لا بد للإنسان السالك إلى الله أن يعلم أنه لم يخلق لأجل هذه الدنيا الدنية، وإنما هو مخلوقٌ شريفٌ، أكرمه الله وشرفه بالعديد من المنازل والمقامات، فخلقه في أحسن تقويم، وزينه بالعقل، واستخلفه في الأرض، ليكون مثالاً لله في أسمائه وصفاته، سالكاً سبيل أوليائه وأنبيائه عليهم السلام. وطالباً منه الرجوع إليه بنفسٍ مطمئنة وقلب سليمٍ؛ ليدخل في جملة عباده وليسكنه الفسيح من جنانه، التي أعدها للمحسنين والمتقين"فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مقْتَدِرٍ"(1)، مجاوراً لقربه الذي هو غاية الغايات والهدف الأسمى لخلق الإنسان ووجوده.
ومن هنا كان ابتلاؤنا بعالم الدنيا ووساوس الشيطان والنفس الأمارة، والطريق طويل طويل، والبحر عميق عميق، فلا بد من تهيئة الزاد والوسيلة، من أجل هذا السفر الشاق والمليء بالمخاطر والمصاعب، قال تعالى:"يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنكَ كَادِحٌ إِلَى رَبكَ كَدْحًا فَملَاقِيهِ"(2).
ولذا فقد عبر علماؤنا في الأخلاق والسلوك عن الطريق إلى الله؛ بأنها طريق ذات الشوكة، وعن عملية التربية والتهذيب للنفس؛ بأنها "رياضة"، يروض الإنسان فيها نفسه الجامحة الأمارة بالسوء، ليكبح جماحها وطغيانها، وليتحرر من أسرها وأغلالها ورق العبودية لها، ولشيطانها الذي:"قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعدَن لَهمْ صِرَاطَكَ الْمسْتَقِيمَ *ثم لَآَتِيَنهمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِد أَكْثَرَهمْ شَاكِرِينَ"(3).
طريق النجاة:
ومن أجل الوصول إلى مقام العبودية والتقرب إلى الله وتحصيل رضوانه الأكبر، لا بد من الجهاد في سبيله عن مجاهدة النفس وبذل الوسع في تزكيتها، الذي هو الجهاد الأكبر، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال لأصحابه بعد أن رجعوا من ميدان جهاد أعداء الله:"مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل يا رسول الله ما الجهاد الأكبر، قال:جهاد النفس"(4).
وجهاد النفس: هو تزكيتها وتطهيرها بتخليتها من الرذائل والأخلاق القبيحة، وتحليتها بالفضائل والصفات والأخلاق الحسنة، وذلك ما يحقق السعادة الدنيوية والأخروية، إذ لا نجاة إلا بالطاعة لله وعدم معصيته، ولا يتيسر ذلك إلا من خلال التفقه بالدين وطلب العلم، قال الإمام الكاظم عليه السلام:"لا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد (يعتقل)، ولا علم إلا من عالمٍ رباني ومعرفة العلم (العالم) بالعقل"(5).
ومن هنا تأتي أهمية التعرف على الذنوب، وآثارها الخطيرة المهلكة للإنسان في الدنيا والآخرة، والمانعة له من النجاة ودخول الجنة، والسالكة به إلى النار أعاذنا الله منها.
الذنوب
1- الذنب لغة: الإثم والجرم والمعصية.
2- اصطلاحاً: ترك المأمور به من الله، وفعل المنهي عنه، وبعبارة أخرى أن لا يراك الله حيث نهاك، وأن لا يفتقدك حيث أمرك.
والمأمور به من قبل الله عز وجل إما أن يكون واجباً أو مستحباً، والمنهي عنه من قبله أيضاً إما أن يكون محرماً أو مكروهاً، والمراد منهما في مقام الذنب، هو ترك الواجب وفعل المحرم، وهذا في حده الأدنى مرتبة العوام، وأما الذنب الذي ينسب إلى الأنبياءعليهم السلام والأولياء سواء في القرآن الكريم أو الروايات الشريفة أو الأدعية، فهو مرتبة أخرى أحد تفاسيرها ترك الأولى، لأنهم يعتبرون أي التفاتٍ عن معبودهم وساحة قدسه ذنباً يستغفرون الله منه.
ولا بد من الإشارة إلى أن معصومين مخلصون من قبل الله عز وجل، وقد حصنهم بملكة نفسانية قوية تمنعهم باختيارهم من ارتكاب المعصية، بل والتفكير بها أيضاً لعلمهم بقبحها ومدى خطورتها وتأثيرها.
ورغم ابتلاء الإنسان بالشيطان الذي أقسم"قَالَ فَبِعِزتِكَ لَأغْوِيَنهمْ أَجْمَعِينَ"، إلا أن الحق تعالى أجابه بأن لا سبيل لك على من تقرب إلي، واعتصم بي،"إن اللهَ مَعَ الذِينَ اتقَوْا وَالذِينَ همْ محْسِنونَ"، وقال تعالى"إِن اللهَ يدَافِع عَنِ الذِينَ آَمَنوا إِن اللَهَ لَا يحِب كل خَوانٍ كَفورٍ".
المفاهيم الأساس
1- إن الطريق إلى الله تعالى وهو طريق ذات الشوكة، لا يكون إلا من خلال عملية تربوية تهذيبية للنفس الأمارة بالسوء.
2- إن ارتكاب الذنوب، وما يترتب عليها من آثار، هو بمثابة السم القاتل، والحاجز المانع للوصول إلى الله تعالى.
3- إن عالم الدنيا هو عالم الابتلاء والتكليف لعباد الله، فالإنسان إما أن يكون مطيعاً لله، وهذا له آثاره وبركاته في بعث الأمل في نفوس المؤمنين، وإما يكون عاصياً لله وهذا له أيضاً آثاره المهلكة، في الدنيا والآخرة.
4- من الآثار العامة التي تترتب على فعل الذنب، هو قسوة القلب، والدخول في ولاية الطاغوت، وحرمان الرزق ونقصان العمر وغيرها.
الآثار البرزخية والأخروية للذنوب
كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر
"يا عباد الله ما بعد الموت لمن لا يغفر له أشد من الموت، القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته... يا عباد الله إن أنفسكم الضعيفة، وأجسادكم الناعمة الرقيقة، التي يكفيها اليسير، تضعف عن هذا فإن إستطعنم أن تجزعوا لأجسادكم وأنفسكم بما لا طاقة لكم به، ولا صبر لكم عليكم، فاعملوا بما أحب الله، واتركوا ما كره الله"(6)
الآثار البرزخيـة
"إِنا نَحْن نحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتب مَا قَدموا وَآثَارَهمْ وَكل شَيْءٍ أحْصَيْنَاه فِي إِمَامٍ مبِينٍ"(7)
تقدم في الدرس السابق إحدى عشر ذنباً دنيوياً للذنوب، وفي هذا الدرس نتعرض للآثار البرزخية والأخروية لها.
ما هو البرزخ؟
البرزخ هو الحاجز والحد الفاصل بين الشيئين، قال تعالى: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ"(8) فقد فسرت هذه الآية بأنه الحاجز بين الماء المالح والماء العذب.
وقيل إن البرزخ هو الحد الفاصل بين الدنيا والآخرة، أو بين الموت والبعث، قال تعالى: "وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يبْعَثونَ"(9)، وفي تفسير هذه الآية قال الإمام السجاد عليه السلام: "هو القبر، وإن لهم فيه لمعيشة ضنكاً، والله إن القبر لروضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار..."(10).
وقيل إنه الحاجز لهم من الرجوع إلى الدنيا والإمهال إلى يوم القيامة، وكل هذه المعاني متقاربة ترجع إلى معنى واحد ظاهراً.
وقد تحدثت الروايات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الهداة عليهم السلام عن أحوال البرزخ وأهوال القبر وسوف نشير إلى أهمها
1- ضغطة القبر
ولا ينجو منها إلا القليل القليل من عباد الله المؤمنين الصالحين. يروي أبو بصير قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ قال: فقال عليه السلام: نعوذ بالله منها، ما أقل ما يفلت من ضغطة القبر ... وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في جنازة سعد وقد شيعه سبعون ألف ملك، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه إلى السماء، ثم قال: مثل سعد يضم!..."(11).
وورد في وصف شدتها أن الأرض تضم الميت ضمة تفري اللحم، وتطحن الدماغ، وتذيب الدهون، وتخلط الأضلاع، غير أن الشدة والضعف فيها يدور مدار قوة الإيمان وضعفه أو عدمه عند الميت.
ويروي الصادق عن آبائه عليهم السلام قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ضغطة القبر للمؤمن كفارة لما كان منه من تضييع النعم"(12)، وسيأتي إن شاء الله في مكفرات الذنوب أن المؤمن إذا لم تكفر جميع ذنوبه في الدنيا، فإن ضغطة القبر تكون بمثابة الرحمة له لتكفر عنه ما بقي من سيئاته.
وأهم أسبابها سوء الخلق مع الأهل، كما ورد في الخبر عن سبب ضغطة سعد المتقدم، والنميمة وكثرة الكلام والتهاون في الطهارة.
وهذه الضغطة لا تنحصر بالأرض فقط، بل ورد أن الهواء له ضغطة، والماء له ضغطة أيضاً.
2- سوء العذاب في القبر
قال الله تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِن لَه مَعِيشَةً ضَنكًا"(13)، ويروى في تفسيرها عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "وإن المعيشة الضنك التي حذر الله منها عدوه عذاب القبر..."(14).
وهذا العذاب يختص بغير المؤمنين المقربين، لأن قبر المؤمن روضة من رياض الجنة، وأما الكافر فهو الذي قبره حفرة من حفر النيران، ينال فيه سوء العذاب يقول الإمام الصادق عليه السلام: "فَأَما إِن كَانَ مِنَ الْمقَربِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ"، قال في قبره، "وَجَنة نَعِيمٍ"، قال في الآخرة، "وَأَما إِن كَانَ مِنَ الْمكَذبِينَ الضالينَ * فَنزلٌ منْ حَمِيمٍ"، في القبر "وَتَصْلِيَة جَحِيمٍ"، في الآخرة"(15).
3- قرين السوء
وهو العمل السيئ الذي يرافق الإنسان العاصي في قبره، ويكون معه إلى يوم حشره وحسابه.
يروى عن قيس بن عاصم أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: "... يا قيس لا بد لك من قرين يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تحشر إلا معه، ولا تسأل إلا عنه، ولا تبعث إلا معه، فلا تجعله إلا صالحاً، فإنه إن كان صالحاً لم تأنس إلا به، وإن كان فاحشاً لم تستوحش إلا منه، وهو عملك..."(16).
وتروي الزهراء عليها السلام عن أبيها صلى الله عليه وآله وسلم في رواية التهاون في الصلاة إن من آثارها في القبر ثلاثة: "وأما اللواتي تصيبه في قبره فأولاهن يوكل الله به ملكاً يزعجه في قبره، والثانية يضيق عليه في قبره، والثالثة تكون الظلمة في قبره"(17).
4- الندم وطلب الرجوع
ويا لها من حسرة ما بعدها حسرة، أن يستيقظ الإنسان من نومته وغفلته، فيرى نفسه ميتاً قد أخذ إلى قبره "الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا"(18).
فيتحسر على ما فرط في جنب الله، ويسأل الله الرجعة إلى الدنيا "حَتى إِذَا جَاء أَحَدَهم الْمَوْت قَالَ رَب ارْجِعونِ * لَعَلي أَعْمَل صَالِحًا فِيمَا تَرَكْت كَلا إِنهَا كَلِمَةٌ هوَ قَائِلهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يبْعَثونَ"(19).
قال في إرشاد القلوب: "إنه يقول هذه الكلمة لما شاهده من شدة سكرات الموت، وأهوال ما عاينه من عذاب القبر وهول المطلع، ومن هول سؤال منكر ونكير، قال الله تعالى: "وَلَوْ ردواْ لَعَادواْ لِمَا نهواْ عَنْه وَإِنهمْ لَكَاذِبونَ"(20)
لمَ القيامة؟
وقبل الحديث عن آثار الذنوب الأخروية، لا بأس بالحديث عن الآخرة ويوم القيامة، وما أدراك ما يوم القيامة "يَوْمَ يَقوم الناس لِرَب الْعَالَمِين"(21)، ويحشرون في ساحتها، وهو يوم عظيم مهول، بشر الله فيه المؤمنين الصالحين بالأمن والأمان، وتوعد الظالمين المجرمين سوء الحساب، يوم "يَجْعَل الْوِلْدَانَ شِيبًا"(22)، "يَا أَيهَا الناس اتقوا رَبكمْ إِن زَلْزَلَةَ الساعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَل كل مرْضِعَةٍ عَما أَرْضَعَتْ وَتَضَع كل ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناسَ سكَارَى وَمَا هم بِسكَارَى وَلَكِن عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ"(23).
لقد شدد الله عز وجل في القرآن الكريم على مسألة المعاد في عشرات السور القرآنية، حتى قيل إن ثلث القرآن يرتبط بأحوال الآخرة وما بعدها...
نذكر بعضاً مما قاله في كتابه الكريم "أَفَحَسِبْتمْ أَنمَا خَلَقْنَاكمْ عَبَثًا وَأَنكمْ إِلَيْنَا لَا ترْجَعونَ"(24)، "قلْ إِن الْأَولِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْموعونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ معْلومٍ"(25).
وخلاصة الكلام؛ إنه بعد طي منازل الآخرة وعقباتها وصراطها، فإن المصير إما إلى الجنة أو إلى النار، وبيد الإنسان تحديد المصير، "مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كفْره وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفسِهِمْ يَمْهَدونَ"(26).
المصادر :
1- سورة القمر: 55
2- سورة الإنشقاق: 6
3- سورة الأعراف: 16 ـ 17
4- وسائل الشيعة، ج15، ص161
5- الكافي، ج1، ص17
6- بحار الأنوار، ج6، ص218
7- سورة يس، الآية: 12
8- سورة الرحمن، الآيتان: 19 و20
9- سورة المؤمنون، الآية: 100
10- بحار الأنوار، ج6، ص159
11- الكافي، ج3، ص236
12- بحار الأنوار، ج6، ص221
13- سورة طه، الآية: 124
14- بحار الأنوار، ج6، ص218
15- م. ن، ج6، ص217
16- م. ن، ج74، ص177
17- مستدرك الوسائل، ج3، ص23
18- بحار الأنوار، ج4، ص43
19- سورة المؤمنون، الآيتان: 99 و100
20- سورة الأنعام، الآية: 28./ إرشاد القلوب، ج1، ص56
21- سورة المطففين، الآية: 6
22- 18- سورة المزمل، الآية: 17
23- سورة الحج، الآية: 1
24- سورة المؤمنون، الآية: 115
25- سورة الواقعة، الآيتان: 49 و50
26- سورة الروم، الآية: 44
source : rasekhoon