ذهب کثير من المفسرين الی آفاق بعيدة وترکوا الجادة متخذين التراب طريقا وراحوا يراوغون شمالا ويمينا في تفسيرهم لآية المباهلة و حكموا بالعقيدة فقط ولم يتصلوا بالالفاظ واسباب النزول، ففسروا بالرأي والاجتهاد لكن عن العقيدة فقط.
ونحن لا نريد ان نلتقي مع المفسرين هذا الملتقى عبثا أو جنوحا عن الحقيقة ولقد رأيت قولهم " يدع كل منكم نفسه واعز اهله " فهم يفسرون النفس بنفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا " ولهذا ضمهم الى نفسه بل قدمهم بالذكر " وقالوا ايضا " ولم يقتصر على تعريض نفسه.. وخص الابناء والنساء لانهم اعز الاهل والصقهم في القلوب وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم... وقدمهم بالذكر على الانفس لينبه على لطف مكانتهم، وقرب منزلتهم وليؤذن بانهم مقدمون على الانفس مفدون بها " الى امثال هذه التعبيرات التي تشير الى ان " النفس " في آية (قل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم) انما هي نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلتفت اولئك الارائيون الى ان هذا لا يستقيم لمكان لفظة " ندع " من عدة وجوه: ان الله سبحانه امر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يدعو من المسلمين الابناء والنساء والانفس، ومعلوم باجماع المسلمين كافة ان رسول الله انما دعا الحسنين واباهما وامهما عليهم السلام ولم يدع غيرهم، فالصرف دعاء الابناء الى الحسنين والنساء الى فاطمة والانفس الى علي عليه السلام لانه لا يصح في العرف ان يدع الانسان نفسه، كما لا يصح في مقام الامر ان يأمر نفسه وقد قال الفقهاء: " ان الامر لا يجوز ان يدخل تحت الامر لان من حقه ان يكون فوق المأمور بالرتبة، ويستحيل ان يكون فوق نفسه " فلا يشمله امرء قطعا كما إذا امر القائد جنده بالهجوم على حصون العدو فهذا الامر منه لا يشمل القائد نفسه، فلو تخلف عن الهجوم لا يكون عاصيا، وإذا هجم مع الجند لا يكون ممتثلا لامر نفسه، وهذا بخلاف الجندي فانه يتصف بالعصيان إذا تخلف كما يتصف بالطاعة إذا تقدم. ولعله يستدل على ذلك بما ذكره الشريف الرضى في كتابه " حقائق التأويل " عن الواقدي في كتاب " المغازي " " من ان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)لما اقبل ومن معه من اسارى المشركين كان سهيل بن عمر مقرونا الى ناقة النبي فلما صار من اميال عن المدينة انتشط نفسه من القرن (الحبل) وهرب فقال النبي: " من وجد سهيل بن عمرو فليقتله وافترق القوم في طلبه، فوجده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بينهم منقبعا الى جذم (اصل شجرة) شجرة فلم يقتله واعاد الى الوثاق " قال الشريف الرضي في تعليل ذلك: " لانه لم يصح دخوله تحت امر نفسه، ولو وجده غيره من اصحابه لوجب عليه ان يقتله لما صح ان يدخل تحت امر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)" وأنت جد عالم انه لا يصح قطعا ان يكون المراد من " انفسنا " نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا واضح لمن تأول وتجنب وحي العقيدة.
وإذا كان المراد من الانفس نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد خرج بنفسه ومعه الابناء والنساء وانتهى كل شئ فكيف جاء امير المؤمنين علي عليه السلام مع المتباهلين ؟ !... وليس من السهل ان تجر العاطفة رسول الله فيخرج معه عليا إذا لم يكن مأمورا بذلك، فان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)لم يكن سيد حزب، وانما هو سيد امة ولم تكن اعماله مما يشتبهه وانما اعماله ضمن حدود الله سبحانه فلا يتجاوز حدود الله، وبالاجماع خرج معه علي.
ولماذا يا مفسرون ؟ فان قيل لمكان صيغة الجمع في " انفسنا " قلنا إن صيغة الجمع لا تستلزم ان يخرج عليا من بين مئات الالوف من صحبه فاما ان يفرض المفسرون ان رسول الله كان مأمورا باخراجه وهذا ما نقوله، واما ان يفرضوا ان اختاره من تلقاء نفسه، ولا محيص لهم عن الاعتماد على سبب مفهوم لهذا الاختيار، لامتناع تأثر النبي بالعاطفة.
على ان الصيغة باعتبارها جمع تدل على الثلاثة على الاقل فاين الثالث يا ترى ؟ وهل ان النبي لم يجد بين اصحابه الرجل الذي يليق لان يخرج معه ؟ !. وايضا الكلام يأتي في صيغة " نساءنا " فلماذا اخرج الزهراء عليها السلام فقط ولم يخرج معه غيرها وفي بيته صلى الله عليه وآله وسلم تسع نسوة ؟.. ولماذا.. ؟ والاسئلة كثيرة ومحرجة. اذن ليس المراد هو ابناء المسلمين ونساءهم وانفسهم، وانما المراد هؤلاء فقط لاغيره واذن الامر من عند الله " ان هو الا وحي يوحى علمه شديد القوى " واذن لابد ان يكون المراد من " الانفس " نفس علي فقط تنزيلا، وهذا يتأدى من الاية الكريمة، ومن مكان (ندع) في عرف اللغة كما هو واضح.
وفي اسباب النزول للواحدي " وكان الشعبي يفسر الاية فيقول " ابناءنا " الحسن والحسين و " نساءنا " فاطمة و " انفسنا " علي بن ابي طالب " (1)وفي الصواعق المحرقة لابن حجر في الاية التاسعة من الباب الحادي عشر " اخرج الدارقطني ان عليا يوم الشورى احتج على اهلها فقال لهم: انشدكم الله هل فيكم احد جعله الله نفس النبي وابناءه ابناءه ونساءه نساءه غيري ؟ قالوا: اللهم لا. " وفي دلائل النبوة قال الشعبي قال جابر " وانفسنا انفسكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وابناءنا وابناءكم الحسن والحسين ونساءنا ونساءكم فاطمة رضي الله عنهم اجمعين " وقال جابر فيهم نزلت " تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم. "(2)
ومن حق يوم المباهلة ان يهز اعصاب المسلمين وان يكون موئل هنائهم، له ذمته التي لاتضاع، وعهده الذي لا يخفر، وموثقه الذي لا ينقض ومن حقه ان يكون بدر هالة الايام الاسلامية الزاهرة، ومن حقه ان تتجاوب فيه اصداء الشعور الاسلامي وتتبادل فيه التهاني، فانه اختل في ذلك اليوم توازن نجران، وجهة النصرانية في الجزيرة العربية وكعبتها وقبلة آمالها. ولكن شاءت السياسة ان ينشق المسلمون نصفين وان تصنفهم صنفين صنف مال مع السياسة وسار الى جنبها اصابت أم اخطأت. وليس من موضوعنا ان نتحدث عن مصاير هذه السياسة ومبلغ قسوتها، ولكنا نلاحظ انه ليس من مصلحة السياسة ان تذكره بخير حيث لا تستطيع ان تذكره بشر، ولا اقل من ان تلقيه في سلة مهملاتها الى ان يشاء الله غير ما تشاء السياسة.
وصنف مال الى رسول الله صلى الله عليه وعليهم وسلم فتبنى يوم المباهلة فكان عيدا من اعيادهم، وكان يوما من ايام فرحهم وسرورهم بما ظهر لرسول الله صلى الله عليه وعليهم وسلم من الكرامة والشأن العظيم وللاسلام من عزة الجانب. ويوم المباهلة عند هذا الصنف من الناس يوم شريف مبارك، يجأرون فيه الى الله سبحانه بالدعاء، وهو عندهم من الايام الجليلة العظيمة بما فتح الله على الاسلام وعلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من الفتح العظيم.
مضت السنون وكرت الاعوام وهذا اليوم المبارك ما زال جديدا عظيما عند هذا الصنف من المسلمين، منسيا مهجورا عند الصنف الاخر لا يعرفون عنه شيئا ! الا ما يثيره الجدل المذهبي الحين بعد الحين والفينة بعد الفينة بين هذين الصنفين. وفي النهاية خلق الجدل العنيف عالما مفعما بالاقوال والاراء. ولا تزال المعركة الجدلية مشبوبة حارة يسعر نارها الحقد الكامن في النفوس.
قضت السياسة ان ينشق المسلمون على انفسهم وان يفترقوا الى طائفتين، وسياسة قاسية كهذه السياسة تستطيع ان تحطم عظماء الرجال وتتغلب على الامور، ولكن لا تستطيع ان تحطم المبادئ ولا تجرأ ان تقتحم القلوب فالمبادئ يسيرها رجال خلقوا لان يعملوا تحت قوارع النكبات في ظلمات الصعاب وهي ابعد من ان يتناولها السياسيون الخياليون.
وعلى كر السنين ومر الاعوام يتطور النزاع ويكثر الجدل ولم يشعر الناس شدة الخطر المحدق وتفشي هذا المرض الخبيث ولم يمنعهم مانع من ان ينشأ عليه صغيرهم، ويشب كبيرهم، ولعل ما نكب به الدين الاسلامي والمسلمون كان نتيجة لهذا الجدل أو المرض، وحتى الان لا يزال ينمو ويثمر هذه الثمرة الخبيثة. وطبيعي ان يكون ليوم المباهلة نصيب ليس بالقليل من هذا الجدل العنيف، ونحن وان كان موضوعنا التحدث عن يوم المباهلة وعن المباهلة، ولكن لا نريد ان نتغمس في هذا النزاع العقيم ولكن نريد ان نعقب حديث المباهلة بشئ من النوادر لمحناها حين مطالعتنا، وهي تتصل بهذه القصة. قال الشريف الرضي في كتابه " حقائق التأويل ":
" من شجون هذه المسألة ما حكي عن القاسم بن سهل النوشجاني قال: " كنت بين يدي المأمون في ايوان مسلم بمرو، وعلي بن موسى الرضا (عليه السلام)قاعد عن يمينه فقال لي المأمون يا قاسم اي فضائل صاحبك افضل ؟ ! فقلت: " ليس شئ افضل من آية المباهلة، فان الله سبحانه جعل نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفس علي عليه السلام واحدة " فقال لي: ان قال خصمك ان الناس قد عرفوا الابناء في هذه الاية والنساء وهم الحسن والحسين وفاطمة والانفس هي نفس رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)باي شئ تجيب ؟. قال النوشجاني: فاظلم علي ما بيني وبينه وامسكت لا اهتدي بحجة !. فقال المأمون للرضا عليه السلام: ما تقول فيها يا ابا الحسن ؟ فقال له الرضا عليه السلام: في هذا شئ لا مذهب عنه المأمون - ما هو الرضا - هو ان رسول الله صلى الله عليه وآله داع ولذلك قال الله سبحانه: " قل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم " والداعي لا يدعو نفسه وانما يدعو غيره فلما دعا الابناء والنساء ولم يصح ان يدعو نفسه لم يصح ان يتوجه دعاء الانفس الا الى علي بن ابي طالب عليه السلام، إذ لم يكن بحضرته - بعد من ذكرنا - غيره ممن يجوز توجه دعاء الانفس إليه، ولو لم يكن ذلك كذلك لبطل معنى الاية. قال النوشجاني: " فانجلى عن بصري، وامسك المأمون قليلا ثم قال يا أبا الحسن " إذا اصيب الصواب انقطع الجواب " هذه هي الكلمة المتصفة ما جاءت عابرة ولا هي خاطرة جرت ما قصد بنطقها الى دلالة الالفاظ وانما هي بيان لفهم مدلول اللفظ المطابقي واعتراف منه بالحقيقة التي لا مفر منها، والحق احق ان يتبع وحرى بالعاقل ان لا يندفع وراء تيارات نفسية كانت تسوق الكثيرين الى مناجزة رجل كل جرمه وجريرته انه علي ابن ابي طالب.
هذا كل جرمه. ومن نوادر قصة المباهلة ما ذكره بعض العلماء - ولم يسمه الشريف الرضي - من ان للعرب في لسانها ان تخبر عن ابن العم اللاصق والقريب المقارب بانه نفس ابن عمه وان الحميم نفس حميمه. ومن الشاهد على ذلك قوله تعالى " ولا تلمزوا انفسكم ولا تنابزوا بالالقاب " اراد تعالى ولا تعيبوا اخوانكم المؤمنين فاجرى الاخوة بالديانة مجرى الاخوة بالقرابة وإذا وقعت النفس عنده على البعيد النسب كانت اخلق ان تقع على القريب النسب.. لعل هذه النظرية محاولة اخرى لصرف النفس عن المراد منها وانكار هذه الفضيلة ليعسوب الدين.. ونحن إذا ما قبلنا النظر وانعمنا القسرفي هذا القول لرأينا انه ليس له من قيمة تشفع له في تصحيح اطلاق اللفظ على المعنى المدعى سوى هذه الاسس الهدامة التي يوحيها الوهم وليس لهذا القول الذي ارسله بعض العلماء ! وهو " ان للعرب في لسانها ان تخبر عن ابن العم اللاصق والقريب المقارب بانه نفس ابن عمه " صورة في الخارج الا هذه الصورة المغلوطة التي قامت على اساس الوهم والخيال صورها وحي العقيدة.
ولعل القارئ يفهم من التعبير " ان للعرب في لسانها ان تخبر " ان العرب لم تخبر وانما يريد ان يجيز لهم ان يخبروا عن ابن العم اللاصق بانه نفس ابن عمه. ولو اخبروا عن ابن العم بالنفس لكان حق التعبير " ان العرب اخبرت " ولما لم يكن شئ من ذلك اراد ان يتحكم ليصرف ذلك الفضل عن علي امير المؤمنين عليه السلام. على ان اللغة توقيفية لا يجوز ان يتصرف بها باي نوع من انواع التصرف فما ورد من الالفاظ نستعمله فيما ورد فيه سواء كان على سبيل الحقيقة أو المجاز أو الكناية وما لم يرد فلا يصح استعماله ولم نقف في معاجم اللغة ولا في موارد الاستعمال التي بين ايدينا على صحة هذا الاستعمال. وما ذكره من الشواهد لا تدل على اكثر من اطلاق النفس على الاخ في الدين وهذا صحيح بنص القرآن الحكيم لايستطيع ان ينكره احد، ونحن لا ندعي ان عليا نفس رسول الله حقيقة وانما الدعوة ان الله سبحانه نزل نفس علي عليه السلام منزلة نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما ذلك الا لمكانة علي من الله وسمو نفسه وعلو قدره وفنائه في ذات الله، وليس في المسلمين - وهم مئات الالوف يومئذ - من يصلح ان ينزل هذه المنزلة وليس فيهم من له مكانة ليصح تنزيله حقيقة وليس فيهم من يستحق هذه المرتبة السامية والمكانة الرفيعة والمنزلة العظيمة غير على صنو رسول الله وصهره على ابنته. ولو كان فيهم من له مكانته لما جاز من الحكيم ان يخصه دونه لانه ترجيح بدون مرجح، وحيث لم يدع غيره علما انه ليس في المسلمين ولا في الصحابة من يضاهيه ليصح تنزيله هذه المنزلة السامية.
وواضح انه ليس اطلاق النفس على علي عليه السلام كان من اطلاق النفس على ابن العم القريب المقارب فان هذا الاطلاق لم يوجد في كلام العرب ولم تقصده الاية الكريمة. على انه ربما يكون ذلك مجازفة باللغة إذا فسخنا المجال للوهم في تفسير المفردات ولرأينا انقسام امام سيل جارف من الاعتراضات. ومن ذيول المباهلة ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره الكبير قال: " وكان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي وكان معلم الاثنى عشرية وكان يزعم ان عليا رضي الله عنه افضل من جميع الانبياء سوى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واستدل على ذلك بقوله تعالى " وانفسنا وانفسكم " إذ ليس المراد بقوله " انفسنا " نفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم لان الانسان لا يدعو نفسه بل المراد غيره، واجمعوا على ان ذلك الغير كان علي بن ابي طالب رضي الله عنه فدلت الاية على ان نفس علي هي نفس محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن ان يكون المراد ان هذه النفس هي عين تلك النفس، فالمراد ان هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي المساواة في جميع الوجوه، تركنا العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل لقيام الدلائل على ان محمدا عليه الصلاة والسلام كان افضل من علي رضي الله عنه فبقى فيما وراءه معمولا به، ثم دل الاجماع على ان محمدا عليه السلام كان افضل من سائر الانبياء عليهم السلام فيلزم ان يكون علي افضل من سائر الانبياء فهذا الاستدلال من ظواهر هذه الاية.
ثم قال: ويؤيد الاستدلال بهذه الاية الحديث المقبول عند الموافق والمخالف وهو قوله عليه السلام: من اراد ان يرى آدم في علمه ونوحا في طاعته وابراهيم في خلته وموسى في هيبته وعيسى في صفوته فلينظر الى علي بن ابي طالب رضي الله عنه " فالحديث دل على انه اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم وذلك يدل على ان عليا رضي الله عنه افضل من جميع الانبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم " قال الرازي: " واما سائر الشيعة وقد كانوا قديما وحديثا يستدلون بهذه الاية على ان عليا افضل من سائر الصحابة لان الاية دلت على ان نفس علي رضي الله عنه مثل نفس محمد عليه السلام الا فيما خصه الدليل وكانت نفس محمد صلى الله عليه وسلم افضل من الصحابة رضوان الله عليهم فوجب ان تكون نفس علي افضل من سائر الصحابة.
هذا تقرير كلام الشيعة. والجواب انه كما انعقد الاجماع بين المسلمين على ان محمدا عليه السلام افضل من علي فكذلك انعقد الاجماع بينهم قبل ظهور هذا الانسان - محمود بن حسن الحمصي - على ان النبي افضل ممن ليس بنبي واجمعوا ان عليا ما كان نبيا فلزم القطع بان ظاهر الاية كما انه مخصوص في حق محمد صلى الله عليه وسلم فكذلك مخصوص في حق سائر الانبياء عليهم السلام " انتهى كلام الرازي. والقارئ يلاحظ معنا انه لم يناقش في دلالة الاية على افضلية علي عليه السلام على سائر الصحابة ويلاحظ ايضا انه لم يناقش في اتفاق المسلمين على صحة الخبر الدال على ما تفرق من الصفات في الانبياء قد اجتمعت جميعا في شخص علي عليه السلام وهذا يتضح من جوابه على دعوى ابن الحسن الحمصي ان عليا افضل من سائر الانبياء سوى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذلم لم يرد على الشيعة ما استفادوه من دلالة الاية الكريمة على افضلية علي عليه السلام وكل ما في الامر انه ناقش ابن الحسن الحمصي فيما ادعاه من الاجماع باجماع ادعاه هو نفسه وفرضه على المسلمين فرضا.
ولمحمود الحمصي ان يقول ان اجماعا يخرج منه النخبة الممتازة من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويخرج منه الهاشميون جميعا ويخرج منه الشيعة جميعا ليس باجماع على كل تفسير يفسر به الفخر الرازي الاجماع ولا يقام لهذا الاجماع وزن بين الاجماعات التي يدعيها المسلمون. وغير جائز في حكم العقل ان يكون اجماع ونصف المسلمين على التقريب يقولون بافضلية علي عليه السلام على سائر الانبياء.
ثم يعود محمود بن الحسن الحمصي فيقول: ان المسلمين والنخبة الممتازة من صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجمعوا قبل ان يخلق الله هذا الانسان - اعني الفخر الرازي - ومن على رأية. على ان عليا افضل من خلق الله باستثناء محمد رسول الله. ويبدوا لنا ان هذا صحيح من وجهة الامر الواقع وان هذا الاجماع هو الاجماع الصحيح المعتبر الذي يصح ان يحتج به المسلمون إذا رجعنا الى شروط حجية الاجماع وامكان تحققه ووقوعه.
لقد رأينا من قبل ان الروايات متفقة على ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اختار معه للمباهلة عليا وفاطمة وحسنا وحسينا عليهم السلام واجمع اهل القبلة كافة على انه صلى الله عليه وآله خرج بهؤلاء ولم يخرج معه غيرهم، وواضح من هذا الاجماع ومن الروايات ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يدع مجالا لاي احتمال، فقد فسر لفظة الانفس والنساء. وايضا لم يترك مجالا للشك أو التشكيك في صحة استعمال اللفظ أو صحة اطلاقه، فقد خرج واخرجهم معه على ان الحسنين مصداق الابناء وفاطمة مصداق النساء، وعلي مصداق الانفس، وحيث يفسر النبي العربي فلا متسع للقول، ويكفي ان يكون ذلك برهانا على صحة الاستعمال.
ولكن بعض الصحفيين نسب الى بعض المفسرين ان حمل كلمة " نساءنا " على فاطمة فقط وكلمة " انفسنا " على علي فقط لا تتصل باللغة وانما تستفى من مصدر شيعي وان هذه الروايات الكثيرة المتفق عليها مصدرها شيعي ايضا ! وان مقصد الشيعة منها معروف ! وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا، وقد نجحوا في ذلك الى حد بعيد ! فانهم استطاعوا ان يؤثروا على كثير من اهل السنة. وعلل ذلك بان كلمة " نساءنا " لا يقولها العربي ويريد بها بنته لاسيما إذا كان له ازواج وابعد من ذلك ان يراد من كلمة " انفسنا " علي فقط.
ولعلك ترى معنا ان مصدر هذا القول فكرة واحدة متأصلة في النفوس، تلك هي الكراهية لعلي عليه السلام، لا لجرم له الا انه علي بن أبي طالب زوج الزهراء البتول. والا فقد فسر رسول الله لفظ " الانفس " بعلي ولفظ " النساء " بفاطمة وإذا كان هذا لا يصح فعمن نأخذ التفسير والى من ترجع في تصحيح الاستعمال يا مسلمون ؟ ؟ ! وبعد - فليست هذه النوازع بالشئ الجديد في تاريخ امير المؤمنين عليه السلام وانما الجديد فيها ان تقع في العصر الحاضر الذي تفتحت فيه جوانب النفوس وان يتخذ الباحثون اليوم من تلك النوازع شيئا وهو اقرب الى الثورة العصبية التي كانت تسيطر على عقول رجال الدين، وعلى الاقلام في الازمنة الغابرة.
ومن الغريب جدا ان الزمن لم يغير من نفوس هؤلاء شيئا والعلم لم يخفف من هذه الفكرة المغلوطة مع العلم بان النفوس اليوم السبت لفهم الحقائق أكثر من قبل وبدأت العيون تنفتح على الحقائق التي غابت عنها طويلا وان عليها من اصداء واخذت اليوم تتجلى وتتضح، ومع العلم ايضا بان مبضع التشريح اصبح حادا يستطيع ان يضع كل شخص وكل حقيقة تاريخية على المنضدة. وفي الازمنة الغابرة كان الناس يميلون الى هذه النوازع ويصدقونها من غير بحث عن حقيقتها بيد ان ههذا الزمن اصبح ينكر كل هذه الظواهر المنبعثة عن النوازع النفسية أو تقليد اولئك العصبيين، فلا الحقائق الدينية ولا الحقائق العلمية هي حقائق ما لم تعرض على الميزان وتوضع على المنضدة.
والعجيب كيف فقد هؤلاء المقاييس المنطقية والتوازن العقلي فضلوا الصواب حينما نسبوا الجهل الى كبار علمائهم ومفسريهم وكبار محدثيهم ومؤرخيهم واين القواعد والشروط التي تأسست لحفظ الحديث وتدوينه وتصحيحه ؟ ! واين موازين الجرح والتعديل التي كانت تزن الرجال فتخرج من تخرج وتعدل من تعدل ؟ ! وكأنها بنظر هؤلاء كلها جفاء لا ترتكز على شئ واعجب من ذلك تضليل كبار محدثيهم وكبار علمائهم وطعنهم بالضعف العلمي الذي يرميهم به وينسبه إليهم ذلك المفسر - أو ذلك الصحفي بعبارة اصح - الى حد تمكن الشيعة بصحة ما يصح عندهم، كانه لا يعلم بانه في كل ذلك يعترف والى الاعتراف وتفسخ ميزان الجرح والعديل عندهم ولربما كان هذا فرضا صادقا أو راجحا أو على الاقل مما يوجب الشك في تصحيح ماصح عندهم من الاخبار. غريب جدا ان تمر آية المباهلة على اجيال من الناس وعلى طبقات من المؤرخين والمحدثين والمفسرين ثم تمر على موازين الجرح والتعديل وفي كل هذه الادوار يلعب بعقول اولئك العلماء وبعلمهم وبموازين المحدثين وفيهم اصحاب الصحاح - فانهم جميعا رووا اخبار المباهلة - ثم لا يرشدهم علمهم ولا تهديهم موازينهم (3) وانا لا ادري اي منطق هذا، وكيف يتقبله علماء اهل السنة ويغضي عليهم الازهر الشريف ؟ ! أليس فيهم من يأسوا على السلف ويثأرهم ؟ ! وأيضا لا ادري الهدف الذي يرمي إليه المفكرون والمصلحون من وراء هذه الطعون القاتلة ؟ وما الذي يمنونه باخراجها على هذا الشكل من الطعن في الصميم ؟ ألم يكن لهم حاجز من ورع، وحريجة من دين عن الطعن في علم السلف، سلفهم الصالح ؟ ! حتى نزلوا باقدارهم العلمية الى احط منزلة يسعهم ان ينزلوا بهم إليها، فنسبوا لهم الضعف بالتفكير ونسبا لهم عدم التمييز بين الموضوع وغير الموضوع، والصحيح وغير الصحيح، ونسبوا لهم عدم النضوج العلمي الكافي لتمييز الصحيح من الموضوع كل ذلك بكلمة واحدة - ما اهونها عليهم - وهي " انهم - يعني الشيعة - استطاعوا ان يؤثروا على كثير من اهل السنة " وسهل عليهم هذا المنطق المخذول الذي حط من قدرهم العلمي وحط من قدر صحاحهم التي افنوا اعمارهم في جمعها ويكفي في اختلالها والحط من قدرها وعدم الوثوق بها ان اصحابها لا يملكون الميزان الصحيح حيث استطاع الشيعة ان يؤثروا عليهم وتأثر هؤلاء وهم غافلون أو وهم جاهلون ! وواضح بعد هذا ان لا يبقى وثوق باي كتاب واي حديث واي محدث واي جرح وأي تعديل، ولا اراه ينفع ذلك الصحفي اخراج بعض الصحاح، على إنا لا نراه يتمكن من ذلك بحكم الضرورة، وليس من موضوعنا ان ندخل في هذا البحث لان الكلام فيه طويل وعريض وهذا فيما اراه هو الخطأ احط من هذا الاسفاف، وحتى الان لم نعلم السبب الذي حمله على ان يسف وعلى ان يقع في هذا الخطأ. وعجيب ان ينسب الغفلة لكثير من سلفه وهل لانهم رووا اخبار قصة المباهلة كما وقعت ؟ ! أو لانهم حملو كلمة " نساءنا " على فاطمة عليها السلام وكلمة " انفسنا " على علي عليه السلام وهذا لا يصح يعرف اللغة كما يزعم ؟ !
وقد يكون من الواضح انه يشير الى الثاني من القولين لينجو من الطعن في مسانيد الحديث حتى الصحاح منها. ويكاد يبدو ذلك غريبا لان هذا الرأي في حاجة الى تمحيص قبل اثارته لان الواقع بين فرضين اثنين لا مفر من احدهما: فاما ان يفرض ان الشيعة هم الذين فسروا كلمة " نساءنا " وحملوها على فاطمة وكلمة " انفسنا " على علي عليه السلام. واما ان يفرض ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي فسر هذا التفسير، والذي لا يرتاب فيه احد انه لا سبيل الى الاول فطعا، وانما التفسير كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد رأينا من قبل ان المسلمين كافة بما فيهم الخوارج اجمعوا على انه لم يخرج مع النبي للمباهلة سوى علي عليه السلام من الانفس وسوى فاطمة عليها السلام من النساء وسوى الحسن والحسين من الابناء وهذا تفسير عملي على اي اعتبار اراد الناس ان يعتبروا هذا التفسير منه، وغير جائز بحكم العقل وبحكم اللغة العربية ان يكون تفسيره لا يصح بعرف اللغة كما يزعمون.
وهذا صحيح من وجهة العقيدة الاسلامية ومن جهة اللسان لان رسول الله عربي وهو سيد العرب. ثم نعود فنقول لهؤلاء: ان هذا التفسير منه صلى الله عليه وآله وسلم سواء أكان مبعثه العاطفة أم صحة الاستعمال العربي أم تفسير من الله سبحانه فهو لا يتصل باحد من الشيعة ليموه هؤلاء على كثير من علماء السنة ويستجهلونهم.
ونحن لا يسعنا ان ننسب الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم التأثر بالعاطفة بل لا يجوز عليه التأثر بالعاطفة في مثل هذا الموقف بل في كل مقام وهو الذي لم ينس في وقت من الاوقات الدعوة الى المساواة بين افراد المسلمين، تلك المساواة التي اراد الاسلام ان يجمع بها بين كل الشعوب والافراد ويؤلف بينهم جميعا ليكون منهم امة واحدة تسودها المحبة والاخاء.
لقد كان بين اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اهل الشرف والمكانة واللياقة والاحساس واهل البلاء الحسن في بناء الهيكل الاسلامي من لا يصبر على هذا التحيز الذي تجره العاطفة، ان كان ذلك عن عاطفة، بل كان في صحبه من كان يجرأ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواقف لا تصح فيها الجرأة ولا تحمد، أفتراهم يقفون منه موقف الجامد حينما يرونه عاطفيا متحيزا لذوي قرباه في ساحة الشرف الخالد بخلود الاسلام وخلود كتاب الله الذي يرتله المسلمون في اناء الليل واطراف النهار ؟ ؟ مع انهم فهموا ان الدعوة كانت عامة لانفس المسلمين ولنسائهم ولابنائهم ثم لا يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه منهم سوى ابنته وابن عمه وولديهما عليهم السلام !.
وليس عندي - بل في واقع الامر - اضعف من هذا الاحتمال على اي تفسير ارادوا ان يفسروا خلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعظمته وسمو مقامه ومركزه الاجتماعي كنبي مرسل لهداية البشر وسعادتهم ورفع التنابز من، بينهم، ومن عرف اخلاق النبي وتركيب مزاجه يدفع عنه كل احتمال من
هذا القبيل. ولعله ليس لهؤلاء المهوسين اعتراض بجيش في نفوسهم سوى اعتراض واحد: هو انه لماذا لم يخرج معه احدا من اصحابه والفضليات من نسائه ؟.. هذا هو الاعتراض الواضح الصريح الذي يختلج في نفوس كثيرة ! ! ولكن ابن عساكر اراد ان يشبع تلك النفوس فاخرج رواية نسبها الى جعفر بن محمد الباقر عليه السلام عن ابيه " انه لما نزلت آية قل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم " الاية جاء بابي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده " !. اخرجها بهذا الترقيم الرباعي المألوف في كل الحوادث.
ولكن ليس في ذلك عرض صحيح متزن حري بان يعقل الالسن ويكم الافواه، وان حسب المهوسون ذلك عرضا صحيحا. فقد غاب عنهم رشدهم إذ لم يفقهوا ان هذا منازلة منه صلى الله عليه وآله وسلم لذوي المكانة السامية من كبار صحبه واهل الجهاد والبلاء في سبيل الله. ومنازلة منه لعمه العباس شيخ الهاشميين. ومنازلة منه لعمته صفية بنت عبد المطلب وأم هاني بنت عمه ابن طالب وهما من صفوة الهاشميات. على ان هؤلاء ليسوا باجل اصحابه وفيهم عمه العباس وسلمان وابو ذر وعمار والمقداد وامثالهم كسعد سيد الخزرج وحذيفة وابو عبيدة وغيرهم كثير.
وعلى انه يلوح لنا ان الترقيم الثلاثي بهذا الشكل لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانما وضعته السياسة في عهد الامويين والترقيم الرباعي وضعته السياسة في عصر العباسيين ومن يلاحظ الاخبار التي ترقم الترقيم الثلاثي والتي ترقم الترقيم الرباعي ويلاحظ مواردها يعلم ان منطق السياسة هو الذي قضى قضاء لامعدى عنه بهذا الترقيم حسب ترتيب الخلافة !.. ولعل سائلا يسأل كيف لم يتخلف هذا الترتيب الثلاثي في حادثة من الحوادث التي اقتضت ان يتوارد الصحاب فيها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟. سواء أكان ذلك بدعوة أم كانت على سبيل الصدفة، وكيف لم يتفق ان سبق عثمان صاحبيه أو سبقهما عمر ؟ ! ولكن ليس على السائل المنصف الا ان يتأمل الحوادث التي ورد فيها هذا الترقيم ليعلم انه ترقيم مصطنع في عصرين متضاربين، وكلما القى ببصره على الحوادث المفاجئة وغير المفاجئة لا يلبث ان تطالعه الشكوك من جميع جهاته.
وكانت السياسة قد اباحت لمصطنعيها في سبيل تحقيق غاياتها ان ينتهجوا من الوسائل ما يكفل لرجال السلطة سلطتهم الارستقراطية ومثل هذا كثير في كثير من الحوادث السياسية والدينية سواء في الصدر الاول أم في العصر الاموي أم في العصر العباسي وليس هذا الترقيم بهذا الترتيب لازما طبيعيا فلا ينفك، ولا هو تكوين ذاتي فلا يتخلف، على ان العادة قد تحيله على هذا الاطراد المصطنع مرتبا على ترتيب الخلافة وانما رقمته السياسة ثم فرضته على رواة الحديث والوقائع ووجد هؤلاء من انفسهم دوافعا وبواعث دفعتهم لاعتناق هذه السياسة فرقموا هذا الترقيم واعانها على ذلك ميل في النفوس !... وإنا نستطيع ان نفهم ان هذا الترتيب مصطنع ولم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانه حدث متأخرا من حوادث كثيرة لا نريد سردها، ولكن مثلا واحدا نضعه بين ايدى المنصفين من قرائنا ليحللوه ثم لهم الحكم بعد ذلك.
حدثونا عن عمر انه قال - ودماؤه تنزف - لو كان أبو عبيده حيا لاستخلفته وقال لو كان سالم مولى ابي عبيدة حيا لاستخلفته ! ! وهذا يدلنا على ان عثمان كان في مرتبة متأخرة ولو ان الترتيب والترقيم كان على اساس الفضيلة في عهد النبي لما صح من ابي حفص ان يستخلف ابا عبيده أو سالم مولاه. وبعد - فواضح ان معدن الترقيم سياسي ومن الميسور للباحث ان يلتمس العلل التي كانت تبعث على الاصطناع، ويسير عليه إذا رجع الى العصر الاموي والى احوال الصحابة الذين اصطنعهم الامويون.
ولم يأت الوقت لدرس هذه الناحية. على ان الرواية لو صحت نسبتها الى الامام جعفر الصادق عليه السلام لاخرجها شيعته وهم الذين لاتأخذهم في الحق لومة لائم كيف والرواية منسوبة الى امامهم الذي ينتسبون إليه.. وبقى شئ واحد لابد ان نلفتك إليه هو ان كلمة " نساءنا " لا يقولها العربي ويريد بنته لاسيما إذا كان له ازواج. دعوى كبيرة جازف فيها بنفسه لانها تحتاج الى تتبع عام واستقصاء شامل تام. على ان سيد العرب استعمل كلمة " نساءنا " في ابنته فقط مع ان في بيته تسع نسوة وفسر كلمة " انفسنا " بعلي فقط مع ان حوله الالوف من اصحابه وبعد هذا لا تكون الدعوى الاهراء من نوازع الشيطان التي تحاك في الصدور.
وشئ واحد نريد ان نشير إليه هنا وهو ما ذكره سماحة البحاثة حجة الاسلام الامام السيد عبد الحسين شرف الدين في كلمته الغراء قال ما نصه بالحرف: " وانت تعلم ان مباهلته صلى الله عليه وآله وسلم بهم. والتماسه منهم التأمين على دعائه بمجرده فضل عظيم - وانتخابه اياهم لهذه المهمة العظيمة. واختصاصهم بهذا الشأن الكبير وايثارهم فيه على من سواهم من اهل السوابق فضل على فضل لم يسبقهم إليه سابق.
ولن يلحقهم فيه لاحق - ونزول القرآن العزيز آمرا بالمباهلة بهم بالخصوص فضل ثالث يزيد فضل المباهلة ظهورا ويضيف الى شرف اختصاصهم بها شرفا والى نوره نورا " وهناك نكتة يعرف كنهها علماء البلاغة، ويقدر قدرها الراسخون في العلم، العارفون باسرار القرآن. وهي ان الاية الكريمة ظاهرة في عموم الابناء والنساء والانفس كما يشهد به علماء البيان. ولا يجهله احد ممن عرف ان الجمع المضاف حقيقة في الاستغراق. وانما اطلقت هذه العمومات عليهم بالخصوص تبيانا لكونهم ممثلي الاسلام، واعلانا لكونهم اكمل الانام واذانا بكونهم صفوة العالم، وبرهانا على انهم خيرة الخيرة من بني آدم، وتنبها الى ان فيهم من الروحانية الاسلامية والاخلاص لله في العبودية ما ليس في جميع البرية.
وان دعوتهم الى المباهلة بحكم دعوى الجميع، وحضورهم خاصة فيها منزل منزلة حضور الامة عامة وتأمينهم عليهم بالخصوص - ومن غاص على اسرار الكتاب الحكيم، وتدبره ووقف على اغراضه يعلم ان اطلاق هذه العمومات عليهم بالخصوص انما هو على حد قول القائل: ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد ولذا قال الزمخشري في تفسير الاية من كشافه: وفيه دليل لا شئ اقوى منه على فضل اصحاب الكساء " وقال: " بقيت نكتة يجب التنبيه لها وحاصلها ان اختصاص الزهراء من النساء والمرتضى من الانفس. مع عدم الاكتفاء باحد السبطين من الابناء دليل على ما ذكرناه من تفضيلهم عليهم السلام لان عليا وفاطمة لما لم يكن لهما نظير في الانفس والنساء وكان وجودهما مغنيا عن وجود من سواهما بخلاف كل من السبطين، فان وجود احدهما لا يغني عن وجود الاخر لتكافئهما. ولذا دعاهما (صلی الله عليه وآله وسلم)جميعا. ولو دعا احدهما دون ضوء كان ترجيحا بلا مرجح وهذا ينافي العدل والحكمة.
مؤتمر نجران قال جمال العارفين وفخر المحققين الثبت الورع والمتتبع المحقق السيد على ابن طاووس في كتاب الاقبال من اعمال شهر ذي الحجة " فصل فيما نذكر من انفاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرسله الى نصارى نجران ومناظرتهم فيما بينهم وظهور تصديقه فيما دعاه.
روينا ذلك بالاسانيد الصحيحة، والروايات الصريحة الى ابي الفضل محمد بن عبد المطلب الشيباني رحمه الله من كتاب المباهلة ومن اصل كتاب الحسن ابن اسماعيل بن اشناس من كتاب عمل ذي الحجة فما رويناه بالطرق الواضحة، عن ذوي الهمم الصالحة، لا حاجة الى ذكر اسمائهم لان المقصود ذكر كلامهم. قالوا: لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة وانقادت له العرب وارسل رسله ودعاته الى الامم وكاتب الملكين كسرى وقيصر يدعوهما الى الاسلام أو الاقرار بالجزية والصغار وإلا اذانا بالحرب العوان، اكبر شأنه نصارى نجران وخلطاؤهم من بني عبد المدان، وجميع بني الحرث بن كعب ومن ضوى إليهم (يقال ضويت إذا اويت إليه وانضمت) ونزل بهم من دهماء الناس (دهماء الناس عامتهم وجماعتهم) على اختلافهم في دين النصرانية.
وامتلات قلوبهم - على تفاوت منازلهم - رهبة منه ورعبا، فانهم كذلك من شأنهم إذ وردت عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وكان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)لا يقاتل قوما حتى يدعوهم فازداد القوم لورود رسل نبي الله (صلی الله عليه وآله وسلم)وكتابه نفورا وامتزاجا (واهتياجا) ففرعوا لذلك الى بيعتهم العظمى، وامروا ففرش ارضها والبس جدرها بالحرير والديباج، ورفعوا الصليب العظيم وكان من ذهب مرصع انفذه إليهم قيصر الاكبر وحضر ذلك (المجلس) بنو الحرث بن كعب وكانوا ليوث الحرب، فاجتمع القوم جميعا للمشورة والنظر في امورهم، واسرعت إليهم القبائل من مذحج وعك وحمير وانمار ومن دنا منهم نسبا ودارا من قبائل سبأ وكلهم قد ورم انفه غضبا منن قومهم (لقومه) ونكص من تكلم بالاسلام ارتدادا فحاضروا (فخاضوا) وافاضوا في ركز المسير بنفسهم وجمعهم الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والنزول به بيثرب لمناجزته، فلما رأى أبو حامد (حارثة) حصين بن علقمه اسقفهم الاول، وصاحب مدارسهم وعلامهم - وكان رجلا من بني بكر بن وائل - ما ازمع القوم عليه من اطلاق الحرب، دعا بعصابة فرفع بها حاجبيه عن عينيه وقد بلغ يومئذ عشرين ومائة سنة ثم قام خطيبا معتمدا على عصى، وكانت فيه بقية وله رأي وروية، وكان موحدا يؤمن بالمسيح وبالنبي عليه السلام ويكتم (ايمانه) ذلك من كفرة قومه واصحابه .
المصادر :
1- اسباب النزول للواحدي ص 75
2- وفي دلائل النبوة ج 2 ص 124
3- لا ترمي بالحكم على اهل الصحاح بانهم رووا تفصيل آية المباهلة ولكنهم اتفقوا على انه لما نزلت دعا رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)عليا وفاطمة وحسنا وحسينا. روى ذلك مسلم في صحيحه والحاكم على شرط الشيخين وصححه الذهبي على شرط البخاري ومسلم والحميدي في الجمع بين الصحيحين والثعلبي في تفسيره وابن المغازي وابو نعيم في حليته والحمويني في فوائده وابن اسحاق في مغازيه وابن الصباغ المالكي في فصله والطبري في تفسيره والواحدي في اسباب النزول والزمخشري في كشافه والفخر الرازي في تفسيره وغيرهم ممن ذكرنا في مطاوي هذه الفصول التي مرت عليك وغيره ممن لم نذكر وبعبارة اوضح قيام الاجماع من المسلمين كافة على ان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)لم يدع للمباهلة غيرهم.
source : rasekhoon