التعدد يستلزم التركيب
لو كان هناك واجب وجود آخر لتشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود ، فلابدّ من تميّز أحدهما عن الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك ، كما هو الحال في كل مِثْلين . وذلك يستلزم تركب كل منهما من شيئين : أحدهما يرجع إلى ما به الاشتراك ، والآخر إلى ما به الامتياز . والمركب بما أنّه محتاج إلى أجزائه لا يكون
متصفاً بوجوب الوجود ، بل يكون ـ لأجل الحاجة ـ ممكناً ، وهو خلاف الفرض.
وباختصار : لو كان في الوجود واجبان ، للزم إمكانهما ؛ وذلك أنّهما يشتركان في وجوب الوجود ، فإن لم يتميزا لم تحصل الإثنينية ، وإن تميّزا لزم تركب كل واحد منهما ممّا به المشاركة و ما به الممايزة ، وكل مركب ممكن ، فيكونان ممكنين ، وهذا خلاف الفرض.
________________________________________
2ـ الوجود اللامتناهي لا يقبل التعدد هذا البرهان مؤلف من صغرى و كبرى ، والنتيجة هي وحدة الواجب وعدم إمكان تعدده . وإليك صورة القياس حتى نبرهن على كل من صغراه وكبراه. وجود الواجب غير متناه.
وكل غير متناه واحد لا يقبل التعدد.
فالنتيجة : وجود الواجب واحدٌ لا يقبل التعدد.
وإليك البرهنة على كل من المقدمتين.
أمّا الصغرى: فإنَّ محدودية الموجود ملازمة لتَلَبُّسه بالعدم . ولأجل تقريب هذا المعنى ، لاحظ الكتاب الموضوع بحجم خاص ، فإنك إذا نظرت إلى أي طرف من أطرافه ترى أنّه ينتهي إليه وينعدم بعده . ولا فرق في ذلك بين صغير الموجودات وكبيرها ، حتى أنَّ جبال الهملايا مع عظمتها ، محدودة لا نرى أي أثر للجبل بعد حده . وهذه خصيصة كل موجود متناه زماناً أو مكاناً او غير ذلك .
فالمحدودية والتلبس بالعدم متلازمان.
وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبار ذاته سبحانه محدودة ؛ لأنّ لازم المحدودية الانعدام بعد الحد كما عرفت ، وما هو كذلك لايكون حقاً مطلقاً مائة بالمائة ، بل يلابسه الباطل والانعدام . مع أنَّ الله تعالى هو الحق المطلق الذي لا يدخله باطل . والقرآن الكريم يصف وجوده سبحانه بالحق المطلق ، وغيره بالباطل ،
وما هذا إلا لأَنّ وجود غيره وجود متلبس بالعدم والفناء ، وأمّا وجود الله تعالى فطارد لكل عدم وبطلان . قال عَزّ مِنْ قائل :{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }(1).
وبتقرير آخر : إنَّ عوامل المحدودية تتمحور في الأمور التالية:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحج: الآية 62.
________________________________________
1ـ كونُ الشيء محدوداً بالماهية ومزدوجاً بها ؛ فإنّها حد وجود الشيء .
والوجود المطلق بلا ماهية غير محدَّد ولا مقيد ، وإنّما يتحدد بالماهية.
2ـ كون الشيء واقعاً في إطار الزمان ، فهذا الكم المتصل (الزمان) يحدد وجود الشيء في زمان دون آخر.
3ـ كون الشيء في حيز المكان ، وهو أيضاً يحدد وجود الشيء ويخصه بمكان دون آخر.
وغير ذلك من أسباب التحديد والتضييق . والله سبحانه وجود مطلق غير محدد بالماهية إذ لا ماهية له ، كما سيوافيك البحث عنه . كما لا يحويه زمان ولا مكان . فتكون عوامل التناهي معدومة فيه ، فلا يتصور لوجوده حد ولا قيد ، ولا يصح أن يوصف بكونه موجوداً في زمان دون آخر ، أو مكان دون آخر . بل وجوده أعلى وأنْبَل من أن يتحدّد بشيء من عوامل التناهي.
وأمّا الكبرى : فهي واضحة بأدنى تأمل ؛ وذلك لأنّ فرض تعدد اللامتناهي يستلزم أن نعتبر كل واحد منهما متناهياً من بعض الجهات حتى يصح لنا أن نقول هذا غير ذاك . ولا يقال هذا إلاّ إذا كان كل واحد متميزاً عن الآخر ، والتَّمُيّز يستلزم أن لا يوجد الأوّل حيث يوجد الثاني ، وكذا العكس . وهذه هي « المحدودية » ، وعين « التناهي » ، والمفروض أنّه سبحانه غير محدود ولا متناه.
والله سبحانه لأجل كونه موجوداً غير محدود ، يصف نفسه في الذكر الحكيم بـ{ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}(1) . وما ذلك إلا لأَنّ المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه ، فإِذا كان قاهراً من كل الجهات لم تتحكم فيه الحدود ، فكأن اللامحدودية تلازم وصف القاهرية ، وقد عرفت أنَّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الرعد: الآية 16.
________________________________________
ما لا حدّ له يكون واحداً لا يقبل التعدد . فقوله سبحانه ، وهو الواحد القهار ، من قبيل ذكر الشيء مع البينة والبرهان.
قال العلامة (الطباطبائي) : « القرآن ينفي في تعاليمه الوحدة العددية عن الإِله جلَّ ذكره ؛ فإِنّ هذه الوحدة لا تتم إلاّ بتميّز هذا الواحد ، من ذلك الواحد ، بالمحدودية التي تقهره . مثال ذلك ماء الحوض إذا فرّغناه في أوان كثيرة يصير ماءُ كلّ إناء ماءً واحداً غير الماء الواحد الذي في الإِناء الآخر ، وإِنّما صار ماءً واحداً يتميّز عمّا في الآخر لكون ما في الآخر مسلوباً عنه ، غير مجتمع معه ، وكذلك هذا الإنسان إنّما صار إنساناً واحداً ؛ لأنّه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر ، وهذا إنْ دلّ فإنّما يدل على أنَّ الوحدة العددية إنّما تتحقق
بالمقهورية والمسلوبية أي قاهرية الحدود ، فإذا كان سبحانه قاهراً غير مقهور ، وغالباً لا يغلبه شيء لم تتصور في حقه وحدة عددية ، ولأجل ذلك نرى أنَّهُ سبحانه عندما يصف نفسه بالواحدية يتبعها بصفة القاهرية حتى تكون الثانية
دليلاً على الأُولى ـ قال سبحانه:
{ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}(1) ، وقال: { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}(2) ، وقال: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}(3).
وباختصار: إنَّ كلاً من الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع ، أو الوحدة النوعية كالإنسان الذي هو نوع واحد في مقابل الأنواع الكثيرة ، مقهور بالحد الذي يميز الفرد عن الآخر والنوع عن مثله ، فإذا كان تعالى لا
يقهره شيء ، وهو القاهر فوق كل شيء فليس بمحدود في شيء ، فهو موجود لا يشوبه عدم ، وحق لا يعرضه بطلان ، وحي لا يخالطه موت ، وعليم لا يدبّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة يوسف: الآية 39.
(2) سورة ص: الآية 65.
(3) سورة الزمر: الآية 4.
________________________________________
إليه جهل ، وقادر لا يغلبه عجز ، وعزيز لا يتطرق إليه ظلم ، فله تعالى من كل كمال محضه» (1).
ومن عجيب البيان ما نقل عن الإِمام الثامن (علي بن موسى الرضا) ـ عليه السَّلام ـ في هذا المجال في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء ، وقال في ضمن تحميده سبحانه:
« لَيْسَ لَهُ حَدٌّ ينتهي إلى حَدِّه ، ولا له مِثْلٌ فيُعرَف مثله » (2).
ترى إِنَّ الإِمام ـ عليه السَّلام ـ بعدما نفى الحد عن الله ، أتى بنفي المِثْل له سبحانه ، لارتباط وملازمة بين اللامحدودية ونفي المثيل ، والتقرير ما قد عرفتَ.
3ـ صِرف الوجود لا يتثنى ولا يتكرر
إِنَّ هذا البرهان مركب من صغرى وكبرى على الشكل التالي:
الله سبحانه وجود صِرْف.
وكل وجود صرف واحد لا يتثنّى ولا يتكرّر.
فالنتيجة : الله سبحانه واحدٌ لا يتثنِّى ولا يتكرَّر.
أمّا الصغرى فإليك بيانها :
أثبتت البراهين الفلسفية أنَّهُ سبحانه منزَّه عن الماهية التي تحد وجوده . وتحليله يحتاج إلى بيان دور الماهية في وجود الشيء فنقول: كل ما يقع في أُفق النظر من الموجودات الإمكانية ، فهو مؤلف من وجود هو رمز عينيته
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الميزان : ج 6، ص 88 ـ 89 بتلخيص.
(2) توحيد الصدوق : ص 33.
________________________________________
في الخارج ، وماهية تحد الوجود ، وتبين مرتبته في عالم الشهود والخارج .
مثلاً : الزَّهرة الماثلة أمام أعيننا ، لها وجود به تتمثل أمام نظرنا ، ولها ماهية تحددها بحد النباتية ، وتميزها عن الجماد والحيوان . ولأجل ذلك الحد نحكم عليها أنّها قد ارتقت من عالم الجماد ولم تصل بعد إلى عالم
الحيوان . وبذلك تعرف أنّ واقعية الماهية هي واقعية التحديد . هذا من جانب.
ومن جانب آخر ، الماهية إذا لوحظت من حيث هي هي ، فهي غير الوجود كما هي غير العدم . بشهادة أنّها توصف بالأوّل تارة ، وبالثاني أُخرى ، ويقال: النبات موجود ، كما يقال : غير موجود . وهذا يوضح أنّ مقام الحد والماهية مقام التخلية عن الوجود والعدم ، بمعنى أنّ الإنسان عند النظر إلى ذات الشيء يراه عارياً عن كل من الوجود والعدم . ثمّ يصفه في الدرجة الثانية بأحدهما . وأمّا وجه كون الشيء في مقام الذات غير موجود ولا معدوم ؛ فلأجل أنّه لو كان في مقام الذات والماهية موجوداً ـ سواء أكان الوجود جُزْءَه
أو عَيْنه ـ يكون الوجود نابعاً من ذاته ، وما هذا شأنه يكون واجب الوجود ، يمتنع عروض العدم عليه ، كما أنّه لو كان في ذلك المقام معدوماً ـ سواء أكان العدم جزءه أو عينه ـ يكون العدم نفس ذاته ، وما هذا شأنه يمتنع عليه عروض الوجود . فلأجل تصحيح عروض كل من الوجود والعدم لا مناص عن كون الشيء في مقام الذات خالياً عن كلا الأمرين حتى يصح كونه معروضاً لأحدهما . وإلى هذا يهدف قول الفلاسفة: « الماهية من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة» . ومع هذا كلِّه فهي في الخارج لا تخلو إمّا أنْ
تكون موجودة أو معدومة . فالنبات والحيوان والإنسان في خارج الذهن لا تفارق أحد الوصفين . وبهذا تبين أنَّ اتصاف الماهية بأحد الأَمرين يتوقف على علة ، لكن اتصافها بالوجود يتوقف على علة موجودة ، ويكفي في اتصافها بالعدم ، عدم العلة الموجودة . فاتصاف الماهيات بالأَعدام الأزلية ________________________________________
خفيف المؤونة ، بخلاف اتصافها بالوجود فإنّه رهن وجود علة حقيقية خارجية.
وعلى ضوء هذا البيان يتضح أنّه سبحانه منزَّهٌ عن التحديد والماهية ، وإلاّ لزم أنْ يحتاج في اتصاف ماهيته بالوجود إلى علة(1). و ما هذا شأنه لا يكون واجباً بل يكون ممكناً . وهذا يجرّنا إلى القول بأنَّه سبحانه صرف الوجود المنزه عن كل حد.
وأماّ الكبرى فإليك بيانها:
إن كل حقيقة من الحقائق إذا تجردت عن أي خليط ، وصارت صِرفَ الشيء لا يمكن أن تتثنّى وتتعدد ، من غير فرق بين أن تكون صِرفَ الوجود ، أو تكون وجوداً مقروناً بالماهية كالماء والتراب وغيرهما . فإنَّ كل واحد منها إذا لوحظ بما هو هو عارياً عن كل شيء سواه لا يتكرر ولا يتعد . فالماء بما هو ماء ، لا يتصور له التعدد إلاّ إذا تعدد ظرفه أو زمانه أو غير ذلك من عوامل التعدد والتميز.
فالماء الصرف والبياض الصرف والسواد الصرف ، و كل شيء صرف ، في هذا الأمر سواسية . فالتعدد وإلاثنَيْنِيّة رهن اختلاط الشيء مع غيره.
وعلى هذا ، فإذا كان سبحانه ـ بحكم أنّه لا ماهية له ـ وجوداً صِرفاً ، لا يتطرق إليه التعدد ؛ لأنّه فرع التميز ، والتميز فرع وجود غَيْرِيّة فيه ، والمفروض خُلُوّه عن كل مغاير سواه ، فالوجود المطلق والتحقق بلا لون ولا تحديد ، والعاري عن كل خصوصية ومغايرة ، كلما فرضْتَ له ثانياً يكون
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهنا يبحث عن العلة ماهي؟ أهي نفس الوجود العارض على الماهية أو وجود آخر . فإن كان
الأوّل لزم الدور ، وإن كان الثاني لزم التسلسل . والتفصيل يؤخذ من محله . لاحظ الأسفار : ج 1،
فصل في أنّه سبحانه صِرْف الوجود.
________________________________________
نفس الأوّل ، لا شيئاً غيره ، فالله سبحانه ، بحكم الصغرى صِرف الوجود ،
والصِرف لا يتعدد ولا يتثنَّى . فينتج أنَّ الله سبحانه واحدٌ لا يتثنَّى ولا يتعدّد.
source : alhassanain