أنّ البعض- من غربيّين ومصريّين- ينفي صلاحيّة البراهين الفلسفيّة لإثبات وجود الله، ويحصر طرق معرفته بالطرق خاصة، كطريق الفطرة والقلب، وطريق الخلق، وطريق تأمّل النظم الدقيق في المخلوقات، وكذلك معرفة الله من خلال تأمّل ظاهرة الهداية المشهودة في حركة المخلوقات وعملها.
وقالوا: إنّ جميع الطرق الفلسفيّة قديمةٌ لا توصل إلى المطلوب، ولذلك فإنّ القرآن لم يسلكها، وإنّما اعتمد على الطرق آنفة الذكر.
ونحن نفنّد هذا الإعتراض إلى جوابين:
أوّلاً: محدودية معرفة التوحيد في الطرق الأخرى:
لا شكّ في صحّة الطرق المذكورة لإثبات وجود الله جلّ وعلا ولكن ما يُلاحظ عليها محدوديّة المعرفة التوحيديّة التي تقدّمها:
ـ فصحيح أنّ الطريق الفطريّ يكفي للإنسان نفسه دليلاً على وجود الله، فإنّ من يجد في قلبه الشعور الوجدانيّ بربّه فهذا من أسمى المعرفة بوجوده تعالى، ولكنّ هذا الطريق يبقى قاصراً عن الاستدلال به للآخرين، لأنّه لا ينطلق من العقل والبراهين الاستدلاليّة.
ـ وأمّا الطرق العلميّة (الخلق والنظم والهداية)، فهي على تماميّتها في إثبات وجود الله، لكنّها غاية ما تُثبته هو وجود منظّم وخالق لهذا العالم، ولكن هذا غير كافٍ في مسألة إثبات التوحيد ومعارفه، فهذه الطرق لا توصلنا إلى مرتبةٍ أسمى من هذه المرتبة في معرفة الله، أي مرتبة من يعرف وجود المؤثّر والمدبّر إجمالاً وكأمرٍ مجهولٍ في تفصيلاته. وفي المقابل فالأدلّة الحسيّة عاجزةٌ بالكامل عن البتّ بشأن وحدانية أو تعدّد المنظّم والمدبّر لعالم الوجود، ربما إلى ما لا نهاية.
والحال أنّه لا يكفي في معارف التوحيد إثبات مدبّرٍ إجماليّ لهذا العالم، فها هو القرآن يصف الملائكة بمثل هذه الصفة.
ولا تجيب تلك الطرق على أسئلة من قبيل:
كيف وُجد هذا الخالق المنظّم؟ وهل وجوده قائمٌ بذاته أو مخلوقٌ لغيره؟! وهل أنّ وجوده أزليٌّ أبديّ؟.
وهي إذ تشير إلى بعض صفاته، ككونه عالماً وقادراً، فإنّها لا تبيّن هذه الصفات كما يجب أن نعتقد بتوفّرها فيه جلّ وعلا، فهي تذكر أنّه عالمٌ- لطبيعة النظم الموجود في العالم- ولكنّها تثبت علمه بالمخلوق الذي صنعه، دون أن تُثبت أنّه:﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(1)، أي الاعتقاد بخلوّ ذاته من جميع أَشكال الجهل.
وهي تُثبت قدرته، حيث خلق كوناً بهذه العظمة، ولكنّها تعجز عن إثبات كونه:﴿على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾(2)، وأنّه منزّهٌ عن جميع أَشكال العجز.
وهكذا تعجز عن إثبات أنّه الموجد والمدبّر لجميع شؤون هذا العالم، وهو معكم أينما كنتم... وأنّه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾(3)...
وفي النتيجة:
إنّ أدوات العلم الحسيّ يمكنها أن توفّر لنا مستوى معيّناً من المعرفة بالله، لكنّها بأدواتها لا ترقى إلى تقديم الأجوبة اللازمة للأسئلة المثارة حول الخالق عزّ وجلّ.وهذا المستوى من معرفة الله لا يؤسّس لعلم التوحيد، ولا لتشكيل معارفه الجليلة.
ثانياً: القرآن والأدلة الفلسفيّة:
وأمّا ما ذُكر من إهتمام القرآن الكريم بمثل طرق الفطرة والخلق والنظم دون الطرق الفلسفيّة، فالجواب عليه من جهتين:
الأولى: إنّ القرآن قد أشار إلى المعارف التوحيديّة الفلسفيّة، وأشار إليها كما سنتعرّض عند بيان البرهان الفلسفيّ5، بل بيّن من حقائقها ما هو أسمى ممّا توصّلت إليه الفلسفة اليوم.
وهناك آيات أخرى تشير إلى أدلة عقلية وفلسفية نذكر منها قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (4)، ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً﴾(5)، ﴿مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (6)
الثانية: إنّ سبيل عامّة الناس في معرفة الله هو سلوك هذه الطرق، فإنّ المهمّ بالنسبة للعوام هو الحصول على أصل الإيمان بالله، لذلك يكفيهم أن يستدلّوا بوجود ما يشاهدونه من آثار القدرة والعلم والتدبير الإلهيّ، دون أن يتقدّموا خطوة إضافيّة إلى الأمام. ويختص بهذه الخطوة من كان لديه معرفةٌ أسمى بالله عزّ وجلّ.
ولذلك فنحن نعتقد بأنّ السبيل الفلسفيّ، وإن لم يكن عامّاً في صدر الإسلام، إلا أنّه قد سلكه بعض الخواصّ من أهل التوحيد.
بيان البراهين الفلسفيّة:
إنّ البرهان الفلسفيّ الكامل الذي يهمّنا في المقام هو البرهان الوجوديّ، ولكن قبل التعرّض له، لا بدّ من سرد تاريخيّ إجماليّ لبعض البراهين الفلسفيّة التي سبقته، لذا نتعرّض إلى ثلاثة براهين فلسفيّة:
1ـ برهان المحرّك الأوّل
2ـ برهان الوجوب والإمكان الوجوديّ
3ـ البرهان الوجوديّ
1- برهان المحرّك الأوّل:
يعتمد هذا البرهان على الحركة الموجودة في هذا العالم. وقد نُقل هذا البرهان عن أرسطو. وقبل أن نشرع في بيانه لا بدّ من توضيح مفهوم الحركة في المصطلح الفلسفيّ:
فالحركة في الفلسفة لا تختصّ بأنواع الحركات المكانيّة، بل تشمل كلّ تغيّر وتحوّل سواء أكان مكانيّاً أم كميّاً أم كيفيّاً أم وضعيّاً أم جوهريّاً، فالحركة عند الفيلسوف تقابل الثبات.
إذا كان هذا المحرّك ثابتاً فلا بدّ أن يكون وراء عالم الطبيعة، لأنّ في كلّ جزءٍ من أجزاء هذه الطبيعة نوعاً من التغيّر والتحرّك، فلا يوجد في عالم الطبيعة ثباتٌ، وبالتالي يثبت مطلوب أرسطو.
وأمّا إذا كان متحرّكاً فهو بحاجةٍ إلى محرّك، فيتكرّر السؤال عن المحرّك الثاني هل هو ثابتٌ أو متحرّك؟ وهكذا إلى أن تنتهي الحركات إلى محرّكٍ ثابتٍ وهو الذي سمّوه بـ: (المحرّك الأوّل).
إشكال وردّ:
قد يُعترض على برهان أرسطو بأنّ علم الفيزياء يرفض نظريّة احتياج الحركة بنفسها إلى محرّك، وإنّما تغيير الحركة(كزيادة سرعتها أو تغيير اتجاهها) هو الذي يحتاج إلى محرّك.
إلا أنّ المحرّك الذي يقصده أرسطو غير المحرّك الذي تحدّثت عنه الفيزياء، فالمحرّك الذي يذكره أرسطو هو المحرّك الكامن في داخل الجسم المتحرّك، بينما الذي تتحدّث عنه الفيزياء هو عاملٌ يقع خارج وجود المتحرّك، فلا يصلح هذا الكلام لأن يكون دليلاً على بطلان نظريّة أرسطو.
ملاحظات حول برهان المحرّك الأوّل:
أنّه لم يعتمد البرهان الفلسفيّ المحض، بل استعان بالآثار الطبيعيّة، وذلك في المقدّمة الثالثة(وجود الحركة في العالم)، وهذا ممّا يضعف قيمته الفلسفيّة العقليّة.
كما أنّ هذا البرهان، وإن أثبت وجود محرّكٍ ثابتٍ خارج نطاق عالم الطبيعة، إلا أنّه عاجزٌ عن إثبات وحدانيّته، ولذا لا يمكنه أن يجيب على مسألة أن يكون مخلوقاً لمحرّك آخر، وهذا بدوره إلى محرّكٍ ثالث، وهكذا إلى ما لا نهاية.
وعلى أي حال نحن لا نريد الإستناد إلى هذا البرهان، فنكتفي بهذا المقدار من العرض له والذي يزوّدنا بالمعرفة التاريخيّة اللازمة.
2- برهان الوجوب والإمكان الوجوديّ:
ذكر إبن سينا هذا البرهان، معتمداً على مبدأ (الوجوب والإمكان)- بدلاً من مبدأ الحركة- وهو مبدأ فلسفيّ، ولذلك فإنّ الصبغة العقليّة والمحاسبات الفلسفيّة في هذا البرهان أوضح من السابق.
وينطلق إبن سينا في هذا البرهان من تقسيم الوجود إلى واجبٍ وممكنٍ، لذلك- وقبل توضيح هذا البرهان- لا بدّ من بيان تقسيمات الوجود.
تقسيمات الوجود:
إذا كنّا أمام موضوعٍ وصفة، فحالاته لا تخلو من إحدى ثلاث:
إمّا أن يكون إتصاف الموضوع بهذه الصفة- أي وجود هذه الصفة في هذا الموضوع- واجباً وضروريّاً بحيث يستحيل عدم الإتصاف، فهذا هو الضرورة أو الوجوب، كضروررة ثبوت الزوجية للأثنين.
وإمّا أن يكون الاتصاف مستحيلاً وممتنعاً، فذلك الإمتناع أو الاستحالة، كاستحالة ثبوت الفرديّة للاثنين.
وإمّا أن يكون اتصاف الموضوع بصفته ممكناً، وذلك أغلب الحالات الطبيعيّة، كإمكان وجود عشرة أشخاص في القاعة، فهنا لا توجد ضرورة الإتصاف ولا إستحالته، ولذلك نقول إنّه- في حدّ ذاته- متساوي الطرفين بالنسبة للوجود أو العدم.
ولا تخلو حالات الموجودات من إحدى هذه الحالات الثلاث، نعم هناك ما يُعرف بين الماديّين والإلهيّين بـ "نظام الضرورة"، ومعنى ذلك:
أنّ ممكن الوجود، والذي ذكرنا أنّه متساوي الطرفين بالنسبة للوجود والعدم، لا يمكن أن يوجد إلا بأن يترجّح وجوده فيخرج إلى حيّز الوجود، وبعبارة أخرى إلا بأن ينتقل بسبب هذا العامل الخارجيّ إلى ضرورة الوجود، وإلا بقيَ متساوي الطرفين، غير مرجّح الوجود ولا العدم وهو المعبّر عنه (بأنّ الشيئ ما لم يجِب لم يوجد)، ويسمّى الممكن حينها بـ: "واجب الوجود بالغير".
إنّ قولنا إنّ الممكنات ضروريّة الوجود بالغير لا ينافي اعتقادنا بوجود الإختيار- في مقابل الجبر-، وذلك أنّ وجوب وجودها ناتج عن علل خارجة.
تقرير البرهان:
يهدف هذا البرهان إلى إثبات واجب الوجود، وينطلق في محاسبة وجود الموجودات في هذا العالم، فيقول: إنّ وجودها ليس أمراً محالاً، إذ إنّ وجودها هو دليل عدم كونها من المحالات.
وعليه فوجود هذه الموجودات إمّا ممكنٌ وإمّا واجب ضروريّ:
فإذا كان وجودها واجباً فهو المطلوب، أي إثبات وجود واجب الوجود.
وأمّا إذا كان وجودها ممكناً، فهنا نقول:
إنّ ممكن الوجود هو متساوي الطرفين بالنسبة للوجود والعدم، وهذا يعني أن وجوده هو نتيجة أمرٍ خارجٍ عن ذاته-كما تقدّم- وهذا يستلزم وجود علّة أوجدته، فهنا نسأل هل هذه العلّة واجبةٌ ضروريّةٌ أو ممكنة؟
إذا كانت واجبة الوجود فهو المطلوب- حيث يثبت واجب الوجود- وأمّا إذا كانت هذه العلّة ممكنة الوجود- متساوية الطرفين- فهنا نقول: إنّ هذا يستلزم وجود علّة أوجدتها، وهكذا... فإمّا أن يلزم التسلسل، وهو باطل، وإمّا أن نصل إلى علّةٍ تكون واجبة الوجود وهو المطلوب.
إشكال وجوابه:
يعترض البعض بأنّ الماديّين يعتقدون باستمرار نظام هذه السلسلة من العلل والمعلولات إلى ما لا نهاية، فيكون نظام الوجود مكوّناً من سلسلةٍ غير متناهيةٍ من ممكنات الوجود.
والجواب عبر بيان استحالة تسلسل الممكنات:
إنّ تسلسل العلل محالٌ، ويمكن بيان هذه الإستحالة على النحو التالي:
إنّ ما يذكره الماديّون هو أنّ عالم الوجود بجميع أجزائه ممكن في سلسلة لا متناهية من العلل والمعلولات، وهنا ننظر إلى المجموع وإلى السلسلة ككلّ، ونقول: إنّ هذه السلسلة ستأخذ حكم أفرادها وهو إمكان الوجود، أي تساوي الطرفين بالنسبة إلى الوجود والعدم، وبالتالي فتحتاج إلى عامل خارجيّ يرجّح وجودها ويخرجها إلى حيّز الوجود لتكون واجبة الوجود بالغير، وهذا هو مقتضى نظام الضرورة السابق الذي يعتقد به الماديّ نفسه.
3- البرهان الوجوديّ:
وهذا الطريق قد سلكه الملا صدرا، وهو أسمى وأدقّ وأقوى من برهان ابن سينا، ويقوم على أساس الاستدلال على وجود الحقّ بذاته المقدّسة، دون الحاجة إلى الاستدلال بغيره عليه، وهذا ما هو مشهود في الآيات القرآنيّة، كقوله تعالى: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾(7)، وفي آية أخرى يستشهد بها الملا صدرا نفسه:﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(8).
كما نجد إشارة إلى ذلك في بعض الأدعية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، كما في دعاء الصباح: (يا مَن دلَّ على ذاتِه بذاتِه)، وفي دعاء أبي حمزة الثماليّ: (بكَ عرفتُكَ وأنت دَلَلتَني عَليكَ)، وفي دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة: (أَيَكونُ لغيركَ مِن الظُهورِ مَا ليس لكَ حتّى يكونَ هُوَ المظهر لكَ)، إلى غير ذلك من النصوص الإسلاميّة التي تكرّر هذا المضمون كثيراً.
البرهان الوجوديّ عند الأوروبيين:
قبل بيان الطريق الذي سلكه صدر المتألّهين، لا بدّ من الإشارة إلى ما ذكره الفلاسفة الأوروبيّون من البرهان الوجوديّ، والذي لا يخلو من شَبَهٍ بالبرهان الذي أقامه- قبلهم- صدر المتألّهين، وذلك بهدف المقارنة بين السبيلين في معرفة الله، ومعرفة الخلل الواقع في البرهان كما ذكره الأوروبيّون.
عرض آنسلم للبرهان الوجوديّ:
أوّل من ذكر البرهان الوجوديّ في الفلسفة الأوروبيّة هو القدّيس والفيلسوف المسيحيّ (آنسلم)، وذلك في القرن الحادي عشر الميلاديّ.
وينطلق هذا البرهان من تصوّرات الإنسان، وبيانه:
المقدّمة الأولى: إنّ لدى كلّ إنسان تصوّراً عن ذات هي الذات الأكمل، وبعبارةٍ أخرى: إنّ الإنسان قادرٌ على تصوّر (الكامل المطلق).
المقدّمة الثانية: الوجود صفة كمال، فالذات التي لا يكون لها وجود لا تكون كاملة.
النتيجة: فلا بدّ أن تكون هذه الذات- الأكمل تصوّراً- موجودةً، وإلا لما كانت أكمل (يلزم خلف فرض كونها الأكمل).
إذاً توجد ذات هي في التصوّر والواقع أكبر من كلّ ذات، وهي الله.
عرض ديكارت للبرهان الوجوديّ:
عرض الفيلسوف الفرنسي ديكارت البرهان الوجوديّ بطريقة أخرى، فقد بدأ ديكارت تفكيره بالشك المنهجيّ، أي بالشك في كلّ شيء للوصول إلى نقطة يقينيّة يَعبُرُ من خلالها إلى الحقيقة. ونقطة اليقين التي وصل إليها هي اليقين بأنّه يشكّ، فقال: يمكن أن أشكّ في كلّ شيء ولكن لا يمكن أن أشكّ في كوني أشكّ فعلاً!
وبعد أن أيقن بأنّه يشكّ، أدرك وجوده، لأنّه هو الشاكّ فهو موجود أيضاً، وهذا معنى عبارته الشهيرة: (أنا أفكّر إذاً أنا موجود).
بعدها توجّه ديكارت إلى ما لديه من تصوّراتٍ وتساؤلٍ عن كيفيّة تكوّنها في ذهنه، ليبحث في أنّه هل هو الذي أوجدها أو غيره، وتابع بحثه بهذه الطريقة إلى أن وصل إلى تصوّره عن المطلق غير المتناهي، وحينها قال بأنّه لا يستطيع أن ينسب إيجاد هذا التصوّر اللامتناهي إلى نفسه، لأنّ وجودَه محدودٌ ومتناهٍ فيعجزُ عن إيجاد تصوّرٍ عن ذاتٍ مطلقةٍ غير محدودةٍ ولا متناهيةٍ، فلا مفرّ من القول بأنّ الذي أودع في ذهنه هذا التصوّر غير المتناهي هو موجودٌ لا متناهٍ. وبذلك يثبت وجود الله.
الجواب على طريقة الاستدلال:
من الملاحظ أنّ الأوروبيين إنطلقوا في استدلالهم بالبرهان الوجوديّ من مسألة التصوّر، وهذا هو ما أوقعهم في المغالطة، لأنّ تصوّر الشيء غير حقيقة هذا الشيء وواقعه، فتصوّر النار مثلاً غير واقع وحقيقة النار، ولذلك نجد الإنسان يتصوّر النار من غير أن يحترق ذهنه، فتصوّر الموجودات في الذهن لا تترتّب عليه آثارها الخارجيّة.
وهكذا فإنّ تصوّر الذات اللامتناهية لا يكون شيئاً غير متناهٍ بحيث لا يمكن أن يصدر عن المحدود المتناهي.
ولذا فإنّ بين الفلاسفة الأوروبيين أنفسهم من نقض هذا البرهان ورفضه، كالفيلسوف الألماني (كانت)، حيث ذكر بأنّ وجوب وجود الذات الكاملة هو فرع تحقّق وجودها، لا مجرّد وجود تصوّر عنها، وعلّق على كلامهم بالقول: إنّ استدلالهم هو بمثابة من يتصوّر وجود مائة قطعة ذهبيّة لديه، ويبني عليه وجودها في خزنته!.
وهكذا الحال في الذات المقدّسة، فإنّ مجرّد تصوّر وجودها لا يستلزم وجودها واقعاً.
البرهان الوجوديّ عند صدر المتألّهين:
هكذا يتبيّن أنّ الأوروبيين إنطلقوا من التصوّر الذهنيّ في البرهان الوجوديّ، وبالتالي لم يكن استدلالهم تامّاً ولم يخلُ من إشكالٍ، أمّا صدر المتألهين فقد سلك طريقاً آخر يسلم من الإشكال، حيث سلك طريق الوجود نفسه، معتبراً أنّ جميع ما في الأذهان من معانٍ ومفاهيم هي في الحقيقة تعيّنات يدركها الذهن للوجودات المتحقّقة في الخارج.
أصالة الوجود:
والنظريّة التي شكّلت نقطة إرتكاز لصدر المتألّهين هي مسألة (أصالة الوجود وإعتباريّة الماهيّة) ، ومعنى ذلك أنّ المتحقّق في الواقع الخارجيّ هو الوجود نفسه، وكلّ شيء غير الوجود فهو مظاهر وتجليّات له وأمور إعتباريّة لا حقيقة لها في الواقع الخارجيّ. فواقع ما نراه في الخارج من أشياء(إنسان، شجر، حجر...) ليست أموراً محقّقة بحيث يكون الوجود أحد صفاتها، وإنّما المتحقّق واقعاً هو الوجود ذاته، وهو هنا إنسان وهناك شجرة وهنالك حجر، فالمتحقّق هو الوجود وله مظاهر وتجليّات متنوّعة، فيظهر هنا بشكل وهناك بشكل آخر.
وبكلمة واحدة: إنّ الأصالة في العالم هي للوجود ذاته، فهو وحده الحقيقة وما عداه أمور إعتباريّة.
بيان برهان صدر المتألهين:
بعد أن أثبت صدر المتألّهين أنّ المتحقّق والأصيل في الخارج هو الوجود بنفسه وذاته، توجّه إلى هذا الوجود ليتعرّف إليه، فقال:
إنّ الوجود يمكن أن يكون على نوعين هما:
وجودٌ ناقصٌ ومحدودٌ، ووجودٌ كاملٌ ومطلقٌ.
ولكنّ طبيعة الوجود تقتضي أن يكون وجوداً مطلقاً وأبديّاً وخالداً. فإنّنا لو تعمّقنا في الوجود بذاته لوجدناه مساوياً لوجوب الوجود وعدم التناهي والكمال المطلق، فما لا بدّ من بحثه هو في الوجودات الناقصة لنرى سرّ النقص والاحتياج فيها، والصحيح أنّ مصدر النقص والإحتياج هو كونها معلولةً لوجودٍ
غيرها، لأنّ من لوازم المعلوليّة التأخّر والنقص والعدم، وليس ذلك من لوازم الوجود.
بذلك يتّضح أنّ الوجود في مرتبته الأولى هو الله، ثمّ من ناحية المعلوليّة تتحقّق وجوداتٌ ممكنةٌ هي أضعف وأنقص.
خلاصة
ـ يتميّز البرهان الفلسفيّ بأنّه:
ـ برهان عقليّ يعتمد الاستدلال والبرهان، فيمكن الإستفادة منه لإقناع الآخرين.
ـ ويمكن أن يدحض جميع الإشكالات المثارة حول مسألة التوحيد، وذلك عن طريق العقل أيضاً.
ـ يبيّن تفاصيل الصفات الإلهيّة فلا تبقى عامّةً أو مجهولةً لدينا.
ـ ويؤسّس إلى معارف توحيديّة تفصيليّة جديرة بأن تُسمّى بعلم التوحيد.
ـ إنّ القرآن إعتمد كثيراً على طرق الفطرة وباقي الطرق العلميّة بما يتوافق والعوامّ من الناس، إلا أنّه بيّن معارفَ ساميةً في التوحيد، تلك المعارف هي التي يبيّنها البرهان الفلسفيّ، ويختصّ بها الخواصّ من أهل التوحيد.
ـ هناك مجموعة من البراهين الفلسفيّة نعرض بعضها:
ـ برهان المحرّك الأوّل: وقد ذكره أرسطو، ويعتمد على أنّ كلّ ما في عالم الطبيعة متحرّك، والمتحرّك يحتاج إلى محرّك، ولا بدّ أن يكون هذا المحرّك
ثابتاً، وإلا لزم أن يكون له محرّك آخر وهكذا، وما يكون ثابتاً فهو وراء عالم الطبيعة.
ـ يلاحظ على برهان أرسطو أنّه يعتمد على مقدّمة طبيعيّة غير فلسفيّة، وأنّه عاجز عن إثبات الوحدانيّة.
ـ برهان الوجوب والإمكان: وهو البرهان الذي ذكره إبن سينا، ويعتمد على تقسيمات الوجود الثلاثة: الوجوب، الإمكان، الإستحالة، وعلى مبدأ نظام الضرورة، فيبيّن أنّ موجودات العالم لا يمكن أن تكون مستحيلةً، فهي إمّا واجبةٌ وإمّا ممكنةٌ، إذا كانت واجبةً ثبت المطلوب، وأمّا إذا كانت ممكنةً، فلا بدّ من واجب يرجّح ويوجب وجودها، وفق مبدأ الضرورة.
ـ البرهان الوجوديّ: وهو البرهان الذي ذكره الملا صدرا، ويشبهه ما يذكره الفلاسفة الأوروبيّون. إلا أنّ الأوروبيين وقعوا في مشكلةٍ حيث إنطلقوا من التصوّرات الذهنية إلى التحقّق الخارجيّ، فيما إنطلق صدر المتألّهين من نفس الوجود، لأنّه هو المتحقّق والأصيل في الخارج، وطبيعة هذا الوجود تقتضي الكمال والإطلاق ممّا يثبت وجود الذات الكاملة المطلقة وهي ذات الله عزّ وجلّ، والتي كانت علّةً لوجوداتٍ ناقصةٍ ومحدودةٍ.
المصادر :
1- البقرة: 29
2- الأحزاب: 27
3- الشورى: 11
4- الأنبياء:22
5- الاسراء:42
6- المؤمنون:91
7- آل عمران: 18
8- فصلت:53
source : rasekhoon