عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

معالم التجديد الكلامي

لا يكتفي المجددون الحقيقيون عادة بطرح مفاهيم جديدة وتصورات غير مسبوقة ومضامين مستحدثة وفق ما تحتاجه الساحة الفكرية أو على أساس عملية استشرافية لمعالم المستقبل وتحديات التقدم الانساني. بل إن هؤلاء المجددين يحدثون نقلات منهجية تحقق قفزة نوعية وربما تحدث تحولات معرفية كبرى تمكن الاجيال من النظر إلى المسألة من منظور جديد مختلف عن كل الاساليب التي سلكها الأولون.
معالم التجديد الكلامي

لا يكتفي المجددون الحقيقيون عادة بطرح مفاهيم جديدة وتصورات غير مسبوقة ومضامين مستحدثة وفق ما تحتاجه الساحة الفكرية أو على أساس عملية استشرافية لمعالم المستقبل وتحديات التقدم الانساني.
بل إن هؤلاء المجددين يحدثون نقلات منهجية تحقق قفزة نوعية وربما تحدث تحولات معرفية كبرى تمكن الاجيال من النظر إلى المسألة من منظور جديد مختلف عن كل الاساليب التي سلكها الأولون.
إن كبار المجددين من العلماء والفلاسفة في كل ميدان هم الذين استطاعوا فعلا إحداث مناهج جديدة لا الذين أتوا بمعارف مبتكرة فقط.
ففي مجال الفلك ما كان (لكوبرنيك) أن يعرف هذه الشهرة لولا القطعية المعرفية التي أحدثها مع النظرية الفلكية القديمة وطرحه رؤية جديدة... و(ديكارت) في مجال الفلسفة ما كان ليصبح علماً بارزاً وعلامة لمرحلة جديدة في تاريخ التفكير الفلسفي لو لم يكن صاحب منهج جديد.. وكذلك (انشتاين) في الفيزياء لولا ثورته الكبرى على فيزياء نيوتن وتأسيسيه لنظريته النسبية التي قلبت الفيزياء رأساً على عقب...
وفي هذا السياق وفي مجال البحث العقائدي يتجلى إبداع (محمد باقر الصدر) في القدرة على الانتقال بعلم الكلام نقلات منهجية كبرى من شأنها ان تسهم في أرساء أسس جديدة لعلم عقائدي جديد.
لقد التفت إلى هذه القدرة الإبداعية للصدر (شبلي ملاط) في دراسته تجديد الفقه الإسلامي حيث يقول (لقد اكتشفنا في كتابات باقر الصدر وأقواله نظاماً يستمد قوته كما كل النظم لا من الاجابات المحددة القادرة على توفرها وانما من المجالات التي يفتحها)(1)
وباستقراء الانتاج الكلامي والعقائدي للسيد محمد باقر الصدر المبثوث هنا وهناك في أكثر كتبه يمكن ان نستكشف: خمس نقلات منهجية أساسية:

أولا: من المنطق الأرسطي إلى المذهب الذاتي.
ثانياً: من الاتجاه التجزيئي إلى المنهج الترابطي الموضوعي.
ثالثاً: من النزعة الثبوتية إلى المنهج التكاملي.
رابعاً: من عقيدة الفرد إلى عقيدة المجتمع.
خامساً: من المذهبية الجدلية إلى الإنسانية اليقينية.

النقلة المنهجية الأولى:

من منطق أرسطو إلى المذهب الذاتي في كتاب فلسفتنا تبنى باقر الصدر النظرية الارسطية في المعرفة حيث سلّم بالبديهيات الست وضرورة مبدأ العلية ومسألة: بداهة الواقع الخارجي لكنه لم يكن ليقف في حدود منطق أرسطو الذي حكم إلى حد ما تراثنا الفكري وخاصة الكلامي الذي تأثّر بالمباحث المنطقية والفلسفية إثر ترجمة التراث اليوناني. واتخذ طابعاً جدلياً وتطرف أحياناً كثيرة في ملاحقة إشكالات الفلسفة والمنطق الارسطي حتى سقط في التجريد المطلق والبحث عن شبهات افتراضية أكثر منها واقعية لا ثمرة عملية من ورائها.
لكن باقر الصدر لم يستسلم للهيبة التاريخية للمنطق الأرسطي رغم كل التعديلات التي أدخلها عليه المفكّرون الإسلاميون وقطع مع هذا التراث الطويل بأطروحته
المتميزة: الأسس المنطقية للاستقراء والذي قال عنها باقر الصدر نفسه.. أنها استطاعت أن تملأ فراغاً كبيراً في نظرية المعرفة البشرية لم يستطع الفكر الفلسفي أن يملأه خلال الفي سنة(2)
ليس كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، كما قد يوحي عنوانه دراسة لمشكلة الاستقراء فحسب وحل لقضية التعميم الاستقرائي وانما هو أطروحة لنظرية معرفية جديدة أسماها باقر الصدر: المذهب الذاتي في المعرفة: إنه مذهب ثالث مقابل المذهب التجريبي والمذهب العقلي ولمعرفة تمايز هذا المذهب لا بأس أن نقارن بين هذا الاتجاه الجديدة وبين هذين المذهبين الكبيرين. وسنحرّر هذه المقارنة في النقاط التالية:
أولا: تحديد مصدر المعرفة: فالمذهب الذاتي يتفق مع المذهب العقلي حول وجود قضايا وإدراكات قبلية التي تمثّل أساساً يقوم عليه البناء الفوقي للمعرفة.
ثانياً: يختلف مع المذهب العقلي في الأساس المنطقي للتعميم الاستقرائي. فالمذهب العقلي يستند في هذا التعميم إلى مبادىء ثلاثة: مبدأ السببية ومبدأ عدم تكرّر الصدفة باستمرار ومبدأ: ان الحالات المتشابهة من الطبيعة تؤدي إلى نتائج متماثلة ويعتقد هؤلاء أن هذا المبدأ مستقل عن التجربة ومستقل برهانياً عن مبدأ السببية ومن نقطة الخلاف هذه حول رجوع الاستقراء إلى القياس حسب المنطق العقلي ينطلق باقر الصدر ليشيد نظريته في المعرفة.
ثالثاً: إن المذهب العقلي يؤمن أساساً بالتوالد الموضوعي في المعرفة والقياس هو العمدة في الاستدلال وحتى الاستقراء يرجع في الأخير إلى قياس صغراه الملازمة بين ظاهرتين كما تعكسها ملاحظاتنا وكبراه ان الصدفة لا تتكرر باستمرار.
والتلازم الموضوعي يعني أنه اعتماداً على التلازم بين قضية واخرى. أو بين قضية ومجموعة قضايا أخرى يمكن أن تحصل معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضية أو القضايا التي تستلزمها. مثال ذلك من قولنا: (سقراط إنسان) و(كل إنسان فان) نستنتج ان (سقراط فان) فهذا توالد موضوعي لأنه ناشىء عن التلازم بين الجانب الموضوعي للمقدمات والجانب الموضوعي للنتيجة. (فالتوالد الموضوعي هو الأساس في كل استنتاج يقوم على القياس الارسطي لان النتيجة دائماً ملازمة للمقدمات على أساس التوالد الموضوعي والتلازم بين القضايا المستدل بعضها على البعض الآخر بصورة قياسية)(3)
أما التوالد الذاتي الذي يعتقد المذهب الذاتي أنها الطريقة التي تحصل بها أكثر معارفنا فهي تؤمن بأنه يمكن أن تنشأ معرفة جديدة انطلاقاً من التلازم بين الجانبين الذاتيين للمقدمات والنتائج دون تلازم في الجانبين الموضوعيين والمقصود من الجانب الذاتي الادراك. في حين ان المنطق الأرسطي يعتبر أن هذا التلازم الذاتي دون تلازم في الجانب الموضوعي غير كاف للانتقال إلى النتيجة وهكذا حاول المنطق الأرسطي أن يفسّر كل معارفنا بأنها إما أن تكون أولية أو أنها مستنتجة على أساس التوالد الموضوعي. أما المذهب الذاتي فيؤمن: بوجود معارف أولية تمثل الجزء العقلي القبلي من المعرفة (مبدأ عدم التناقض). وأن هناك معارف ثانوية مستنتجة على طريقة التوالد الموضوعي (مثال ذلك نظريات الهندسة التقليدية والمستنتجة من بديهيات تلك الهندسة) وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي (التعميمات الاستقرائية) وهي تهم أكثر معارفنا.
ولا يتوهم أن المذهب الذاتي يتفق كلياً مع المذهب الارسطي في المعارف القبلية.
إنهما يتفقان من حيث المبدأ والاقرار بوجود هذه المعارف القبلية ولكنهما يختلفان من جهتين:

أ ـ طبيعة المعارف الأولية.
ب ـ ضرورة كونها يقينية.

في الجهة الأولى يناقش باقر الصدر في أطروحته الرائدة (الاسس المنطقية للاستقراء) البديهيات التي آمن بها المنطق الارسطي والتي أرجعها إلى ست: يقول الصدر (ان القضايا التجريبية والحدسية والمتواترة والمحسوسة كلها قضايا استقرائية تقوم على أساس تراكم القيم الاحتمالية في محور واحد وتبعاً للمرحلتين التي حددتهما للدليل الاستقرائي)(4) ولابدّ من الاشارة هنا أن باقر الصدر يفرق بين الحس الظاهر والحس الباطن ويرى أن قضايا القسم الأخير أولية وما نفى بداهته هو الحس الظاهر: (ولا شك في أن القضايا المطلوب اثباتها بالحس الباطن أولية لأن الإنسان في هذا القسم من الإدراك الحسي يتصل بصورة مؤكدة بمدلول القضية المطلوب إثباتها بهذا الحس مباشرة وأما القضايا المطلوب اثباتها بالحس الظاهر فهي تختلف عن قضايا الحس الباطن لأننا بالحس الظاهر نريد أن نثبت الواقع الموضوعي أي أن هناك حينما أرى البرق برقاً موضوعياً موجوداً بصورة مستقلة عن إدراكي وهذا لا يكفي فيه الاتصال المباشر بالمحسوس في حالات الحس الظاهر)(5)
أما القضايا الأولية والفطرية التي تمثّل البقية الباقية على لائحة البديهيات الارسطية التي يدركها العقل مستقلا عن الحس والتجربة. فإن باقر الصدر وإن كان لا ينكر قبليتها لكنه يثبت أنه بالامكان الاستدلال عليها بطريقة الاستقراء.
إن باقر الصدر لا يستثني في إمكان الاستدلال استقرائياً على (البديهيات) إلاّ مبدأ عدم التناقض وبديهيات نظرية الاحتمال (وفيما نؤكد أن بالامكان تنطبيق الاستدلال الاستقرائي على كل الاوليات الارسطية إلاّ في حدود هذين الاستثنائين (ما سبق الاشارة إليهما) لا نعني بذلك ان تلك القضايا استقرائية فعلا وليست قبلية وإنما نعني ان بالامكان نظرياً أن نفسرها على أساس الطريقة التي حدّدناها للاستدلال الاستقرائي ولا ينفي هذا ان تكون قضايا أولية قبلية)(6)، وتعليل هذا الاستثناء للمبدأين المشار إليهما يرجع إلى أن مبدأ عدم التناقض لابدّ ان يفترض ثابتاً وإلاّ لما أمكن للطريقة الاستقرائية ان تقوم لها قائمة لأنه لا يمكن حينئذ ان تجمع القيم الاحتمالية على محور واحد لأن هذا المجتمع على محور واحد يعني نفي نقيض كل قيمة احتمالية وهذا لا يتحقق إلاّ إذا قبلنا باستحالة اجتماع النقيضين أما إذا قبلنا باجتماع النقيضين وأنكرنا مبدأ عدم التناقض فلا يمكن تجميع القيم الاحتمالية على محور واحد. وأما استثناء كل المصادرات التي يحتاجها الدليل الاستقرائي بما فيها بديهيات نظرية الاحتمال فواضح.. أما الجهة الثانية فنبحثها في النقطة الرابعة الآتية.
رابعاً: إن المذهب الذاتي لا يشترط أن تكون المعرفة الأولية يقينية: فهو يُرجع بداية المعرفة إلى قسمين: أحدهما: المعرفة التي تفرضها بديهيات نظرية الاحتمال. والآخر: نفس الخبرة الحسية بالموضوعات فنحن حين نشاهد سحاباً في السماء تعتبر مشاهدتنا خبرة حسية والسحاب في السماء هو موضوع هذه المشاهدة ومعرفتنا بالمشاهدة نفسها معرفة ابتدائية أولية وليست مستدلة وأما معرفتنا بوجود سحاب في السماء فهي معرفة مستدلة بطريقة استقرائية ومع تمسّك المذهب الذاتي بوجود بداية للمعرفة حتى لا يلزم التراجع إلى ما لا نهاية. لا يقر بأن تكون هذه البدايات ضرورية ويتصور المذهب الذاتي المعرفة الأولية احتمالية في مجالين: المجال الأول: مجال الخبرة الحسية والثاني مجال القضايا العقلية الأولية التي يكون ثبوت المحمول فيها للموضوع ثبوتاً مباشراً دون حدّ أوسط. هذه القضايا التي لا يمكن اثباتها باستنباط عقلي قد تكون متقدمة بدرجة عالية من التصور وكذلك بدرجات أقل (وما دامت بعض المعارف الأولية بالامكان ان تحصل بقيم احتمالية في البداية فمن الممكن تنمية هذه القيم الاحتمالية وفقاً لنظرية الاحتمال فكلما وجدت احتمالات تتضمن تلك المعرفة الأولية ازدادت قيمتها الاحتمالية)(7)
هذا تمام الكلام في تحديد الفوارق بين المذهب العقلي والمذهب الذاتي أما أهم الاختلافات بين الأخير والمذهب التجريبي فهي:
أولا: إن المذهب الذاتي كما رأينا يؤمن بمعارف عقلية قبلية في حين ينكر التجريبيون كل معرفة غير نابعة من الحس والتجربة فهم يعتقدون أن التجربة هي الأساس العام الوحيد الذي يمون الانسان أي معارف قبلية بصورة مستقلة عن التجربة وحتى ما يبدو في أعلى درجات التأصل في النفس البشرية قضايا الرياضة والمنطق نظير (1 + 1 = 2) يرجع في التحليل إلى التجربة التي عاشها الإنسان على مرّ الزمن)(8)
وفي ضوء تلك فان بدايات المعرفة عند التجريبيين جزئية فلا مجال لنلتقي بقضية كلية تتجاوز نطاق الخبرة الحسية المباشرة.
ويناقش الصدر المذهب التجريبي في قاعدته هذه مناقشة تفضح تهافتها: (يلاحظ إلى جانب ذلك تهافتاً منطقياً في ايمان التجريبيين بمذهبهم القائل إن التجربة هي المصدر الأساسي لكل المعارف البشرية لأن هذا القول نفسه قضية يعمم فيها الحكم على كل معرفة فهل هذه القضية مستمدة من مصدر قبلي بصورة مستقلة عن التجربة أو أنها مستمدة من التجربة كأي قضية أخرى؟ فإن افترض المذهب التجريبي أنها مستمدة من مصدر قبلي فقد اعترف على هذا الأساس بكذبها وبوجود معرفة قبلية وان افترض أنها تقوم على أساس التجربة والخبرة الحسية فيجب أن يعترف بأنها قضية محتملة فقط ولا يمكنه أن يؤكدها تأكيداً كاملا لأنه يرى أن أي تعميم لمعطيات الخبرة والتجربة لا يمكن أن يحظى إلاّ بدرجة احتمالية من التصديق وهذا يعني ان التجريبيين يحتملون ان المذهب العقلي على حق)(9)
ولذلك فإن المذهب التجريبي يتحير في ضبط الفوارق بين قضايا العلوم الطبيعية وقضايا الرياضيات ففي النوع الأول لا يستطيع المذهب التجريبي أن يبرّر التعميم الاستقرائي لأنه كما بين الصدر هذا التعميم قائم على أساس مصادرات حساب الاحتمال وهذا ما لا يعترف به المذهب التجريبي. ومن جهة أخرى: إن أي موقف يتخذه المذهب التجريبي للتمييز بين قضايا الرياضيات والقضايا الطبيعية يكون محرجاً له: فإن أقر بأن هناك فوارق وأن قضايا الرياضة لها امتيازها الخاص وتعيينها فإن هذا لا يمكن التسليم به إلاّ على أساس أنها ليست استقرائية وأنها عقلية قبلية.
وإن أنكر التمايز بينها فإن هذا خلاف الوجدان وثبوت الاختلاف بين النوعين من القضايا إذ (أن اليقين بالحقيقة الرياضية يصل منذ اللحظة الأولى من إدراكها إلى درجة كبيرة لا يمكن تجاوزها بينما نجد اعتقادنا بالقضايا الطبيعية يزداد باستمرار كلما تظافرت التجارب وأكدت صدق القضية وموضوعيتها)(10)
ثانياً: هذا الفارق الأول وأما الفارق الثاني إن قضايا الرياضة والمنطق تبدو يقينية بدرجة لا يمكن أن نتصور إمكان الشك فيها بينما يمكن أن تشك في القضايا الطبيعية مهما كنا متأكدين من صدقها.
وثالثاً: ان قضايا العلوم الطبيعية لا تتجاوز حدود التجربة بمعنى إذا تصورنا عالماً آخر غير عالمنا فان هذه القضايا ليست بالضرورة صادقة هناك.
ولكن القضايا الرياضية والمنطقية تتجاوز كل عالم نتصوره فـ 1 + 1 = 2 صحيحة في أي عالم نتصوره فالتعميم يتعدى العالم الذي نعيشه.
لما واجه المذهب التجريبي هذه المشكلة (التفريق بين القضايا الرياضية والقضايا الطبيعية) اضطر إلى قبول نفي الفوارق وصارت حينئذ المعارف الرياضية احتمالية وثبت بذلك فشل المذهب التجريبي في تفسير المعرفة البشرية. من هنا حاول المنطق الوضعي تفسير الفروق بين هذين النوعين من القضايا (الرياضية والطبيعية) على أساس التفريق بين القضايا الإخبارية والقضايا التكرارية، فالقضية الاخبارية كل قضية تمنحنا علماً جديداً ويكون وصف الموضوع بوصف ما غير مستبطن في الموضوع نفسه، أما القضية التكرارية فهي القضية التي لا تضيف علماً جديداً بل يكون المحمول تكرار لعناصر الموضوع بعضها أو كلها: وهكذا فالقضايا الرياضية ترجع إلى القضايا التكرارية والقضايا الطبيعية إخبارية. وإن كان الوضعيون ميزوا بين قضايا الرياضة البحتة والقضايا الرياضية التطبيقية من قبل هندسة اقليدس فالأخيرة إخبارية أما الرياضية البحتة فهي تكرارية وكذلك يقينية لانها خالية عن الإخبار.
وناقش (باقر الصدر) هذه المحاولة بأن افترض كون القضايا الرياضية البحتة تكرارية كلها لا يكفي لحل المشكلة ولانه يبقى السؤال قائماً: لماذا اليقين والضرورة في القضايا التكرارية؟ ويركّز الصدر على مبدأ عدم التناقض الذي هو أساس الضرورة واليقين في القضايا التكرارية فكيف يفسّر المذهب الوضعي الضرورة واليقين في نفس هذا المبدأ من الطبيعي انه لا يمكن تفسير المبدأ إنه قضية تكرارية لأن المبدأ لا يعبّر عن نفسه بقضية إخبارية فهو يحكم بالاستحالة: (اجتماع النقيضين مستحيل وهذه الاستحالة لا تستخرج من نفس مفهوم اجتماع النقيضين لانها ليست من عناصر هذا المفهوم)(11)
ولم يكتف المذهب الوضعي بالقول بأن التجربة والحس هي المصدر الوحيد للمعرفة بل ذهب إلى أن القضية التي لا تخضع للخبرة الحسية ليست فقط غير ممكنة الاثبات بل هي ليست قضية من الناحية المنطقية فلا يمكن أن توصف بالصدق أو الكذب وعلى هذا الأساس رفض المنطق الوضعي مبدأ السببية وقدم مبرراً منطقياً لذلك باعتبار أنها قضية خاوية ولا معنى لها.
ولربط معنى القضية بالخبرة الحسية: أسس المذهب الوضعي ثلاثة مواقف:

الموقف الأول: أن كل مفردة لها مدلولا في خبرتنا الحسية ليس لها معنى.
الموقف الثاني: لابدَّ أن تكون القضية في صدقها تعطينا خبرة حسية مختلفة عن الخبرة الحسية التي تعطيه كذب القضية.
الموقف الثالث: القضية التي لها معنى هي التي يمكن التحقق من صدقها. فالقضية التي لا يمكن أن نتحقق ونتأكد من صدقها وكذبها ليس لها معنى.

ولقد ناقش باقر الصدر الموقف الثاني والثالث بينما تعود مناقشة الموقف الأول إلى نفس مناقشة النظرية التجريبية العامة(12)
هذه أهم المقارنات بين المذهب الذاتي من جهة والمذهب العقلي والتجريبي بما فيها الإتجاه الوضعي.
ومن المهم ونحن نتحدث عن نظرية المذهب الذاتي كنقلة منهجية في المبحث الكلامي أن نشرح بأكثر عمق طريقة التوالد الذاتي للمعرفة.
ذكرنا سابقاً أن المذهب الذاتي يرى أن أكثر معارفنا تتوالد بطريقة ذاتية لا موضوعية وهذا التوالد يمرّ بمرحلتين مرحلة موضوعية ومرحلة ذاتية: (إن كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على أساس التوالد الذاتي تمر بمرحلتين إذ تبدأ أولا مرحلة التوالد الموضوعي وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية وينمو الاحتمال باستمرار ويسير نمو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جداً من الاحتمال غير ان طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين وحينئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين)(13)
المصادر :
1- شبلي ملاط، تجديد الفقه الإسلامي: محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، ص250
2- محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المجمع العالمي للشهيد الصدر، مج4، ص140
3- محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف للمطبوعات، لبنان، 1981، ص135
4- میزان الحکمة ص470
5- میزان الحکمة ص452
6- میزان الحکمة ص472
7- میزان الحکمة ص504
8- میزان الحکمة ، ص480
9- میزان الحکمة ص497
10- میزان الحکمة ص485
11- میزان الحکمة ص490
12- میزان الحکمة من ص495 إلى ص499
13- میزان الحکمة ص141


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ ...
العلاقة بين رجل الدين والمجتمع
مسؤوليات الشباب في كلام القائد
ما تفسیر آیة "ما یَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ ...
ارضاء الروح
تنصيص النبي السابق على نبوة اللاحق
في قول النبي لأهل بيته: (أنا حرب لمن حاربكم) ...
نظرة قرآنية حول مفهوم الموت
کیف ندعو الله اذا مرضنا؟
وقفة بين يدي زِيارة الأربعِين

 
user comment