبه ؟ ! ها أنا ذا يا ابن عمران مطّلع على أحبّائي ، إذا جنّهم الليل حُوّلت أبصارهم من قلوبهم ، ومُثلت عقربتي بين أعينهم ، يخاطبوني عن المشاهدة ، ويكلّموني عن الحضور .
حبّ الله إذا أضاء على سرّ عبد أخلاه عن كلّ شاغل وكلّ ذكر سوى الله ( عند ) ظلمة ، والمحبّ أخلص الناس سرّاً لله ، وأصدقهم قولا ، وأوفاهم عهداً ...
حبّ الله نار لا يمرّ على شيء إلاّ احترق ، ونور الله لا يطلع على شيء إلاّ أضاء .
علامة حُبّ الله تعالى حُبّ ذكر الله ، وعلامة بغض الله تعالى بغض ذكر الله عزّ وجلّ .
والحبّ من المقول التشكيكي ، له مراتب طولية وعرضية .
سأل أعرابي أمير المؤمنين (عليه السلام) عن درجات المحبّين ما هي ؟ قال : أدنى درجاتهم من استصغر طاعته واستعظم ذنبه ، وهو يظنّ أن ليس في الدارين مأخوذ غيره ، فغشي على الأعرابي ، فلمّـا أفاق قال : هل درجة أعلى منها ؟ قال (عليه السلام) : نعم سبعون درجة .
إنّ اُولي الألباب الذين عملوا بالفكرة حتّى ورثوا منه حبّ الله ... فإذا بلغ هذه المنزلة جعل شهوته ومحبته في خالقه ، فإذا فعل ذلك نزل المنزلة الكبرى ، فعاين ربّه في قلبه ، وورث الحكمة بغير ما ورثه الحكماء ، وورث العلم بغير ما ورثه العلماء ، وورث الصدق بغير ما ورثه الصدّيقون ، وإنّ الحكماء ورثوا الحكمة بالصمت ، وإنّ العلماء ورثوا العلم بالطلب ، وإنّ الصدّيقين ورثوا الصدق بالخشوع وطول العبادة .
في الأدعية : وأضئ وجهي بنورك وأحبّني بمحبّتك .. معرفتي يا مولاي دليلي عليك وحبّي لك شفيعي إليك .. عليك يا واجدي عكفت همّتي ، وفيما عندك انبسطت رغبتي ، ولك خالص رجائي وخوفي ، وبك أنست محبتي .. عميت عين لا تراك عليها رقيباً ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً ...
هذا وقد اشتهر على الألسن أنّ الطريق إلى الله سبحانه بعدد أنفاس الخلائق ، ولكن أهمّها عبارة عن طريقين : طريق لعامّة الناس ، وهو : امتثال أوامر الله والاجتناب عن نواهيه ، وطريق للخواصّ ، وهو : إتيان النوافل والمستحبّات وترك المكروهات ، فإنّ المستحبّ اشتقّ من الحبّ ، وطريق الحبّ ، وطريق الحبّ طريق الشوق والعشق والفناء في الله سبحانه .
ومن تقرّب إلى الله بالنوافل ، فإنّه يصل إلى مقام ينظر بعين الله سبحانه ، ويسمع بسمعه ، كما جاء في الخبر الشريف :
قال الله : ما تحبّبَ إليّ عبدي بشيء أحبُّ إليَّ ممّـا افترضته عليه ، وإنّه ليتحبّبُ إليّ بالنوافل حتّى اُحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، إذا دعاني أجبته ، وإذا سألني أعطيته(3) .
اللهمّ ارزقني حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ كلّ عمل يوصلني إلى قربك .
------------------------------------------------------------
الهوامش:
(1) البقرة : 165 .
(2) مفاتيح الجنان ، والصحيفة السجّادية .
(3) ذكرت مصادر الروايات وحديثاً مفصّلا عن الحبّ الإلهي في رسالة ( حبّ الله نماذج وصور ) ، فراجع .
source : tebyan