إنّ المدلّسين والمحرّفين في التاريخ يعتمدون أساليب ثلاثة لتشويه التاريخ ؛ طبقاً لمآربهم ونواياهم الخبيثة .
الاُسلوب الأول : هو طمر الحقيقة حتّى لا يعلم بها أحد . والأمثلة على مثل هكذا اُسلوب كثيرة ؛ فمثلاً عندما أخفى معاوية ما استطاع إخفاءه من فضائل علي (عليه السّلام) على أهل الشام فإنهم حينما سمعوا باستشهاده في المحراب أصابهم الذهول وقالوا : عجباً ! أوَكان عليٌّ يصلّي !
الاُسلوب الثاني : هو تحريف المعنى الحقيقي للحدث أو الرواية , وهذا الاُسلوب أيضاً قد أقدم عليه معاوية ؛ حيث أجزل العطاء لسمرة بن جندب لكي يفسّر الآية الكريمة ((البقرة / 204) بأنّها نزلت في أمير المؤمنين (عليه السّلام) , وكذلك الآية ( (البقرة / 207) بأنها نزلت في عبد الرحمن بن ملجم .
الاُسلوب الثالث : هو لصق أكاذيب سلبيّة بصاحب المواقف الايجابيّة , ولصق مدائح وهميّة بصاحب المواقف السلبيّة . مثلاً قولهم : إنّ علياً (عليه السّلام) ـ والعياذ بالله ـ كان يشرب الخمر , أو إنّه تزوّج من بنت أبي جهل وما إلى ذلك من أكاذيب ما استطاعت أن تصمد أمام نور علي (عليه السّلام) وحقيقته ، بل ادّعوا أنّ عمر بن الخطاب هو الذي بعث لأبي الأسود الدؤلي وعلّمه كيف يكون النحو , وقال له : انح هذا النحو !
وإذا ما حدثت حادثة تاريخيّة كان لصاحبها أعداء أشدّاء , ونجد أنّ هذه الحادثة بقيت ناصعة البياض لم يستطع أحد من خدشها أو النيل منها فهذا يعبّر عن عظم هذه الحادثة وما يترتب عليها من دروس وعبر وأبعاد .
في هذا الشهر الكريم ؛ شهر رجب المرجّب صاحب المناسبات السعيدة والحزينة تطل علينا واحدة من هذه المناسبات السعيدة ؛ وهي ولادة سيّد الوصيّين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) .
أقولها بصراحة : إنني لم أعثر على باب من أبواب المدح أو وجه من وجوه الثناء لم يتطرق لها الله (عزّ وجل) أو رسوله أو أهل بيته أو محبّيه أو مواليه , بل وحتّى بقيّة الطوائف والملل الصديقة والمعادية إلاّ وطرقوها أو استخدموها بحقِّ أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) ، فحرت في أي باب أكتب , وعن أي وجه ثناء استخدم , فما كان منّي إلاّ الالتفات الى امتياز عجز عن طمره أو تحريفه او تنسيب مثله لغيره ألا وهو : كيف ولد علي (عليه السّلام) ؟
لو أردت أخي القارئ أن تعيش حجم الرواية أو الحادثة تخيّل نفسك أنك أحد أبطالها , أو أنك شاهد عليها , أي أنّها جرت أمام عينك ، فستعلم كم هي حجم الأبعاد المترتّبة على هذه الرواية أو تلك .
فلو قرأت أو سمعت عن مقتل الحسين (عليه السّلام) تخيّل أنك في ساحة الطفِّ وقد جرى عليك ما جرى على الحسين (عليه السّلام) , ستعلم حجم المآسي التي مرّ بها الحسين (عليه السّلام) , وحجم الحقد الاُموي في الوقت نفسه .
هذه بعض المصادر غير الشيعيّة تذكر ولادة علي (عليه السّلام) في جوف الكعبة :
أ ـ مروج الذهب 2 / 2
ب ـ تذكرة خواص الأمة / 7
ج ـ الفصول المهمة / 14
د ـ السيرة النبويّة 1 / 150 نور الدين علي الحلبي الشافعي
هـ ـ شرح الشفا 1 / 151
والآن تخيلوا معي أنّ امرأة حامل على وشك الولادة تترك بيتها وتتوجه الى الكعبة وتدعو الله (عزّ وجل) ليسهّل لها ولادتها , ويُسلّم لها جنينها ؛ فينفلق جدار الكعبة . في هذه اللحظة ما هي المشاعر التي يمكن أن نكون عليها لو انشق جدار أمامنا ؟ لا أقل من الذهول والاستغراب , بل وحتّى الهرب والابتعاد .
بينما ماذا فعلت فاطمة بنت أسد (عليها السلام) ؟ دخلت من فتحة الانفلاق باتجاه الكعبة , وبدون تردد مع الخطى الثابتة . إنّ هذا الأمر لا يمكن له أن يتم إلاّ إذا كان هنالك اتصال إيحائي بينها وبين أصحاب الشأن ؛ ابتداءً من الله (عزّ وجل) ومروراً برسوله وحتّى بجنينها , فهذا أمر لا يمكن له أن يكون اعتباطي أو عشوائي ، وإذا ما ثبت هذا الاحتمال فصاحب الشأن والسبب يكون ذا منزلة خاصة عند الله (عزّ وجل) ورسوله الكريم (صلوات الله وسلامه عليه) .
الأمر الآخر , وحسب كلِّ أو أغلب الروايات أنّ بقاء السيدة فاطمة في الكعبة دام ثلاثة أيام , فهل كانت الولادة في يومها الأول أو الثاني أو الثالث ؟ إذاً بقيّة الأيام ماذا كانت تفعل , ومَن كان معها ؟!
البقاء لثلاثة أيام ألغى الاعتبارات الماديّة المتعارف عليها عند البشريّة من مأكل ومشرب وتطهير من الحدث الأصغر , بل حتّى الجلوس والنوم على سرير وما إلى ذلك من أبسط مستلزمات الحياة ، فهذه الاُمور كان لها ترتيب إلهي خصّ فيه اُمّ الأمير عليه وعليها أفضل الصلوات والسّلام .
إنّ عدم القلق عليها والسؤال عنها من قبل رسول الله (ص) وبعلها مؤمن قريش أبي طالب (عليه السّلام) يدل على الاطمئنان لما آلت إليه اُمور فاطمة , وما هي عليها من المنزلة الرفيعة لحمل هذا الحدث العظيم .
بعد الثلاثة إيام انفلق جدار الكعبة ثانيّة وكأنه إيذان لها بأن المأموريّة انتهت , فخرجت ـ وبخطى ثابتة كما دخلت ـ وهي تحمل البشرى لمن يبغي العلا في يوم القيامة . واستقبلها النبي (ص) مع مولودها وكأنه كان على علم بهذا المولد الذي سيكون أول أوصيائه وسيدهم .
المعلوم أنّ البعض دأب على مسح آثار الإسلام حتّى لا يبقى ذكر لمَن لا يروق له أو لمَن سيكون الشاهد عليه يوم القيامة على ما اقترفه من جرائم , إلاّ أنّ هذا البعض قد خاب وخسر في مسح أثر مكان ولادة علي (عليه السّلام) ؛ فبيت علي وفاطمة (عليهما السّلام) , والشجرة التي كانت تجلس عندها الزهراء (عليها السّلام) وتبكي أباها رسول الله (ص) , ومواقع المعارك التي انتصر فيها الإمام علي (عليه السّلام) كلها قد تمّ إزالتها حتّى لا يكون هنالك أثر لآل بيت النبوة , فكيف هو السبيل في مس أثر الولادة ؟
وطالما أنهم عجزوا فهذا لوحده دليل صدق على ماهيّة علي (عليه السّلام) والتي لا يعرفها إلاّ الله (عزّ وجل) ورسوله (ص) , ونحن لا نعرفها , لكن نبني النتائج على حصر المعرفة بالله ورسوله فهذا يعني حجم وأهميّة ماهيّة علي (عليه السّلام) التي لا نعرف عنها إلاّ الجزء اليسير .
فسلام على أمير المؤمنين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حياً .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين .
source : alhassanain