إن أول من ألف في دنيا الإسلام هم أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) والعلماء العظام من شيعتهم، فهم الرواد الأوائل في الميدان الأدبي والاجتماعي والديني، الذين خططوا مسيرة الأمة الثقافية وفجروا ينابيع العلم والمعرفة والحكمة في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية.
إن أول من ألف في دنيا الإسلام هم أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) والعلماء العظام من شيعتهم، فهم الرواد الأوائل في الميدان الأدبي والاجتماعي والديني، الذين خططوا مسيرة الأمة الثقافية وفجروا ينابيع العلم والمعرفة والحكمة في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية.
وما نلفت إليه أن مؤلفاتهم وسائر بحوثهم لم تقتصر على علم خاص، وإنما تناولت جميع أنواع العلوم التي يحتاج إليها الإنسان، في حياته الخاصة والعامة والتي تفيده في دنياه وآخرته. فقد ألفوا في علوم كثيرة منها: الفقه، والتفسير، والحديث، والأصول، والصرف والنحو، والكلام، والفلسفة والحساب، والتاريخ والفلك...
وإلى جانب هذه العلوم وضعوا قواعد هامة في الأخلاق الإنسانية، وآداب السلوك الفردية والاجتماعية وأصول التربية الوطنية. وكان أول الرواد الذي سبق في هذا المضمار رائد الأمة الفكرية والعلمية والأدبية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) الذي فتق أبواب العلوم العقلية والنقلية والتربوية وأسس أصولها وقواعدها. يقول العلامة المعروف عباس العقاد: (إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قد فتق أبواب اثنين وثلاثين علماً، فوضع قواعدها وأرسى أصولها)(1)
ومن الذين ألّفوا من الأئمة الطاهرين الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، فقد كانت مؤلفاته نموذجاً فريداً لتطور الفكر الإسلامي وتقدم الحركة العلمية والثقافية في العالم العربي.
الصحيفة السجادية:
هي من ذخائر التراث الإسلامي، ومن مناجم المباحث البلاغية والأخلاقية والتربوية والأدبية في الإسلام ونظراً لأهميتها فقد سماها كبار رجال الفكر والعلم، بأخت القرآن وإنجيل أهل البيت وزبور آل محمد(2)ومما زاد في أهميتها أنها جاءت في عصر طغت فيه الأحداث الرهيبة في السياسة التي أحالت حياة المسلمين إلى جحيم مظلم ليس فيه أي بصيص نور من هدي الإسلام وإشراقه، فالتكتل الحزبي والسياسي الذي سعى وراءه أصحاب المصالح والأطماع الشخصية حيث اختفى أي ظل لروحانية الإسلام وتعاليمه السمحة وآدابه الإنسانية وحكمه الخالدة.
لقد فتحت الصحيفة السجادية آفاقاً جديدة للوعي الديني، كان المسلمون قد فقدوه، ودعت إلى التبتل الروحي والصفاء النفسي والطهارة والتجرد من الأنانية ونبذ الجشع والطمع وغير ذلك من الرذائل والنزعات الشريرة التي نهى عنها الإسلام، كما دعت الصحيفة إلى الاتصال بالله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ومصدر الخير والحق والجمال سبحانه وتعالى أحسن الخالقين.
تمتاز الصحيفة السجادية بأمور بالغة الأهمية ومميزات عديدة، من بينها مايلي:
1- تمثل الانقطاع الكامل لله تعالى والاعتصام بحبله والتجرد التام من عالم المادة.
2- لقد كشفت عن معرفة كاملة يتمتع بها الإمام تفيد عن عمق إيمانه بالواحد القهار، ولم يكن ذلك ناشئاً عن عاطفة عابرة أو تقليد قديم، وإنما هو قائم على العلم اليقين والعرفان الأكيد. وقد أدلى (عليه السّلام) في صحيفته هذه بكثير من البحوث الكلامية التي انتهل منها علماء الكلام والفلاسفة المسلمون في ما كتبوه عن واجد الوجود.
3- احتوت على كمال الخضوع أمام الله تعالى، وبذلك قد امتازت على بقية أدعية الأئمة الطاهرين بما فيها من أفانين التضرعات وإظهار التذلل لله تعالى. قال الفاضل الأصفهاني: (إن الله تعالى قد خص كل واحد منهم بمزية وخصوصية لا توجد في غيره، كالشجاعة في أمير المؤمنين وابنه الحسين (عليه السّلام) والرقة والتفجع في أدعية زين العابدين (عليه السّلام) لا سيما أدعية الصحيفة الكاملة، المعروفة بين أصحابنا الإمامية بزبور آل محمد، وأخرى بإنجيل أهل البيت)(3)
4- لقد فتحت أبواب الأمل والرجاء برحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء. فالإنسان مهما كثرت ذنوبه وعظمت خطاياه لا ينبغي له أن يقنط من رحمة الله تعالى، وعفوه وكرمه. يقول الإمام عليه السّلام: (إلهي وعزتك وجلالك، لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك، ولئن طالبتني بلؤمي لأطالبنك بكرمك...).
5- أكثر ما ورد من أدعية في الصحيفة يصلح برامج للأخلاق الروحية وآداب السلوك والفضائل النفسية التي يسمو بها الإنسان عن عالم المادة.
6- احتوت على حقائق علمية لم تكن معروفة في عصره، نذكر منها قوله (عليه السّلام): (اللهم وامزج مياههم بالوباء وأطعمتهم بالأدواء...).
لقد أشار هنا (عليه السّلام) إلى حقيقة علمية اكتشفت في العصور الأخيرة، وهي أن جراثيم الوباء المعروفة بـ(الكوليرا) إنما تأتي عن طريق الماء، فهو الذي يتلوث بجراثيمها كما أن جراثيم هذا الوباء تنتقل إلى الأطعمة فإذا أكلها الإنسان وهي ملوثة بتلك الجراثيم فإنه يصاب بهذا الداء. هذه الحقيقة لم تعرف إلا في هذا العصر.
7- إنها تمثل فلسفة الدعاء الذي هو معراج المؤمن إلى الله والبالغ به إلى أرقى مراتب الكمال، إذ ليس شيء في هذه الحياة ما هو أسمى من الاتصال بالله تعالى خالق الكون، وواهب الحياة إلى النفوس الحائرة التي تشعر بالطمأنينة بعد القلق، وبالأمل بعد القنوط أن الدعاء الخالص ليسمو بالإنسان إلى عالم الملكوت.
8- تعتبر الصحيفة السجادية ثورة على الفساد والانحلال الذي كان سائداً في ذلك العصر بسبب السياسة الأموية التي أشاعت المجون والفساد والتحلل بين المسلمين. فجاءت الصحيفة ثورة على الجمود والتخلف والانحطاط في العصر الأموي.
9- لقد بلغت أرقى مراتب الفصاحة والبلاغة في اللغة العربية. فلا نجد كلاماً عربياً بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة ما هو أبلغ وأفصح من أدعية الإمام زين العابدين عليه السّلام.
قال الدكتور حسين محفوظ: (وعلى الرغم من أنه - الدعاء - المأثور عن الأئمة نثر فني رائع، وأسلوب ناصع من أجناس المنثور، ونمط بديع من أفانين التعبير، وطرق بارعة من أنواع البيان، ومسلك معجب من فنون الكلام، والحق إن ذلك النهج العبقري المعجز من بلاغات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت (عليهم السّلام) التي لم يرق إليها غير طيرهم، ولم تتسم إليها سوى أقلامهم. فالدعاء أدب جميل، وحديث مبارك، ولغة غنية، ودين قيم، وبلاغة عبقرية، إلهية المسحة، نبوية العبقة..)(4).
وقد اهتمت الأوساط الإسلامية وغير الإسلامية اهتماماً بالغاً بالصحيفة السجادية، فقد واظب جميع العلماء المسلمين الصالحين على الدعاء بها في غلس الليل وفي وضح النهار متضرعين بها إلى الله تعالى.
ولم تقتصر على العالم العربي فقط وإنما تعدت إلى غيره من شعوب العالم فترجمت إلى أكثر اللغات الأجنبية، كالفرنسية والإنكليزية والفارسية والألمانية وغيرها.
ومما يدل على مدى أهميتها أن الخطاطين في مختلف العصور الإسلامية انبروا إلى كتابتها بخط أثري في منتهى الروعة وقد حفلت بها الكثير من خزائن المخطوطات الإسلامية. كما عكف العلماء على دراسة الصحيفة وإيضاح مقاصدها وشرحها. والعلماء الذين قاموا بهذه المهمة زاد عددهم على السبعين عالم. كل ذلك لأنهم وجدوا في الصحيفة نموذجاً فريداً يستفيد منه كل أديب وباحث فقد كان البارز فيها جمال الأسلوب وروعة الديباجة ورقة الألفاظ وارتياح روحي يبلسم النفوس الحائرة والقلوب الضالة.
ومن مظاهر الروعة البلاغية فيها الأطناب والإيجاز حيث تدعو الحاجة. فقد أطنب (عليه السّلام) في وصف الجنة وما فيها من نعم وترف، وقصور جميلة كل ذلك بسبب تشويق الناس إليها وترغيبهم بأعمال البر والخير ليفوزوا بنعيمها. كما أطنب في التهويل من النار وقساوة العذاب وذلك لزجر الناس عن اقتراف الموبقات وإبعادهم عن ارتكاب المنكرات. وهو بهذا يجاري أسلوب القرآن الكريم. وقد نص علماء البلاغة على أن الأطناب في ذلك من أرقى مراتب البلاغة وأروع صورها.
رسالة الحقوق:
وما أدراك ما رسالة الحقوق! إنها وسيلة كريمة ليفهم الإنسان نفسه وما فطرت عليه من مواهب خيرة ونزعات إنسانية. هي لعمري سجل المعرفة بكل أنواعها الدينية والعلمية والفلسفية تفيد جميع الناس في كسب علومهم ومعارفهم وتقويم أخلاقهم وسلوكهم وتعمل على تطوير مجتمعهم في سائر منازعهم الاجتماعية والسياسية والتربوية والفكرية والأدبية والأخلاقية...رسالة الحقوق منبع غزير للعلوم الإنسانية ومنهج عزيز للقيم الأخلاقية ومشرف أعلى على جميع التطورات الاجتماعية والحضارة البشرية. هي أم الرسالات تنسق تنسيقاً كاملاً بين عقائد المسلم وأعماله ومشاعره وسلوكه فتطلق روحه من عقاب الأوهام والترهات، وتوجه نفسه إلى الأعمال الصالحة والطاقات البناءة وكأنها تربط ربطاً محكماً بين نواميس الكون الطبيعية ومنازع الفطرة البشرية في انسجام تام وتناسق كريم.ولا يخفى أن العمل برسالة الحقوق يهدي المسلم المؤمن إلى عبادة الله متى توجه العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، فهي كما وصفها الفقهاء (مشدودة إلى العروة الوثقى لا انفصام لها).
ورسالة الحقوق منارة مضيئة تهدي الفرد إلى الطريق القويم فتوقظ ضميره وتحيي شعوره بالعقيدة الإسلامية الواضحة التي لا غموض فيها ولا تعقيد، كما أنها تهدي الناس الذين يعملون بها إلى الخير العام سواء أكانوا شعوباً أم دولاً أم حكومات من شتى الألوان والأجناس فتوطد العلاقات الاجتماعية بينهم على أسس ثابتة لا تتأثر بالأغراض الشخصية ولا تميل مع الرأي والهوى، ولا غرو فهي مستقاة من المنبع الإلهي الأصيل من كتاب الله الصامت الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
رسالة الحقوق أم الرسالات ومصدر البطولات وملهمة الحضارات تكون للحاكم أساس عدله في حكمه، وللعامل أساس صدقه في عمله، وللمسلم طمأنينة وإيماناً، وللمؤمن بهجة ورضا وللأمة نوراً وحقاً وعدلاً. وحسبها قيمة وفخراً أن غارس بذرتها هو من وحي الرسالة وعنصر الرحمة ومعدن العلم والحكمة، من سلالة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً..
قال تعالى: (...إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)(5) هو الإمام المعصوم علي زين العابدين (عليه السّلام) الملقب بالسجاد لكثرة سجوده وعبادته ومع كثرة عبادته كثرة علمه الذي لا ينحصر في هذه الرسالة فحسب فالمجال متسع كثيراً لكل عالم أراد أن يعب من معارفه المختلفة ولكل باحث أحب أن يقتبس من حكمه وأدبه. لقد ترك للإنسانية تراثاً خالداً وبحراً زاخراً بشتى العلوم والمعارف التي تفيد الإنسان في دنياه وآخرته، وهي أشبه بالغيث تحيي النفوس بعد موتها وتبعث على طاعة الله والبعد عن معصيته؛ وبمقدار ما يبلغ الإنسان من علوم الإمام زين العابدين يبلغ حداً بعيداً من العظمة مع الخالدين.
روى أبو حمزة الثمالي قال:
(دخل قاضٍ من قضاة أهل الكوفة على علي بن الحسين عليه السّلام فقال له: جعلني الله فداك! أخبرني عن قول الله عز وجل: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين)، قال له (عليه السّلام): ما يقول الناس فيها قبلكم؟ قال: يقولون: إنها مكة. فقال: وهل رأيت السرق في موضع أكثر منه بمكة؟ قال: فما هو؟ قال: إنما عنى الرجال، قال: وأين ذلك في كتاب الله؟ فقال: أو ما تسمع إلى قوله عز وجل: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله) وقال: (وتلك القرى أهلكناهم) وقال: (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها) أفيسأل القرية أو الرجال أو العير؟ قال: وتلا عليه آيات بهذا المعنى قال: جعلت فداك! فمن هم؟ قال: نحن هم، فقال: أو ما تسمع إلى قوله: (سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين) قال: آمنين من الزيغ)(6)فالله سبحانه أعلم أين يضع رسالته فأهل البيت أهل العلم والمعرفة وأهل التقى والدين جاهدوا في الله حق جهاده وعملوا على نشر العلوم الدينية والأدبية والفلسفية والعملية بكل ما زودهم سبحانه بها من طاقات.
والإمام السجاد ورث العلم بكل أنواعه وألوانه عن أبيه وجديه فحفظ كتاب الله وتفقه فيه وعمل على نشره.
روى الطبرسي قال: (لقي عباد البصري علي بن الحسين (عليه السّلام) في طريق مكة فقال له: (يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينه، وإن الله عز وجل يقول: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) (7)فقال علي بن الحسين: إذا رأينا هؤلاء الذي هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج).
وجاء في المصدر نفسه: (سئل الإمام زين العابدين عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال (عليه السّلام): لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات، فالكلام أفضل من السكوت. قيل: وكيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، وإنما يبعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجب ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، ولا تجنب سخط الله بالسكوت إنما ذلك كله بالكلام وما كنت لأعدل القمر بالشمس إنك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت)(8)
وتكلم الإمام (عليه السّلام) فكانت هذه الدرر الثمينة، رسالة الحقوق التي رسم فيها معالم الشخصية الصالحة التي ينشدها الإسلام لقد وضعت حقوق الجوارح من اللسان والسمع والبصر واليد والرجل... إلى الصلاة والصوم والحج... إلى حقوق المعلم والسلطان والمالك... إلى حقوق الأرحام من الأب والأم والأخ...
كما رسمت أيضاً حقوق أهل الإسلام وأهل الذمة وطلب إلينا حق رعايتها والعمل في تأديتها لنعالج على ضوئها مشاكلنا الخاصة والعامة وما يعتور طريقنا من هفوات وأخطاء وتقصير... لقد أرادنا عناصر إنسانية صالحة تحب الخير للجميع وتعمل به وتنبذ الشر وتتجنبه. وقد كتب هذه الرسالة الذهبية (عليه السّلام) وأتحف بها بعض أصحابه، وقد رواها العالم الكبير ثقة الإسلام ثابت بن أبي صفية، المعروف بأبي حمزة الثمالي تلميذ الإمام (عليه السّلام)(9)، ورواها عنه بسنده المحدث الصدوق(10)، وحجة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني والحسن بن علي بن الحسين بن شعبة البحراني في تحف العقول(11)
الدوافع لكتابة رسالة الحقوق:
كثر اللهو والطرب وانتشرت دور الميسر ومجالس الغناء طيلة حكم الأمويين، واستقدم ملوكهم الجواري والمغنيين والمغنيات من شتى البلدان إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة وأغدقوا عليهم المال بسخاء. كما بذلوا الكثير من المال على الشعراء لتأييد سلطانهم فاصطنعوا به الأحزاب واستذلوا به الأعداء. وكان عبد الملك بن مروان من أكثر ملوك بني أمية بذلاً للمال في سبيل تأييد سلطانه، وعامله آنذاك الحجاج بن يوسف فلما حاصر الكعبة، وفيها ابن الزبير أمر رجاله أن يرموا الكعبة بالمنجنيق فتهيب جنده، فجاء بكرسي وجلس عليه وقال لهم: (يا أهل الشام، قاتلوا على أعطيات عبد الملك) ففعلوا(12)وكثيراً ما كان يرد أذى الأحزاب وإخماد الثورات بالمال ينثره على الناس فينشغلون به عنه. من ذلك ما فعله مع جماعة عمرو بن سعيد الأشدق لما طمع بالشام دونه. فاحتال في استحضاره إلى ديوانه وقتله غدراً، ولما علم أصحابه بمقتله تجمهروا حول دار الخلافة مطالبين بدم زعيمهم، خاف عبد الملك العاقبة فأمر أن يرمى برأس عمرو إلى الناس ومعه المال الكثير، فنفذ ابنه عبد العزيز ذلك، وجعل يلقي بالأموال على الجماهير المحتشدة. فلما رأى الناس الرأس والأموال انشغلوا بالأموال وتفرقوا(13)
لقد استخدموا المال والنساء وبذلوا على تلك المجالس والليالي الساهرة بسخاء، ولم يكن يدعوهم إلى هذا السلوك المنحرف والاستهتار الفاضح حبهم لملذاتهم فقط، وإنما كان هدفهم من وراء ذلك إماتة الروح الإسلامية الصحيحة في نفوس الناس ليبعدوهم عن الدين الإسلامي وعن رسالة الأنبياء المرسلين فلا يهمهم بعد هذا أمر الخلافة والمطالبة برفع الظلم والاستهتار فالمال ميسور أمام فراغٍ الشباب والجواري ودور الميسر منتشرة تستهويهم للتلهي وقتل الوقت هدراً.
لقد هيأوا الأذهان أيضاً إلى قبول الرأي القائل بأن الخلافة ليست إلا ملكاً كالقيصرية والكسروية، وأن الله تعالى لم ينص على إمام بعينه كما يرى كثير من المسلمين.
في وسط هذا المجتمع المريض كان لا بد للإمام السجاد أن يداوي هذه النفوس لتتخلص من أمراضها وتعرف حدودها وترجع إلى الأخلاق الإسلامية السامية التي تعيد للأمة تعاليم الإسلام القومية والسليمة التي كاد الأمويون أن يقضوا على معظمها بأعمالهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وتصرفاتهم التي لا تليق بأمة مرموقة بين الأمم تعرف مكانتها السامية بين الدول المتحضرة أجل لقد تفسخت الأخلاق وتردت حتى أصبحت تهدد بخطر عظيم الأمر الذي دعا الغيارى على الدين أن يهتموا الاهتمام الكبير لصد هذا التيار الجارف، ومن أحرى بأهل البيت الذين اختارهم سبحانه وتعالى لردع الظلم عن أعناق المستضعفين، وهداية الناس إلى الحياة الحرة الكريمة.
المصادر :
1- عبقرية الإمام علي للعقّاد
2- حياة الإمام زين العابدين، ص116. عن الذريعة في تصانيف الشيعة، ج15، ص18
3- الصحيفة الخامسة السجادية، ص13-14
4- مجلة البلاغ العدد السادس من السنة الأولى، ص 56
5- سورة الأحزاب: الآية33
6- الاحتجاج، ج2،ص312
7- سورة التوبة: الآية 111
8- الاحتجاج، ج2،ص315
9- الكشي- الخصال
10- من لا يحضره الفقيه الخصال
11- المصدر السابق
12- التمدن الإسلامي لجرجي زيدان، ج1، ص83
13- نفسه، ص84
source : rasekhoon