قال الله تعالى وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ و ما كان حزنه إلا عبادة الله تعالى لا جزعا
و روي أن النبي ص كان دائم الفكر متواصل الحزن من أوصاف الصالحين
و أن الله تعالى يحب كل قلب حزين و إذا أحب الله قلبا فصب فيه نائحة من الحزن و لا يسكن الحزن إلا قلبا سليما و قلب ليس فيه الحزن خراب و لو أن محزونا كان في أمة لرحم الله تلك الأمة فقال مصنف هذا الكتاب ليس العجب من أن يكون الإنسان حزينا بل العجب أن يخلو من الحزن ساعة واحدة و كيف لا يكون كذلك و هو يصبح و يمسي على جناح سفر بعيد أول منازله الموت و مورده القبر و مصدره القيامة و موقفه بين يدي الله تعالى أعضاؤه شهوده و جوارحه جنوده و ضمائره عيونه و خلواته عيانه يمسي و يصبح بين نعمة يخاف زوالها و ميتة يخاف حلولها و بلية لا يأمن نزولها مكتوم الأجل مكنون العلل محفوظ العمل صريع بطنته و عبد شهوته و عريف زوجته متعب في كل أحواله حتى في أوقات لذته بين أعداء كثيرة نفسه و الشيطان و الأمل و العائل يطلبونه بالقوت و حاسد يحسده و جار يؤذيه و أهل يقطعونه و قرين سوء يريد حتفه و الموت متوجه إليه و العلل متقاطرة عليه و لقد جمع هذا كله مولانا أمير المؤمنين ع بقوله
عين الدهر تطرف بالمكاره و الناس بين أجفانه
و الله لقد أفضح الدنيا و نعيمها و لذاتها الموت و ما ترك لعاقل فيها
إرشادالقلوب ج : 1 ص : 113
فرحا و لا خلى القيام بالحق للمؤمن في الدنيا صديقا و لا أهلا و لا يكاد من يريد رضا الله تعالى و موالاته يسلم إلا بفراق الناس و لزوم الوحدة و التفرد منهم و البعد عنهم كما قال الله تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أراد سبحانه بالفرار إليه اللجأ من الذنوب و الانقطاع عن الخلق و الاعتماد عليه في كل الأحوال و لا يكاد يعرف الناس من يقاربهم و الوحشة منهم يدل على المعرفة بهم و أوصى حكيم حكيما فقال له لا تتعرف لمن تعرف فقال له يا أخي أنا أزيدك في ذلك و أنكر من تعرف لأنه لا يؤذي الشخص من لا يعرفه و المعرفة بين الرجلين خطر عظيم لوجوه منها قيام الحق بينهما و حفظ كل واحد منهما جانب صاحبه في مواساته و موازاته و عيادته في مرضه و حفظه في غيبته برد غيبته و يخلفه في أهله بأحسن حفظه و خلقه و نصيحته له بغبطته و أن يريد له في كل أحواله كما يريد لنفسه و هذا ثقيل جسيم عظيم لا يكاد يقوم إلا من أيده الله بعصمته و الله لو لا الغفلة و الجهل ما التذ عاقل بعيش و لا مهد فراشا و لا توق له طعاما و لا طوي له ثوبا و كان لا يزال مستوفرا قلقا مقلقا متململا كالأسير في يد من يذبحه و كذلك نحن مع ملك الموت في الدنيا كالغنم و ملك الموت قصابها من المصنف شعر
لا تنسوا الموت في غم و لا فرح و الأرض ذئب و عزرائيل قصاب
و من عجب الدنيا أن يحثو المرء التراب على من يحب و يعلم أنه من قليل يحثا عليه كما حثاه على غيره و ينسى ذلك و أعجب من ذلك أنه يضحك و الله تعالى يقول أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ
و روي أنه كان في الكنز الذي حفظه الله تعالى للغلامين مكتوب عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح و يضحك و عجبت لمن أيقن بالحساب كيف يذنب و عجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن و عجبت لمن عرف الدنيا و تقلبها بأهلها كيف يطمئن عليها و أعقل الناس و أفضلهم المحسن الخائف و أحمقهم و أجلهم مسيء آمن
و قال المصنف كنت في شبيبتي إذا دعوت بالدعاء المقدم على صلاة الليل
إرشادالقلوب ج : 1 ص : 114
و وصلت إلى قوله اللهم إني ذكرت الموت و هول المطلع و الوقوف بين يديك تغصني مطعمي و مشربي و أغصني بريقي و أقلقني عن وسادي و منعني رقادي و أخجل حيث لا أجد هذا كله في نفسي فاستخرجت له وجها يخرجه عن الكذب فأضمرت في نفسي أني أكاد أن يحصل عندي ذلك فلما كبرت السن و ضعفت القوة و ترقب سرعة النقلة إلى دار الوحشة و الغربة ما بقي يندفع هذا عن الخاطر فصرت ربما أرجو حتى أصبح إذا أمسيت و لا أمسي إذا أصبحت و لا إذا مددت خطوة أن أتبعها أخرى و لا أن يكون في فمي لقمة أن أسيغها فصرت أقول إلهي إني إذا ذكرت الموت و هول المطلع و الوقوف بين يديك تغصني مطعمي و مشربي و غصني بريقي و أقلقني عن وسادي و منعني رقادي و نغص علي سهادي و ابتزني راحة فؤادي إلهي و سيدي و مولاي مخافتك أورثتني طول الحزن و نحول الجسد و ألزمتني عظيم الغم و الهم و دوام الكبد و أشغلتني عن الأهل و المال و الصفد و تركتني مسكينا غريبا وحيدا و إن كنت بفناء الأهل و الولد ما أحس بدمعة ترقى من آماقي و زفير يتردد بين صدري و التراقي يا سيدي فرو حزني ببرد عفوك و نفس غمي و همي ببسط رحمتك و مغفرتك فإني لا آمن إلا بالخوف منك و لا أعن إلا بالذل لك و لا أفوز إلا بالثقة بك و التوكل عليك يا أرحم الراحمين و خير الغافرين