عربي
Friday 3rd of May 2024
0
نفر 0

تجليات العقيدة في الممارسة الإنسانية

تجليات العقيدة في الممارسة الإنسانية

تجليات العقيدة في الممارسة الإنسانية
وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ لقد تحدث القرآن عن الإيمان بالغيب الذي يتمثل ب «الإيمان باللّه»، ثم ربطه بالجانب العملي ليفهم منه أن الإيمان الذي يراد في الإسلام ليس هو الإيمان النظري الذي يعيش في فكر الإنسان من خلال المعادلات العقلية المجردة، بل هو الذي يعيش في النفس لينطلق في مجال الحياة العملية، و لهذا كانت الشخصية الإسلامية الإيمانية مرتكزة على الجانب                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 117
 الفكري في العقيدة و الجانب العملي في الممارسة.
و قد طرح القرآن للجانب العملي نموذجين:
أحدهما: يمثل تعبيرا للإنسان عن جانب ممارسته العقدية في حركات تعبيرية، تتجسد فيها معاناته الداخلية للإيمان، و تنسجم فيها روحه مع تطلعاتها و إحساسها الحي بارتباطها العميق باللّه، و ذلك لحاجة التكامل الإيماني لديه إلى الممارسة العملية، و التعبير المتجسد الذي تنساب فيه الإيحاءات الخفية في النفس، من خلال الكلمة و الحركة و الموقف و الشعور، مما يفسح في المجال للنفس لتواجه الموقف الإيماني من عمق الإحساس الذاتي بالفكرة، لا من خلال الإيحاء و التوجيه الخارجي.
إنه موقف العطاء الذي يتفجر كالينبوع من النفس، لا موقف التلقي و الأخذ من عطاء الآخرين، و هذا هو ما تعبر عنه الصلاة في روحيتها المنسابة مع كل كلمة من كلماتها، أو حركة من حركاتها، ليتحسس الإنسان معها العلاقة باللّه، كما لو كانت شيئا يتجسد و يحس و يتحول إلى فعل محبة و عبادة و صداقة، و استغراق للروح في وعي القيم الكبيرة المنطلقة من خلال اللّه، و استشعار لمسؤولياته عن المعاني الكبيرة في الحياة، من خلال الموقف الحق الذي يقفه بين يدي اللّه في استعادته لعملية الإيمان، و ليعيش القوة، أمام نوازع الضعف، و تحديات القوى، لئلا يبقى بعيدا عن مصدر القوة التي تسنده، و تدعم وجوده و موقفه، و ترعاه في كل مجالاته، فيستطيع أن يحقق التماسك و الانضباط بين يدي اللّه.
ثانيهما: ما يؤكده قوله تعالى: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ من تكامل بين علاقة الإنسان باللّه و علاقته بالحياة.
فهذه الآية تؤكد بأن على الإنسان أن يعيش العطاء، فيعطي مما رزقه اللّه، لأن كل ما في الكون هو للّه تعالى، و كلّ ما يقع تحت يديه هو للّه تعالى،                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 118
 لأنه إنما كان له بقدرته تعالى، و بما هيّأ له من الأسباب و الوسائل، و رفع من طريقه العقبات و الموانع، و لذا عليه أن يشعر بأن العطاء، وظيفة و مسئولية لا تفضلا و منّة. فالإنسان مؤتمن على ما ملّكه اللّه تعالى و مكنه منه، و بالتالي على أن يدبره و يديره و يتصرف به وفق مشيئة مالكه الحق، أي اللّه سبحانه و تعالى.
و بذلك يتصاعد الإيحاء، في لفتة رائعة، تنسب المال إلى مصدره الأساس و هو اللّه، ليدرك أنه لا ينفق مما يختص به، أو يملكه ملكا ذاتيا حتى يعيش أنانية العطاء، بل ينفق مما رزقه اللّه. و يتسع الإيحاء في ربط الإنفاق بمصدر العطاء الذي هو اللّه، ليعتبر الإنسان أنه مسئول عن كل ما رزقه اللّه من رزق ليعطيه و ينفق منه على أساس المسؤولية، فليس حرا في أن يفعل به ما يريد كما يريد. و قد نلتقي ببعض الأحاديث المأثورة التي تستوحي من الآية الفكرة التي تمتد بالإنفاق إلى ما هو أبعد من المال، فتتسع المسؤولية لتشمل كل طاقة يملكها الإنسان مما يحتاج إليه الآخرون،
فقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام في مقام تطبيق الآية: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قال: و ممّا علمناهم يبثون» «1»

. و
في حديث آخر: «و ما علمناهم من القرآن يتلون» «2»

، و من الطبيعي أن الإمام الصادق عليه السّلام لا يريد أن يحصر مدلول الآية في إنفاق العلم، لأن مجالها اللغوي أوسع من ذلك، و لأن الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في أمثال هذا السياق ظاهرة في المال أو في ما هو أوسع من المال ... و لكن الظاهر أنه يريد الإيحاء، للذين يفهمون منها المال، أنها تشمل العلم كأسلوب من أساليب التوجيه و التنبيه للآخرين الذين يملكون العلم و لا يبثونه في من يحتاج إليه، على اعتبار أن هذه الصفة من السمات البارزة للشخصية الإيمانية، و هذا ما استوحيناه من سعة المدلول القرآني.
__________________________________________________
 (1) تفسير الميزان، ج: 1، ص: 50.
 (2) م. ن، ج: 1، ص: 50.
                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 119
و نحن نستطيع أن نستوحي منها، أيضا، الإنفاق في مجالات أخرى كإنفاق الجاه و الجهد و الخبرة و غيرها من الطاقات، لنطلب من الآخرين الذين يملكون أمثال ذلك أن لا يحتكروه لأنفسهم، بل أن يبذلوه لمن يحتاجه من الناس.
و ملخّص الفكرة، أن المؤمن يشعر بأنه مسئول عن الإنفاق من كل ما رزقه اللّه من مال أو علم أو جهد أو جاه و غيره، من موقع الواجب لا من موقع التفضل.
و قد يناقش المناقشون في ظهور اللفظ في ذلك، و لكن اللفظ ليس مدلولا لغويا يتجمد المعنى عنده، بل هو إيحاء عميق ممتد في رحاب الحياة، يتسع و يشمل كل ما يتصل به من أجواء و مواقف و أشياء.
الإيمان بالرسالات السماوية، شرط أساس‌
وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، هذه هي الصفة الرابعة من صفات المتقين، و هي صفة الإيمان بالوحي المنزل على النبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لينسجموا في إيمانهم مع كل مفهوم من مفاهيم الإسلام، و مع كل حكم من أحكامه، لئلا يبقى هناك أيّ فراغ فكري أو تشريعي أو روحي يواجه به الإنسان حياته، ليبحث في أفكار الآخرين و تشريعاتهم عما يسد هذا الفراغ، بل يعيش الامتلاء الفكري و الوجداني و القانوني في كل المجالات.
ثم، الإيمان بوحدة الرسالات. فالمؤمنون هم الذين يؤمنون برسالة النبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أنها امتداد للرسالات السابقة التي لم تكن رسالات بشرية، بل هي وحي منزل من اللّه سبحانه و تعالى. و في هذا الجو نشعر بأن                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 120
 الإنسان المسلم لا يعيش أية عقدة نفسية إزاء الرسالات الأخرى كالنصرانية و اليهودية، و لا يرفض مقدساتها الأصيلة، بل الإنسان المسلم هو الذي يؤمن بالأديان الأخرى و بمقدساتها، و لكن ضمن إطارها الزمني الخاص الذي أراد اللَّه للرسالات أن تعيش فيه، لأن الإسلام يعتبر نفسه امتدادا للأديان الأخرى و مكملا لها، كما كان كل دين مكمّلا للدين الذي سبقه. و قد ورد عن المسيح عليه السّلام قوله: «إنما جئت لأكمل الناموس»، و
ورد عن النبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
و قد نستطيع أن نفهم من هذا كله أن الإسلام يجمع الخصائص الأساسية في اليهودية و النصرانية، و في رسالة إبراهيم عليه السّلام و الرسل من قبله، و يحوي- بالإضافة إلى ذلك- خصائص جديدة اقتضتها طبيعة الحاجات التي استحدثتها الحياة بعد انتهاء دور الرسالات. و لذلك، فإن المسلم- كما قلنا- لا يعاني أية عقدة من هذه الجهة، بل قد يعاني من عقدة الانحراف العقيدي و التشريعي الذي وصلت إليه هاتان الديانتان، و هذا ما أظهرته النصوص القرآنية الكثيرة التي حدثتنا عن تحريف التوراة و الإنجيل من قبل أهل الكتاب.
و قد نستنتج من ذلك أن المسلم لا يعيش الروح الطائفية المعقدة تجاه الأديان الأخرى، و ذلك لارتباطه بالمفاهيم الإسلامية الأصلية، و إذا صدرت أحيانا مواقف سلبية تناقض تلك الروح الإسلامية المتسامحة مع الأديان الأخرى، فإنما مردها إلى تعقيدات و ضغوط الواقع السياسي و الاجتماعي الذي يفرز مثل هذه المواقف، و بالتالي فإن السلبيات ليست ناتجة من خلال نظرة المسلم تجاه الدين الآخر أو المقدسات الأخرى، و ذلك على العكس تماما مما نجده عند الآخرين فاليهود مثلا، ينكرون النصرانية و الإسلام كدين، و النصارى ينكرون الإسلام كدين، لذلك نجدهم معقّدين من جهتنا دينيا.
و على ضوء الانفتاح الإسلامي على اليهود و النصارى باعتبارهم أهل                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 121
 كتاب يؤمن به المسلمون من خلال إسلامهم، أطلق القرآن الكريم الدعوة إلى الحوار معهم و ذلك في قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‌ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] باعتبار أن المفاهيم الروحية و الأخلاقية- بالإضافة إلى المسألة التوحيدية في خطها العام- تمثل قاعدة التوافق التي يمكن أن ينطلق معها اللقاء، و يتحرك فيها الحوار، و يرتكز عليها التعايش الذي طرحه الإسلام في علاقة المسلمين بأهل الكتاب.
دور الاعتقاد بالآخرة
وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ الإيقان: هو الاعتقاد. و الإيمان بالآخرة هو الصفة الخامسة من صفات المتقين. و هو من أقوى الأسس العقيدية لبناء الشخصية الإسلامية التقيّة، و سنعرف- في ما نستقبل من آيات- أن قيمة الإيمان باللَّه و اليوم الآخر، هي في تعاظم الشعور بالمسؤولية لدى الإنسان، لأنها تجعل للحياة هدفا، و تمدّ الحياة إلى مجال أبعد من الحياة الحسية التي نمارسها. و بهذا يستطيع الإنسان الارتباط بالمثل العليا ارتباطا أعمق على أساس إيمانه باللَّه و اليوم الآخر، فإذا اجتمعت هذه الصفات في نفس الإنسان و في عمله، أمكن له أن يطمئن إلى أنه يسير على هدى من ربه في ما يفكر و يعمل، و أنه يتحرك في اتجاه الفلاح و النجاح في الدنيا و الآخرة.
أُولئِكَ عَلى‌ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ هؤلاء، الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و ينفقون مما رزقهم اللَّه، يسيرون على طريق الهدى، لأن الإيمان باللَّه يفتح آفاق الحياة أمام الإنسان، و الإيمان بالرسالات يخطط له حياته، أما                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 122
 الإيمان بالآخرة، فيجعل للحياة هدفا كبيرا يمكن للإنسان أن يجاهد من أجله و يسعى إليه.
هذه هي الأسس الثلاثة للعقيدة .. و يتبعها- كما قلنا- المظهران العمليان للعقيدة، و هما: إقامة الصلاة التي تربطه باللَّه و الإنفاق مما رزقه اللَّه الذي يربطه بالحياة.


source : دار العرفان
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

قدمت وعفوك عن مقدمي
نبذة من سيرة الإمام العاشرعلي بن محمّد الهادي ...
الخامس والعشرون من شهر شوال.. ذكرى استشهاد الإمام ...
الخليفة قبل الخليقة:
الأيام الفاطمية
كيف تقضي وقتك في المدينة المنورة
الاعجاز العلمي واللغوي للبحر المسجور
في فضلِ زيارَته (عليه السلام)
البكاء على أهل البيت‏
الأوقات و الحالات التي يرجى فيها الإجابة و ...

 
user comment