عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

سنة الله

الحقیقة ان السنة التاریخیة مضطردة لیست علاقة عشوائیة ذات طابع موضوعی لا تتخلف فی الحالات الإعیادیة التی تجری فیها الطبیعة والکون وعلى السنن العامة وکان التأکید على طابع الاضطراد فی السنة تأکیدا على الطابع العلمی للقانون التاریخی ، لان القانون العلمی أهم ممیز یمیزه عن بقیة المعادلات والفروض والاضطراد والتتابع وعدم التخلف . ومن هنا استهدف الق
سنة الله


الحقیقة ان السنة التاریخیة مضطردة لیست علاقة عشوائیة ذات طابع موضوعی لا تتخلف فی الحالات الإعیادیة التی تجری فیها الطبیعة والکون وعلى السنن العامة وکان التأکید على طابع الاضطراد فی السنة تأکیدا على الطابع العلمی للقانون التاریخی ، لان القانون العلمی أهم ممیز یمیزه عن بقیة المعادلات والفروض والاضطراد والتتابع وعدم التخلف .
ومن هنا استهدف القرآن الکریم من خلال التأکید على طابع الاضطراد فی السنة التاریخیة ، استهدف ان یؤکد على الطابع العلمی لهذه السنة وان یخلق فی الانسان المسلم شعورا على جریان احداث التاریخ متصبرا لا عشوائیا ولا مستسلما ولا ساذجا .
« ولن تجد لسنة الله تبدیلا .. » (1) ، « ولا تجد لسنتنا تحویلا .. » (2) ، « ولا مبدل لکلمات الله ... » (3) هذه النصوص القرآنیة تقدم استعراضا تؤکد فیه طابع الاستمراریة والاضطارد أی طابع الموضوعیة والعلمیة للسنة التاریخیة ، وتستنکر هذه النصوص الشریفة کما تقدم فی بعضها ان یکون هناک تفکیر او طمع لدى جماعة من الجماعات بأن تکون مستثناة من سنة التاریخ « أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما یأتکم مثل الذین من قبلکم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى یقول الرسول والذین آمنوا معه متى نصر الله ألا ان نصر الله قریب » (4) هذه الآیة تستنکر على من یطمع فی أن یکون حالة استثنائیة من سنة التاریخ کما شرحنا فی ما مضى . اذن الروح العامة للقرآن تؤکد على هذه الحقیقة الاولى وهی حقیقة الاضطراد فی السنة التاریخیة الذی یعطیها الطابع العلمی من اجل تربیة الانسان على ذهنیة واعیة علمیة یتصرف فی اطارها ومن خلالها مع احداث التاریخ .
الحقیقة الثانیة التی اکدت علیها النصوص القرآنیة هی ربانیة السنة التاریخیة ، ان السنة التاریخیة ربانیة مرتبطة بالله سبحانه وتعالى ، سنة الله ، کلمات الله على اختلاف التعبیر ، بمعنى ان کل قانون من قوانین التاریخ ، هو کلمة من الله سبحانه وتعالى ، وهو قرار ربانی ، هذا التأکید من القرآن الکریم على ربانیة السنة التاریخیة وعلى طابعها الغیبی یستهدف شد انسان حتى حینما یرید ان یستفید من القوانین الموضوعیة للکون شده بالله سبحانه وتعالى ، واشعار الانسان بان الاستعانة بالنظام الکامل لمختلف الساحات الکونیة والاستفادة من مختلف القوانین والسنن التی تتحکم فی هذه الساحات ، لیس ذلک انعزالا عن الله سبحانه وتعالى لان الله یمارس قدرته من خلال هذه السنن ، ولان هذه السنن والقوانین هی ارادة الله وهی ممثلة لحکمة الله وتدبیره فی الکون وقد یتوهم البعض ان هذا الطابع الغیبی الذی یلبسه القرآن الکریم للتارخ وللسنن التاریخیة یبعد القرآن عن التفسیر العلمی الموضوعی للتاریخ ویجعله یتجه اتجاه التفسیر الالهی للتاریخ الذی مثلته مدرسة من مدارس الفکر اللاهوتی على ید عدد کبیر من المفکرین المسیحیین واللاهوتیین حیث فسروا تفسیرا الهیا قد یخلط هذا الاتجاه القرآنی بذلک التفسیر الالهی الذی اتجه الیه أغسطین وغیره من المفکرین اللاهوتیین فیقال بأن اسباغ هذا الطابع الغیبی على السنة التاریخیة یحول المسألة الى مسألة غیبیة وعقائدیة ویخرج التاریخ عن اطاره العلمی الموضوعی ولکن الحقیقة ان هناک خلطا اساسیا بین الاتجاه القرآنی وطریقة القرآن فی ربط التاریخ بعالم الغیب وفی اسباغ الطابع الغیبی على السنة التاریخیة وبین ما یسمى بالتفسیر الالهی للتاریخ الذی تبناه اللاهوت ، هناک فرق کثیر بین هذین الاتجاهین وهاتین النزعتین وحاصل هذا الفرق هو ان الاتجاه اللاهوتی للتفسیر الالهی للتاریخ یتناول الحادثة نفسها ویربط هذه الحادثة بالله سبحانه وتعالى قاطعا صلتها وروابطها مع بقیة الحوادث فهو یطرح الصلة مع الله بدیلا عن صلة الحادثة مع بقیة الحوادث ، بدیلا عن العلاقات والارتباطات التی تزخر بها الساحة التاریخیة والتی تمثل السنن والقوانین الموضوعیة لهذه الساحة بینما القرآن الکریم لا یسبغ الطابع الغیبی على الحادثة بالذات ولا ینتزع الحادثة التاریخیة من سیاقها لیربطها مباشرة بالسماء ، ولا یطرح صلة الحادثة بالسماء کبدیل عن أوجه الانطباق والعلاقات والاسباب والمسببات على هذه الساحة التاریخیة بل أنه یربط السنة التاریخیة بالله ، یربط أوجه العلاقات والارتباطات بالله ، فهو یقرر اولا ویؤمن بوجود روابط وعلاقات بین الحوادث التاریخیة ، الا ان هذه الروابط والعلاقات بین الحوادث التاریخیة هی فی الحقیقة تعبیر عن حکمة الله سبحانه وتعالى وحسن تقدیره وبناءه التکوینی للساحة التاریخیة اذا أردنا ان نستعین بمثال لتوضیح الفرق بین هذین الإتجاهین من الظواهر الطبیعیة . نستطیع ان نستخدم هذا المثال : قد یأتی انسان فیفسر ظاهرة المطر التی هی ظاهرة طبیعیة فیقول بان المطر نزل بارادة من الله سبحانه وتعالى ، ویجعل هذه الارادة بدیلا عن الاسباب الطبیعیة التی نجم عنها نزول المطر ، وکأن المطر حادثة لا علاقة لها ولا تنسب لها ، وانما هی مفردة ترتبط مباشرة بالله سبحانه وتعالى بمعزل عن تیار الحوادث ، هذا النوع من الکلام یتعارض مع التفسیر العلمی لظاهرة المطر .
لکن اذا جاء شخص وقال بان الظاهرة ، ظاهرة المطر لها اسبابها وعلاقاتها وانها مرتبطة بالدورة الطبیعیة للماء مثلا ، یتبخر فیتحول الى غاز والغاز یتصاعد سحابا والسحاب یتحول بالتدریج الى سائل نتیجة انخفاض الحرارة فینزل المطر الا ان هذا التسلسل السببی المتقن ، هذه العلاقات المتشابکة بین الظواهر الطبیعیة هی تعبیر عن حکمة الله وتدبیره وحسن رعایته فمثل هذا الکلام لا یتعارض مع الطابع العلمی للتفسیر الموضوعی لظاهرة المطر لاننا ربطنا هنا السنة بالله سبحانه وتعالى للحادثة مع عزلها عن بقیة الحوادث وقطع ارتباطها مع مؤثراتها وأسبابها . اذن القرآن الکریم حینما یسبغ الطابع الربانی على السنة التاریخیة لا یرید ان یتجه اتجاه التفسیر الالهی فی التاریخ ولکنه یرید ان یؤکد ان هذه السنن لیست خارجة من وراء قدرة الله سبحانه وتعالى وانما هی تعبیر وتجسید وتحقیق لقدرة الله ، هی کلماته وسننه وارادته وحکمته فی الکون لکی یبقى الانسان دائما مشدودا الى الله لکی تبقى الصلة الوثیقة بین العلم والایمان فهو فی نفس الوقت الذی ینظر فیه الى هذه السنن نظرة علمیة ینظر ایضا الیها نظرة ایمانیة ، وقد بلغ القرآن الکریم فی حرصه على تأکید الطابع الموضوعی للسنن التاریخیة وعدم جعلها مرتبطة بالصدف ، ان نفس العملیات الغیبیة أناطها فی کثیر من الحالات بالسنة التاریخیة نفسها أیضا ، عملیة الامداد الالهی بالنص ، الامداد الالهی الغیبی الذی یساهم فی کسب النص . هذا الامداد جعله القرآن الکریم مشروطا بالسنة التاریخیة ، مرتبطا بظروفها غیر منفک عنها وهذه الروح ابعد ما تکون عن ان تکون روحا تفسر التاریخ على أساس الغیب وانما هی روح تفسر التاریخ على أساس المنطق والعقل والعلم وحتى ذاک الامداد الالهی الذی یساهم بالنص ذاک الامداد أیضا ربط بالنسنة التاریخیة . قرأنا فی ما سبق صیغة من صیغ السنن التاریخیة للنص حینما قرأنا قوله سبحانه وتعالى « ... أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما یأتکم مثل الذین خلوا ... » والان تعالوا نتحدث عن الامداد الغیبی لنلاحظ کیف ان هذه الآیات ربطت هذا الامداد الالهی الغیبی بتلک السنة نفسها أیضا : « اذ تستغیثون ربکم فاستجاب لکم انی ممدکم بألف من الملائکة مردفین . وما جعله الله الا بشرى ولتطمئن به قلوبکم وما النصر الا من عند الله ان الله عزیز حکیم » (5) . اذن فمن الواضح ان الطابع الربانی الذی یسبقه القرآن الکریم لیس بدیلا عن التفسیر الموضوعی وانما هو ربط هذا التفسیر الموضوعی بالله سبحانه وتعالى من اجل اتمام اتجاه الاسلام نحو التوحید بین العلم والایمان فی تربیة الانسان المسلم .
الحقیقة الثالثة التی اکد علیها القرآن الکریم من خلال النصوص المتقدمة هی حقیقة اختیار الانسان وإرادة الانسان والتأکید على هذه الحقیقة فی مجال استعراض سنن التاریخ مهم جدا .
ان البحث فی سنن التاریخ خلق وهما ، وحاصل هذا الوهم الذی خلقه هذا البحث عند کثیر من المفکرین أن هناک تعارضا وتناقضا بین حریة الانسان واختیاره وبین سنن التاریخ ، فاما ان نقول بان للتاریخ سننه وقوانینه وبهذا نتنازل عن ارادة الانسان واختیاره وحریته ، واما ان نسلم بان الانسان کائن حر مرید مختار وبهذا یجب ان نلغی سنن التاریخ وقوانینه ونقول بان هذه الساحة قد أعفیت من القوانین التی لم تعفى منها بقیة الساحات الکونیة . هذا الوهم وهم التعارض والتناقض بین فکرة السنة التاریخیة أو القانون الترایخی وبین فکرة اختیار الانسان وحریته . هذا الوهم کان من الضروری للقرآن الکریم ان یزیحه وهو یعالج هذه النقطة بالذات ومن هنا اکد سبحانه وتعالى على أن المحور فی تسلسل الاعداد والقضایا انما هو ارادة الانسان ، وسوف أتناول انشاء الله تعالى بعد محاضرتین الطریقة الفنیة فی کیفیة التوجیه بین سنن التاریخ وارادة الانسان ، وکیف استطاع القرآن الکریم أن یجمع بین هذین الامرین من خلال فحص للصیغ التی یمکن فی اطارها صیاغة السنة التاریخیة ، سوف اتکلم عن ذلک بعد محاضرتین لکن یکفی الان ان نستمع الى قوله تعالى « ان الله لا یغیر ما بقوم حتى یغیروا ما بأنفسهم » (6) « وألو استقاموا على الطریقة لاسقیناهم ماءا غدقا » (7) « ... وتلک القرى اهلکناهم لما ظلموا انفسهم وجعلنا لمهلکهم موعدا » (8) انظروا کیف أن السنن التاریخیة لا تجری من فوق ید الانسان بل تجری من تحت یده ، فان الله لا یغیر ما بقوم حتى یغیروا ما بأنفسهم « وألو استقاموا على الطریقة لاسقیناهم ماءا غدقا » اذن هناک مواقف ایجابیة للانسان تمثل حریته واختیاره وتصمیمه وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن التاریخیة ، تستتبع جزاءاتها المناسبة ، تستتبع معلولاتها المناسبة ، اذن فاختیار الانسان له موضعه الرئیسی فی التصور القرآنی لسنن التاریخ وسوف أعود الى هذه النقطة مرة أخرى بإذن الله تعالى اذن نستخلص مما سبق ان السنن التاریخیة ، ان السنن القرآنیة فی التاریخ ذات طابع علمی لانها تتمیز بالاطراد الذی یمیز القانونی العلمی ، وذات طابع ربانی لانها تمثل حکمة الله وحسن تدبیره على الساحة التاریخیة وذات طابع انسانی لانها لا تفصل الانسان عن دوره الایجابی ولا تعطل فیه ارادته وحریته واختیاره وانما تؤکد اکثر فاکثر مسؤولیته على الساحة التاریخیة . الان بعد استعرضنا الخصائص الثلاث التی تتمیز بها السنن التاریخیة فی القرآن الکریم نواجه هذا السؤال : ما هو میدان هذه السنن التاریخیة ؟ کنا حتى الان نعبر ونقول بان هذه السنن تجری على الساحة التاریخیة ، لکن ، هل أن الساحة التاریخیة بامتدادها هی میدان لسنن التاریخیة أو ان میدان السنن التاریخیة یمثل جزأ من الساحة التاریخیة بمعنى ان المیدان الذی یخضع للسنن التاریخیة بوصفها قوانین ذات طابع نوعی مختلف عن القوانین الاخرى الفیزیائیة والفسلجیة والبیولوجیة والفلکیة . هذا المیدان الذی یخضع لقوانین ذات طابع نوعی مختلف ، هذا المیدان هل تتسع له الساحة التاریخیة ، هل یستوعب کل الساحة التاریخیة ، أو یعبر عن جزء من الساحة التاریخیة ؟ لکن قبل هذا یجب أن نعرف ماذا نقصد بالساحة التاریخیة الساحة التاریخیة عبارة عن الساحة التی تحوی تلک الحوادث والقضایا التی یهتم بها المؤرخون ، المؤرخون أصحاب التواریخ بمجموعة من الحوادث والقضایا یسجلونها فی کتبهم والساحة التی تزخر بتلک الحوادث التی یهتم بها المؤرخون ویسجلونها هی الساحة التاریخیة فالسؤال هنا اذن هکذا ، هل ان کل هذه الحوادث والقضایا التی یربطها المؤرخون وتدخل فی نطاق مهمتهم التاریخیة والتسجیلیة هل کلها محکومة بالسنن التاریخیة ، بسنن التاریخ ذات الطابع النوعی المتمیز عن سنن بقیة حدود الکون والطبیعة ، أو أن جزءاً معینا من هذه الحوادث والقضایا هو الذی تحکمه سنن التاریخ ؟ الصحیح ان جزءاً معینا من هذه الحوادث والقضایا هو الذی تحکمه سنن التاریخ ، هناک حوادث لا تنطبق علیها سنن التاریخ بل تنطبق علیها القوانین الفیزیائیة او الفسلجیة أو قوانین الحیاة او أی قوانین اخرى لمختلف الساحات الکونیة الاخرى مثلا : موت ابی طالب ، موت خدیجة فی سنة معینة حادثة تاریخیة مهمة تدخل فی نطاق ضبط المؤرخین واکثر من هذا هی حادثة ذات بعد فی التاریخ ترتبت علیها آثار کثیرة ولکنها لا یحکمها سنة تاریخیة بل تحکمها قوانین فسلجیة ، تحکمها قوانین الحیاة التی فرضت ان یموت ابو طالب ( صلوات الله علیه ) وان تموت خدیجة ( علیها السلام ) فی ذلک الوقت المحدد ، هذه الحادثة تدخل فی نطاق صلاحیات المؤرخین ولکن الذی یتحکم فی هذه الحادثة هی قوانین فسلجة جسم أبی طالب وجسم خدیجة ، قوانین الحیاة التی تفرض المرض والشیخوخة ضمن شروط معینة وظروف معینة ، حیاة عثمان بن عفان الخلیفة الثالث ، طول عمره حادثة تاریخیة فقد ناهز الثمانین ، طبعا هذه الحادثة التاریخیة کان لها أثر عظیم فی تاریخ الاسلام ، لو قدر لهذا الخلیفة أن یموت موتا طبیعیا وفقا لقوانینه الفسلجیة قبل یوم الثورة کان من الممکن ان تتغیر کثیر من معالم التاریخ ، کان من المحتمل ان یأتی الامام أمیر المؤمنین الى الخلافة بدون تناقضات وبدون ضجیج وبدون خلاف لکن قوانین فسلجة جسم عثمان بن عفان اقتضت ان یمتد به العمر الى ان یقتل من قبل الثائرین علیه من المسلمین هذه حادثة تاریخیة تعنی انها تدخل فی اهتمامات المؤرخین ولها بعد تاریخی ایضا ولعبت دورا سلبا أو ایجابا فی تکییف الاحداث التاریخیة الاخرى ، ولکنها لا تتحکم فیها سنن التاریخ . ان الذی یتحکم فی ذلک قوانین بنیة جسم عثمان ، قوانین الحیاة وقوانین جسم الانسان التی اعطت لعثمان بن عفان عمر ناهز الثمانین ، مواقف عثمان بن عفان وتصرفاته الاجتماعیة تدخل فی نطاق سنن التاریخ ، لکن طول عمر عثمان بن عفان لمسألة اخرى ، مسألة حیاتیة أو مسألة فسلجیة أو مسألة فیزیائیة ولیست مسألة تتحکم فیها سنن التاریخ . اذن سنن التاریخ لا تتحکم على کل الساحة التاریخیة ، لا تتحکم على کل القضایا التی یدرجها الطبری فی تاریخه بل على میدان معین من هذه الساحات یأتی ذکره انشاء الله .
قلنا ان الساحة التاریخیة ساحة اهتمامات المؤرخین لا یستوعبها کل التاریخ لان هذه الساحة تشتمل على ظواهر کونیة وطبیعیة ، فیزیائیة وحیاتیة وفسلجیة ایضا . هذه الظواهر تحکمها قوانینها النوعیة على الرغم من ان بعض هذه الظواهر ذات اهمیة بالمنظار التاریخی . من منظار المؤرخین تعتبر هذه حوادث ذات اهمیة لها بعد زمنی فی امتداد وتیار الحوادث التاریخیة ولکنها مع هذا لا تحکمها سنن التاریخ بل تحکمها سننها الخاصة . سنن التاریخ تحکم میدانا معینا من الساحة التاریخیة ، هذا المیدان یشتمل على ظواهر متمیزة تمیزا نوعیا عن سائر الظواهر الکونیة والطبیعیة وباعتبار هذا التمیز النوعی استحقت سننا متمیزة ایضا تمیزا نوعیا عن سنن بقیة الساحات الکونیة . الممیز العام للظواهر التی تدخل فی نطاق سنن التاریخ هو ان هذه الظواهر تحمل علامة جدیدة لم تکن موجودة فی سائر الظواهر الاخرى الکونیة والطبیعیة والبشریة . الظواهر الکونیة والطبیعیة کلها تحمل علاقة ظاهرة بسبب مسبب بسبب نتیجة بمقدمات ، هذه العلاقة موجدوة فی کل الظواهر الکونیة والطبیعیة ، الغلیان ظاهرة طبیعیة مرتبطة بظروف معینة ، بدرجة حرارة معینة ، بدرجة معینة ممن قرب هذا الماء من النار . هذا الارتباط ارتباط المسبب بالسبب ، العلاقة هنا علاقة السببیة ، علاقة الحاضر بالماضی ، بالظروف المسبقة المنجزة ، لکن هناک ظواهر على الساحة التاریخیة تحمل علاقة من نمط آخر وهی علاقة ظاهرة بهدف علاقة نشاط بغایة او ما یسمیه الفلاسفة بالعلة الغائیة تمیزا عن العلة الفاعلیة ، هذه العلاقة علاقة جدیدة متمیزة ، غلیان الماء بالحرارة ، یحمل مع سببه مع ماضیه لکن لا یحمل علاقة مع غایة ومع هدف مالم یتحول الى فعل انسانی والى جهد بشری بینما العمل الانسانی الهادف یحتوی على علاقة لا فقط مع السبب ، لا فقط مع الماضی ، بل مع الغایة التی هی غیر موجودة حین انجاز هذا العمل وانما یترقب وجودها . أی العلاقة هنا علاقة مع المستقبل لا مع الماضی ، الغایة دائما تمثل المستقبل بالنسبة الى العمل ، بینما السبب یمثل الماضی بالنسبة الى هذا العمل . فالعلاقة التی یتمیز بها العمل التاریخی ، العمل الذی تحکمه سنن التاریخ هو انه عمل هادف ، عمل یرتبط بعلة غائیة سواءا کانت هذه الغایة صالحة او طالحة ، نظیفة أو غیر نظیفة ، على أی حال یعتبر هذا عملا هادفا ، یعتبر نشاطا تاریخیا یدخل فی نطاق سنن التاریخ على هذا الاساس وهذه الغایات التی یرتبط بها هذا العمل الهادف المسؤول ، هذه الغایات حیث انها مستقبلیة بالنسبة الى العمل فهی تؤثر من خلال وجودها الذهنی فی العامل لا محالة ، لانها بوجودها الخارجی ، بوجودها الواقعی ، طموح وتطلع الى المستقبل ، لیست موجودة وجودا حقیقیا وانما تؤثر من خلال وجودها الذهنی فی الفاعل . اذن المستقبل أو الهدف الذی یشکل الغایة للنشاط التاریخی یؤثر فی تحریک هذا النشاط وفی بلورته من خلال الوجود الذهنی أی من خلال الفکر الذی یمثل فیه الوجود الذهنی للغایة ضمن شروط ومواصفات ، حینئذ یؤثر فی ایجاد هذا النشاط ، اذ حصلنا الان على ممیز نوعی للعمل التاریخی لظاهرة على الساحة التاریخیة ، هذا الممیز غیر موجود بالنسبة الى سائر الظواهر الاخرى على ساحات الطبیعة المختلفة ، هذا الممیز ظهور علاقة فعل بغایة نشاط بهدف فی التفسیر الفلسفی ، ظهور دور العلة الغائیة ، کون هذا الفعل متطلعا الى المستقبل ، کون المستقبل محرکا لهذا الفعل من خلال الوجود الذهنی الذی یرسم للفاعل غایته أی من خلال الفکر اذن هذا هو فی الحقیقة دائرة السنن النوعیة للتاریخ . السنن النوعیة للتاریخ موضوعها ذلک الجزء من الساحة التاریخیة الذی یمثل عملا له غایة ، عملا یحمل علاقة اضافیة الى العلاقات الموجودة فی الظاهرة الطبیعیة وهی العلاقة بالغایة والهدف ، بالعلة الغائیة ، لکن ینبغی هنا أیضا انه لیس کل عمل له غایة هو عمل تاریخی ، هو عمل تجری علیه سنن التاریخ بل یوجد بعد ثالث لا بد ان یتوفر لهذا العمل لکی یکون عملا تاریخیا أی عملا تحکمه سنن التایخ . البعد الاول کان هو « السبب » و البعد الثانی کان هو الغایة.
لا بد اذن من بعد ثالث لکی یکون هذا العمل داخلا فی نطاق سنن التاریخ ، هذا البعد الثالث هو ان یکون لهذا العمل أرضیة تتجاوز ذات العامل ، ان تکون ارضیة العمل هی عبارة عن المجتمع ، العمل الذی یخلق موجا ، هذا الموج یتعدى الفاعل نفسه ویکون أرضیته الجماعة التی یکون هذا الفرد جزءا منها طبعا الامواج على اختلاف درجاتها هناک موج محدود ، هناک موج کبیر . لکن العمل لا یکون عملا تاریخیا الا اذا کان له موج یتعدى حدود العامل الفردی ، قد یأکل الفرد اذا جاع ،
ویشرب اذا عطش ، وینام اذا أجس بحاجته الى النوم ، لکن هذه الاعمال على الرغم من انها اعمال هادفة أیضا تریدان تحقق غایات ولکنها اعمال لا یمتد موجها اکثر من العامل خلافا لعمل یقوم به الانسان من خلال نشاط اجتماعی وعلاقات متبادلة مع افراد جماعته ، فمثلا التاجر حینما یعمل عملا تجاریا أو القائد حینما یعمل عملا حربیا أو السیاسی حینما یمارس عملا سیاسیا ، المفکر حینما یتبنى وجهة نظر فی الکون والحیاة ، هذه الاعمال موج یتعدى شخص العامل ، یتخذ من المجتمع ارضیة له ، ویمکننا ایضا ان نستعین بمصطلحات الفلاسفة فنقول : المجتمع یشکل علة مادیة لهذا العمل ، یتبدل من مصطلحات الفلاسفة التمییز الارسطی بین العلة الفاعلیة والعلة الغائیة والعلة المادیة ، هنا نستعین بهذه المصطلحات لتوضیح الفکرة . فنقول المجتمع یشکل علة مادیة لهذا العمل ، أی ارضیة العمل ، لحالة من هذا القبیل یعتبر هذا العمل عملا تاریخیا ویعتبر عملا للامة وللمجتمع وان کان الفاعل المباشر فی جملة من الأحیان هو فرد واحد أو عدد من الافراد ولکن باعتبار الموج یعتبر المجتمع ، اذن العمل التاریخی الذی تحکمه سنن التاریخ هو العمل الذی یکون حاملا لعلاقة مع هدف وغایة ویکون فی نفس الوقت ذا ارضیة اوسع من حدود الفرد ، ذا موج یتخذ من المجتمع علة مادیة له وبهذا یکون عمل المجتمع .
وفی القرآن الکریم نجد تمییزا بین عمل الفرد وعمل المجتمع ونلاحظ فی القرآن الکریم انه من خلال استعراضه للکتب الغیبیة الاحصائیة تحدث القرآن عن کتاب للفرد وتحدث عن کتاب للامة ، عن کتاب یحصی على الفرد عمله وعن کتاب یحصی على الامة عملها وهذا تمییز دقیق بین العمل الفردی الذی ینسب الى الفرد وبین عمل الامة ، بین العمل الذی له ثلاثة ابعاد والعمل الذی له بعدان ، العمل الذی له بعدان لا یدخل الا فی کتاب الفرد واما العمل الذی له ثلاثة ابعاد فهو یدخل فی الکتابین . یدخل فی کتاب الامة ویعرض على الامة وتحاسب الامة على أساسه . لاحظوا قوله تعالى « وترى کل أمة جاثیة کل أمة تدعى الى کتابها الیوم تجزون ما کنتم تعملون . هذا کتابنا ینطق علیکم بالحق انا کنا نستنسخ ما کنتم تعملون » (9)
هنا القرآن الکریم یتحدث عن کتاب للامة ، أمة جاثیة بین یدی ربها ویقدم لها کتابها ، یقدم لها سجل نشاطها وحیاتها التی مارستها کأمة ، هذا العمل الهادف ذو الابعاد الثلاثة یحتوی هذا الکتاب ، وهذا الکتاب ـ انتبهوا الى العبارة ـ یقول « انا کنا نستنسخ ما کنتم تعملون » هذا الکتاب لیس تاریخ الطبری لا یسجل الوقائع الطبیعیة ، الفسلجیة ، الفیزیائیة ، انما یمدد ویستنسخ ما کانوا یعملون کأمة . ما کانت الامة تعمله کأمة یعنی العمل الهادف ذو الموج بحیث یکون العمل منسوبا للأمة وتکون الامة مدعوة الى کتابها . هذا العمل هو الذی یحویه هذا الکتاب ، بینما فی آیة اخرى نلاحظ قوله سبحانه وتعالى « وکل انسان الزمناه طائره فی عنقه ونخرج له یوم القیامة کتابا یلقاه منشورا ، اقرأ کتابک کفى بنفسک الیوم علیک حسیبا»(10) هنا الموقف یختلف ، هنا کل انسان مرهون بکتابه ، لکل انسان کتاب لا یغادر صغیرة ولا کبیرة من اعماله من حسناته وسیئاته وهفواته وسقطاته من صعوده ونزوله الا وهو محصی فی ذلک الکتاب . والکتاب الذی کتب بعلم من لا یغرب عن علمه مثقال ذرة فی الارض . کل انسان قد یفکر ان بامکانه ان یخفی نقطة ضعف ، ان یخفی ذنبا ، سیئة عن جیرانه وقومه وامته ، واولاده ، وحتى عن نفسه ، یخدع نفسه یرى انه لم یرکب سیئة ولکن هذا الکتاب الحق لا یغادر صغیرة ولا کبیرة الا أحصاها ، فی ذلک الیوم یقال انت حاسب نفسک لان هذه الاعمال التی مارستها سوف تواجهها فی هذا الکتاب ان تحکم على نفسک بموازین الحق فی یوم القیامة فی ذلک الیوم لا یمکن لای انسان ان یخفی شیئا عن الموقف ، عن الله سبحانه وتعالى ، وعن نفسه .
هذا کتاب الفرد وذاک کتاب الامة . هناک کتاب لامة جاثیة بین یدی ربها ، وهنا لکل فرد کتاب . هذا التمییز النوعی القرآنی بین کتاب الامة وکتاب الفرد تعبیر آخر عما قلناه من ان العمل التاریخی هو ذاک العمل الذی یتمثل فی کتاب الامة ، العمل الذی له ابعاد ثلاثة بل ان الذی یستظهر ویلاحظ من عدد آخر من الآیات القرآنیة الکریمة انه لیس فقط یوجد کتاب للفرد ویوجد کتاب للامة بل یوجد احضار للفرد ویوجد احضار للامة ، هنا احضارات بین یدی الله سبحانه وتعالى الاحضار الفردی یأتی بکل انسان فردا فردا ، لا یملک ناصرا ولا معینا ، لا یملک شیئاً یستعین به فی ذلک الموقف الا العمل الصالح والقلب السلیم والایمان بالله وملائکته وکتبه ورسله ، هذا هو الاحضار الفردی . قال الله تعالى « ان کل من فی السموات والارض الا آت الرحمن عبدا ، لقد احصاهم وعدهم عدا وکلهم آتیه یوم القیامة فردا » (11) هذا الاحضار هو احضار فردی بین یدی الله تعالى وهناک احضار آخر ، احضار للفرد فی وسط الجماعة ، احضار للامة بین یدی الله سبحانه وتعالى کما یوجد هناک سجلان کذلک یوجد احضاران « کما تقدم » ، ترى کل امة جاثیة تدعى الى کتابها ، ذاک احضار للجماعة ، والمستأنس به من سیاق الآیات الکریمة انه هذا الاحضار الثانی یکون من اجل اعادة العلاقات الى نصابها الحق ، العلاقات داخل الامة قد تکون غیر قائمة على اساس الحق ، فقد یکون الانسان المستضعف فیها جدیرا بأن یکون فی اعلى الامة ، هذه الامة تعاد فیها العلاقات الى نصابها الحق . هذا الیوم هو الیوم الذی سماه القرآن الکریم بیوم التغابن ، کیف یحصل التغابن ؟.. یحصل التغابن عن طریق اجتماع المجموعة ثم کل انسان کان مغبونا فی موقعه فی الامة ، فی وجوده فی الامة ، بقدر ما کان مغبونا فی موقعه فی الامة یأخذ حقه ، یأخذ حقه یوم لا کلمة الا للحق .
لاحظوا قوله تعالى « یوم یجمعکم لیوم الجمع ذلک یوم التغابن » (12) . اذن فهناک سجلان هناک سجل لعمل الفرد ، وهناک سجل لعمل الامة وعمل الامة هو عبارة عما قلناه فی العمل الذی یکون له ثلاث ابعاد ، بعد من ناحیة العامل ما یسمیه ارسطو بـ « العلة الفاعلیة » ، وبعد من ناحیة الهدف ما یسمیه ارسطوا بـ « العلة الغائیة » ، وبعد من ناحیة الارضیة وامتداد الموج ما یسمونه بـ « العلة المادیة » . هذا العمل ذو الابعاد الثلاثة هو موضوع سنن التاریخ ، هذا هو عمل المجتمع ، لکن لا ینبغی ان یوهم ذلک ما توهمه عدد من المفکرین والفلاسفة الاوربیین من ان المجتمع کائن عملاق له وجود وحدوی عضوی متمیز عن سائر الافراد وکل فرد لیس الا بمثابة الخلیة فی هذا العملاق الکبیر ، « هکذا تصور هیجل مثلا » وجملة من الفلاسفة الاوروبیین ، تصورا عمل المجتمع بهذا النحو ، أرادوا أن یمیزوا بین عمل المجتمع وعمل الفرد فقال بأنه یوجد عندنا کائن عضوی واحد عملاق هذا الکائن الواحد هو فی الحقیقة یلف فی احشاءه وتندمج فی کیانه کل الافراد . لکل فرد یشکل خلیة فی هذا العملاق الواحد وهو یتخذ من کل فرد نافذة على الواقع على العالم بقدر ما یمکن ان یجسد فی هذا الفرد من قابلیاته هو ومن ابداعه هو ، اذن کل قابلیة وکل ابداع ، وکل فکر هو تعبیر عن نافذة من النوافذ التی یعبر عنها ذلک العملاق الهیجلی ، هذا التصور اعتقد به جملة من الفلاسفة الاوربیین تمییزا لعمل المجتمع عن عمل الفردالا ان هذا التصور لیس صحیحا ، ولسنا بحاجة الیه والى الاغراق فی الخیال الى هذه الدرجة لکی ننحت هذا العملاق الاسطوری من هؤلاء الافراد ، لیس عندنا الا الافراد زید وبکر وخالد ، لیس عندنا ذلک العملاق المستتر من ورائهم ، « طبعاً مناقشة هیجل من الزاویة الفلسفیة یخرج من حدود هذا البحث ومتروک الى بحث آخر » لان هذا التفسیر الهیجلی للمجتمع مرتبط بحسب الحقیقة بکامل الهیکل النظری لفلسفته الا ان الشیء الذی نرید أن نعرفه موقع اقدامنا من هذا التصور ، هذا التصور لیس صحیحا ، نحن لسنا بحاجة الى مثل هذا الافتراض الاسطوری لکی نمیز بین عمل الفرد وعمل المجتمع ، لان التمییز بین عمل الفرد وعمل المجتمع یتم من خلال ما اوضحناه من البعد الثالث . عمل الفرد هو العمل الذی یکون له بعدان فان اکتسب بعدا ثالثا کان عمل المجتمع ، باعتبار ان المجتمع یشکل أرضیة له ، یشکل علة مادیة له . یدخل حینئذ فی سجل کتاب الامة الجاثیة بین یدی ربها هذا هو میزان الفرق بین العملین .
اذن الشیء الذی نستخلصه مما تقدم ان موضوع السنن التاریخیة هو العمل الهادف الذی یشکل أرضیة ویتخذ من المجتمع او الامة أرضیة له على اختلاف سعة الموجة وضیق الموجة هذا هو موضع السنن التاریخیة .
المصادر :
1- سورة الاحزاب : الآیة /62
2- سورة الاسراء : الآیة /77
3- سورة الانعام : الآیة /34
4- سورة البقرة : الآیة /214
5- سورة الأنفال الآیة /9ـ10
6- سورة الرعد : الآیة /11
7- سورة الجن : الآیة /16
8- سورة الکهف : الآیة /59
9- سورة الجاثیة : الآیة /28 ـ 29
10- سورة الاسراء : الآیة /13
11- مریم :الایة 93 ، 94 ، 95
12- سورة التغابن : الآیة /9


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

فضيلة سور المسبّحات لطلب درک الظهور
الموقف الانتقاديّ لمفكّري أهل السنّة من التيّار ...
المهمة الإصلاحية للقادة الإلهيين
أن آل يس آل محمد ص
المكانة العلمية للإمام جعفر الصادق (عليه السلام)
منزلة العلماء
البراغماتية‌ وانتحال‌ القدسيّة‌
تهذيب الشهوة
ما هي حقيقة الموت؟
فوائد و أضرار طلع النخل

 
user comment