فی کلِّ عام یطلُّ علینا الشهر العظیم، شهر رمضان المبارک، والّذی یعتبر فرصةً استثنائیَّةً علینا استغلالها واغتنامها خیر إغتنام، ولا بدَّ لمدرِک شهر الصیام معرفة حقِّه، وأنَّ هذا الشهر الکریم قد أکرم الله فیه السائلین إلیه بالدعوة إلى ضیافته، فهو دار ضیافة الله، وأن یجهد بعد هذه المعرفة فی تحصیل الإخلاص فی حرکاته وسکناته على وفق رضا صاحب الدَّار.
فوائد صیام البدن :
لصوم البدن عن المفطِّرات- أی بمعنى الجوع- فوائد عمیمةٌ للسَّالک فی تکمیل نفسه ومعرفته بربّه، وقد وردت فی فضائله أشیاءٌ عظیمة فی الأخبار لا بأس بالإشارة إلیها أوّلاً.
فقد رُوِیَ عن النبیِّ الأکرم صلى الله علیه وآله وسلم أنَّه قال: (جاهدوا أنفسکم بالجوع والعطش، فإنَّ الأجر فی ذلک کأجر المجاهد فی سبیل الله وإنَّه لیس من عمل أحبُّ إلى الله من جوع وعطش)(1).
ورُوِیَ أنَّه صلى الله علیه وآله وسلم قال لأسامة:( إن استطعت أن یأتیک ملک الموت وبطنک جائع، وکبدک ظمآن فافعل، فإنَّک تدرک بذلک أشرف المنازل، وتحلُّ مع النبیِّین، وتفرح بقدوم روحک الملائکة، ویصلّی علیک الجبّار)(2).
وفی حدیث المعراج: ( میراث الصوم قلَّة الأکل، وقلّة الکلام، ثمَّ قال فی میراث الصمت: إنَّها تورث الحکمة وهی تورث المعرفة، وتورث المعرفة الیقین، فإذا استیقن العبد لا یبالی کیف أصبح ؟ بعسر أم بیسر ؟ فهذا مقام الراضین.فمن عمل برضای أُلزمه ثلاث خصال: شکراً لا یخالطه الجهل، وذکراً لا یخالطه النسیان، ومحبَّة لا یؤثر على محبَّتی حبّ المخلوقین، فإذا أحبَّنی أحببته وحبَّبته إلى خلقی، وأفتح عین قلبه إلى جلالی وعظمتی، ولا أُخفی علیه علم خاصَّة خلقیِ، وأناجیه فی ظلم اللیل ونور النَّهار، حتّى ینقطع حدیثه مع المخلوقین ومجالسته معهم، وأُسمعه کلامی وکلام ملائکتی وأُعرّفه سرّی الذی سترته عن خلقی ـ إلى أن قال:
وأستغرقنّ عقله بمعرفتی، ولأقومنّ له مقام عقله، ثمّ لأهوّننَّ علیه الموت وسکراته، وحرارته وفزعه، حتى یساق إلى الجنَّة سوقاً، فإذا نزل به ملک الموت یقول: مرحباً بک وطوبى لک ثمَّ طوبى لک، إنَّ الله إلیک لمشتاق ـ إلى أن قال ـ یقول: هذه جنّتی فتبحبح فیها، وهذا جواری فاسکنه. فیقول الروح: إلهی عرَّفتنی نفسک فاستغنیت بها عن جمیع خلقک، وعزِّتک وجلالک، لو کان رضاک فی أن أُقطَّع إرباً إرباً أو أُقتل سبعین قتلة بأشدّ ما یقتل النَّاس، لکان رضاک أحبُّ إلیَّ ـ إلى أن قال ـ فقال الله عزّ وجل: وعزَّتی وجلالی لا أحجب بینی وبینک فی وقت من الأوقات حتى تدخل علیّ أیّ وقت شئت، کذلک أفعل بأحبّائی)(3).
أقول: فی هذه الأخبار إشارة وتصریح بحکمة الجوع وفضیلته، ویکفی أن ننظر إلى ما ذکره علماء الأخلاق أخذاً من الأخبار من خواصّه وفوائده، وقد ذکروا له فوائد عظیمة: منها:
1- صفاء القلب:
فالجوع یهیِّء القلب لإدمان الفکر الموصل إلى المعرفة، وله نورٌ محسوس، ورُوِیَ فی الحدیث القدسیِّ:( یا أحمد إنَّ العبد إذا أجاع بطنه وحفظ لسانه علَّمته الحکمة وإن کان کافرا تکون حکمته حجَّةً علیه ووبالاً، وإن کان مؤمناً تکون حکمته له نوراً وبرهاناً وشفاءً ورحمةً، فیعلم ما لم یکن یعلم، ویبصر ما لم یکن یبصر، فأوَّل ما أُبصِّره عیوب نفسه حتى یشتغل عن عیوب غیره، وأبصِّره دقائق العلم حتى لا یدخل علیه الشیطان.)(4).
2- الانکسار والذلُّ لله تعالى:
وکذلک زوال الأشر والبطر، والفرح الذی هو مبدأ الطغیان فإذا ذلَّ النفس یسکن لربِّه ویخشع.
3- ضبط الشهوات:
والقوى التی تورث المعاصی وتوقع فی الکبائر المهلکات، لأنَّ أغلب الکبائر تنشأ من شهوة الکلام، وشهوة الفرج، وضبط الشهوتین سببٌ للاعتصام من المهلکات.
4- دفع کثرة النوم المضیّعةِ للعمر:
الَّذی هو رأس مال الإنسان لتجارة الآخرة، وهو سبب للاستفادة من الوقت أکثر، ومعین للتهجُّد الباعث لوصول المقام المحمود قال تعالى:﴿وَمِنَ اللَّیْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّکَ عَسَى أَن یَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ (5).
5- التمکّن من بذل المال والإطعام:
والصلة والبرّ، وبالجملة العبادات المالیّة کلّها، وما جاء فی الکثیر من الأخبار فی فضل هذه العبادات.
حکم عظیمة
وبعد تعداد فوائد الجوع والصوم، والتفکّر فیها ینتج لدینا فوائد وحکم عظیمة:
منها: أنَّنا نعلم وجه اختیار الله تعالى لضیفه أن یجوع، لأنَّه لا نعمة أفضل من نعمة المعرفة والقرب واللِّقاء، والجوعُ من أسبابها القریبة.
وأنّ الصوم لیس تکلیفا،ً بل هو تشریفٌ یوجب شکراً بحسبه، والمنّة لله تعالى فی إیجابه علینا، ونعلم مکانة نداء الله تعالى لنا فی کتابه فی آیة الصوم، ونشعر بالسعادة من النِّداء خصوصاً إذا علمنا أنَّه نداء ودعوة خاصة بنا لدار الوصول.
ومنها: أنَّنا إذا عرفنا الفائدة والحکمة من إیجاب الصوم، نعرف بذلک ما یکدِّره وما یصفِّیه، ونعلم معنى ما ورد فیه من أنَّ الصوم لیس من الطعام والشراب فقط، فإذا صمت فلیصم سمعک وبصرک ولسانک.
ومنها: أنَّک تعرف أنّ النیّة بهذا العمل لا یلیق أن یکون لدفع العقاب فقط، ولا یلیق أن یکون لجلب ثواب جنّة النعیم وإنْ حُصِّلا به، بل حقّ نیَّة هذا العمل أنَّه مقرِّب من الله، وموصل إلى قربه وجواره ورضاه، وتلبیة لندائه سبحانه وتعالى إلى المائدة الرحمانیة، وأنَّ هذا العمل مُخْرِج للإنسان من أوصاف البهیمة ومقرِّب إلى صفات الروحانیین نفس التقرّب.
وإذا عرفت هذا فاعلم أنَّ کلَّ ما یلحقک من الأحوال والأفعال والأقوال المبعّدة لک عن مراتب الحضور والتذکُّر، فهو مخالف لمراد مولاک من تشریفک بهذه الدعوة والضیافة، ولا ترضى أن تکون فی دار ضیافة هذا الملک الجلیل المنعم لک بهذا التشریف والتقریب، العالم بسرائرک وخطرات قلبک، غافلاً عنه وهو مراقب لک، ومعرضاً عنه وهو مقبلٌ علیک، بل إنَّ هذا فی حکم العقل من القبائح العظیمة التی لا یرضى العاقل أن یعامل صدیقه بذلک، ولکن کان من رفق الله وفضله لم یحرِّم مثال هذه الغفلات، وسامح عباده وکلّفهم دون وسعهم هذا، ولکنّ الکرام من العبید أیضاً لا یعاملون ذلک مع سیّدهم عند کلِّ واجب وحرام،
بل یعاملونه بما یقتضیه حقُّ السِّیادة والعبودیَّة، ویعدُّون من اقتصر بذلک من اللِّئام.
وبالجملة یعملون فی صومهم بما وصى به الصادق علیه السلام وهی أمور: منها أن یکون حالک فی صومک أن ترى نفسک مشرفاً للآخرة، ویکون حالک حال الخضوع والخشوع، والانکسار والذلَّة، ویکون حالک حال عبدٍ خائفٍ من مولاه، وقلبک طاهراً من العیوب، وباطنک من الحیل والمکر، وتتبرّأ إلى الله من کلِّ ما هو دونه، تخلص فی صومک ولایتک لله، وتخاف من الله القهَّار حقَّ مخافته، وتبذل روحک وبدنک لله عزَّ وجلَّ فی أیّام صومک، وتفرغ قلبک لمحبَّته وذکره، وبدنک للعمل بأوامره وما دعاک إلیه، إلى غیر ذلک ممّا أوصى به من حفظ الجوارح من المحذورات والمخالفات، ولا سیّما الِّلسان، حتّى المجادلة والیمین الصادقة،
ثمّ قال فی آخر الروایة: إن عملت بجمیع ما بیَّنتُ لک فقد علمتَ بما یحقُّ على الصائم، وإن نقصت من ذلک فینقص من فضل صومک وثوابه بقدر ما نقصت ممّا ذکرت.
مراتب الصائمین:
وهی ثلاثة:
1- صوم العوامّ: وهو بترک الطعام والشراب والنساء على ما قرَّره الفقهاء من واجباته ومحرَّماته.
2- صوم الخواصِّ: وهو ترک ذلک مع حفظ الجوارح من مخالفات الله جلَّ جلاله.
3- صوم خواصِّ الخواصِّ: وهو وترک کلِّ ما هو شاغل عن الله.
ولکلِّ واحد من المرتبتین الأخیرتین أصناف کثیرة، لا سیّما الأولى، فإنَّ أصنافه کثیرة لا تحصى
بعدد مراتب أصحاب الیمین من المؤمنین، بل کلّ نفس منهم له حدٌّ خاصٌّ لا یشبه حدّ صاحبه، ومن أهل المراتب أیضاً من یقرب عمله من عمل من فوقه، وإن لم یکن منه.
وقد یقتسم الصائمون من جهة طعامهم وشرابهم إلى أصناف:
1- من یکون مأکله ومشربه من الحرام المعلوم، هذا مثله فی بعض الوجوه مثل حمّال یحمل أثقال النَّاس إلى منازلهم، فالأجر لمالک الطعام، وله وزر ظلمه وغصبه، أو مثله مثل من رکب دابَّة مغصوبة إلى بیت الله وطاف بالبیت على هذه الدابَّة المغصوبة.
2- من یکون مأکله من الشبهات: وهو على قسمین، قسم یکون أخذ هذا المشتبه بالحرام الواقعیّ محلّلاً فی الظاهر، وقسم لا یکون محلّلاً ولو فی الظاهر، والأوّل یلحق فی حکمه بمن یکون مأکله ومشربه من الحلال، وإن کان دونه بدرجة، والثانی بمن یأکل الحرام المعلوم وإن کان فوقه بدرجة.
3- من یکون مأکله حلالاً معلوماً ولکن یترف فی کیفیّته بالألوان الکثیرة، وفی مقداره على حدّ الامتلاء، ومثله مثل خسیس الطبع الذی یشتغل فی حضرة حبیبه بالالتذاذ بما یکرهه، وهو متوقّع أن لا یلتذّ بشیء غیر ذکره وقربه، وهذا عبد خسیس لا یلیق بمجالس الأحبَّاء، بل حقّهُ أن یُترک وما یلتذُّ به، وهو لأَن یعدّ عبد بطنه أولى من أن یعدَّ عبد ربِّه.
4- من یکون حدُّه فی الکیفیَّة والمقدار فوق الإتراف، ویلحق بالإسراف والتبذیر، هذا أیضاً فی حکمه ملحق بمن یأکل الحرام المعلوم، وهو أیضاً بأن یعدّ عاصیاً أحقّ من أن یعدَّ مطیعاً.
5- من یکون مأکله ومتقلّبه کلُّها محلَّلةً ولایسرف ولا یترف بل یتواضع لله فی مقدار طعامه وشرابه عن الحدّ المحلّل وغیر المکروه.
فدرجاتهم عند ربِّهم المراقب لحفظ مجاهداتهم ومراقباتهم محفوظة مجزیة مشکورة، ولا یظلمون فتیلاً، فیجزیهم ربُّهم بأحسنَ ما کانوا یعملون، ویزیدهم من فضله بغیر حساب،﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِیَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْیُنٍ جَزَاء بِمَا کَانُوا یَعْمَلُونَ﴾(6) ، بل ولا خطر على قلب بشر.
واقتسموا أیضاً من جهة نیّات الإفطار والسحور على أصناف:
1- من یأکل فطوره وسحوره بلا نیَّة غیر ما یقصده الآکلون بالطبع لدفع الجوع أو لذّة المأکول.
2- من یقصد مع ذلک أنَّه مستحبٌّ عند الله وأنَّه عون على قوَّة العبادة.
3- من لا یکون قصده من الإفطار والتسحّر إلا کونهما مطلوبین، للمولى، وعوناً على عبادته، ویراعی مع ذلک آدابه المطلوبة من الذِّکر والعبر والکیفیَّات، ویقرأ ما استحبَّ من قراءة القرآن والأدعیة والحمد قبل الشروع وفی الأثناء وبعد الفراغ.
خاتمة:
إنَّ الصوم الصحیح الکامل الذی شرَّع الله تعالى لحکمة تکمیل نفس الصائم، هو ما یکون لا محالة ترکاً لعصیان الجوارح کلّها، فإنَّ زاد الصائم مع ذلک ترک شغل القلب عن ذکر غیر الله، وصام عن کلِّ ما سوى الله، فهو الأکمل، وإذا علم الإنسان حقیقة الصوم ودرجاته وحکمة تشریعه، فلا بدَّ له من الاجتناب عن کلّ معصیة وحرام لأجل قبول صومه لا محالة، وإلاّ فهو مأخوذ مسؤول عن صوم جوارحه ولیس عن معنى إسقاط القضاء (7).
المصادر :
1- النراقی- محمَّد مهدی- جامع السعادات- الناشر: دار النعمان للطباعة والنشر- ج 2 ص 5
2- المجلسی-محمَّد باقر-بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانیة المصححة- ج 93 ص 258
3- المجلسی-محمَّد باقر-بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانیة المصححة- ج 74 ص 27
4- المجلسی-محمَّد باقر-بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانیة المصححة- ج 74 ص 29
5- الإسراء: 79
6- السجدة: 17
7- ما ورد فی هذا المقال هو تلخیص لما ورد فی کتاب المراقبات لآیة الله الشیخ جوادی ملکی التبریزی قدس الله روحه
source : rasekhoon