عربي
Friday 27th of September 2024
0
نفر 0

إيحاءات الدعاء و دوره التربوي‏

إيحاءات الدعاء و دوره التربوي‏


للدعاء دور تربوي عميق على صعيد التطلع الروحي للإنسان و انفتاحه على اللَّه سبحانه و تعالى، بحيث يعيش الإنسان، في أجواء المناجاة، سرّ التوحيد الإلهي في حركة مشاعره الإنسانية، و في علاقة حاجاته باللَّه و انفصالها عن غيره، في عملية إيحاء داخليّ بأن التوجّه إلى غير اللَّه في حاجاته، حتى في ما يشبه الخطرات الفكرية أو النزعات الغريزية، يمثل لونا من ألوان الإثم الشعوري، الذي يسي‌ء إلى الاستقامة الروحية. و هذا ما نتمثله‌
في دعاء الإمام زين العابدين عليه السّلام في طلب الحوائج إلى اللَّه في «الصحيفة السجادية» حيث يقول: «اللهم يا منتهى مطلب الحاجات، و يا من عنده نيل الطلبات، و يا من لا يبيع نعمه بالأثمان، و يا من لا يكدّر عطاياه بالامتنان، و يا من يستغنى به و لا يستغنى عنه، و يا من يرغب إليه و لا يرغب عنه، و يا من لا تفني خزائنه المسائل، و يا من لا تبدل حكمته الوسائل، و يا من لا تنقطع عنه حوائج المحتاجين، و يا من لا يعنّيه دعاء الداعين.
تمدّحت بالغناء عن خلقك و أنت أهل الغنى عنهم، و نسبتهم إلى الفقر و هم أهل الفقر إليك، فمن حاول سدّ خلّته من عندك، و رام صرف الفقر عن نفسه بك، فقد طلب حاجته في مظانها، و أتى طلبته من وجهها، و من توجّه بحاجته إلى أحد من خلقك، أو جعله سبب نجحها دونك، فقد تعرض للحرمان، و استحقّ من عندك فوت الإحسان.
اللهم، و لي إليك حاجة قد قصر عنها جهدي، و تقطعت دونها حيلي، و سوّلت لي نفسي رفعها إلى من يرفع حوائجه إليك، و لا يستغني في طلباته                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 76
 عنك، و هي زلّة من زلل الخاطئين، و عثرة من عثرات المذنبين، ثم انتبهت، بتذكيرك لي، من غفلتي، و نهضت، بتوفيقك لي، من عثرتي، و قلت: سبحان ربي، كيف يسأل محتاج محتاجا، و أنّى يرغب معدم إلى معدم، فقصدتك، يا إلهي، بالرغبة، و أوفدت عليك رجائي بالثقة بك، و علمت أنّ كثير ما أسألك يسير في وجدك، و أن خطير ما أستوهبك حقير في وسعك، و أن كرمك لا يضيق عن سؤال أحد، و أن يدك بالعطاء أعلى من كل يد» «1».
و هكذا نرى أن هذا الدعاء ينطلق ليركّز في ذهنية الإنسان الفكرة التي تنفتح على الكلي القدرة، الكريم في العطاء، الواسع في النعماء، الذي لا يضيق كرمه عن سؤال أحد، كما أن يده بالعطايا أوسع من كل يد، و الذي يستغنى به و لا يستغنى عنه، و يرغب إليه و لا يرغب عنه. كما ينفتح على الإنسان المحتاج إلى ربه، لأن ذلك ليس شيئا ذاتيا ينطلق من سر الغنى في شخصه، بل هو شي‌ء طارئ، يستمده من عطاء ربه، في ما يمنحه من قدرة، أو يعطيه من إمكانات.
و إذا كان الإنسان كل إنسان، في موقع الحاجة إلى اللَّه، فكيف يتوجّه الإنسان الواعي إلى مثله ليرفع حاجته إليه، و هل ذلك إلّا لون من ألوان الغفلة عن حقيقة الفقر الإنساني أمام حقيقة الغنى الإلهي، بالإضافة إلى أنها زلّة من زلل الخاطئين، و عثرة من عثرات المذنبين، لأنها خطيئة تتصل بالانحراف عن خط الاستقامة في التصور التوحيدي للإنسان، و بالخلل في الوعي الإيماني للحقيقة الإلهية في معنى وجود الإنسان، و حركته، و في سعة القدرة و شموليتها؟! و هكذا تتبلور لدى الإنسان مسألة الاستعانة باللَّه وحده، بعيدا عن الاستعانة بغيره.
__________________________________________________
 (1) الصحيفة السجادية، دعاء الإمام زين العابدين عليه السّلام في طلب الحوائج إلى اللَّه تعالى.
                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 77
إن هذا الدعاء يعالج المسألة في الدائرة الفكرية النظرية على أساس إثارة مسألة الحاجة الذاتية لدى الإنسان في جميع مواقعه و أشكاله، لتكون رادعا عن توجه الإنسان إلى مثله، و غفلته عن توجّهه إلى ربه.
و هناك دعاء آخر، يعالج المسألة في الدائرة الواقعية العملية، على أساس التجربة الحسيّة في مشاهدات الإنسان المؤمن للنماذج البشرية، التي عاشت الانبهار بالقوة الظاهرية لبعض الناس، فاندفعت إليهم لتطلب العزة بهم، و الرفعة من خلالهم، و الثروة بواسطتهم، فكانت النتائج خيبات أمل كبيرة دفعت الإنسان بعيدا عن قضاياه و حاجاته، لأن الذين تطلّع إليهم، و توجّه نحوهم، لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرّا إلّا بإذن اللَّه، فكيف يملكون أن يدفعوه عن غيرهم من دون إذنه، و إذا كانت المسألة مرتبطة باللَّه بشكل مباشر، فلما ذا يبتعدون عنه، و يقتربون من غيره، في ما لا يملكه أحد إلّا هو؟! و هذا هو دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام متفزعا إلى اللَّه، و هو
من أدعية «الصحيفة السجادية»: «اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك، و أقبلت بكلّي عليك، و صرفت وجهي عمن يحتاج إلى رفدك، و قلبت مسألتي عمن لم يستغن عن فضلك ...
فكم قد رأيت، يا إلهي، من أناس طلبوا العزّ بغيرك فذلّوا، و راموا الثروة من سواك فافتقروا، و حاولوا الارتفاع فاتّضعوا، فصحّ بمعاينة أمثالهم حازم وفّقه اعتباره، و أرشده إلى طريق صوابه اختياره، فأنت، يا مولاي، دون كل مسئول موضع مسألتي، و دون كل مطلوب إليه وليّ حاجتي، أنت المخصوص قبل كل مدعوّ بدعوتي، لا يشركك أحد في رجائي، و لا يتفق أحد معك في دعائي، و لا ينظمه و إياك ندائي. لك يا إلهي، وحدانية العدد، و ملكة القدرة الصمد، و من سواك مرحوم في عمره، مغلوب على أمره، مقهور على شأنه، مختلف الحالات متنقّل في الصفات، فتعاليت عن الأشباه و الأضداد، و تكبّرت                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 78
 عن الأمثال و الأنداد، فسبحانك لا إله إلّا أنت» «1».
إنها النظرة إلى واقع الخاضعين للأقوياء و الأغنياء و المستكبرين الذين صغرت نفوسهم أمام مظاهر القوة و الغنى و الكبرياء، و انسحقت حاجاتهم أمام مفردات القدرة لدى كل هؤلاء، فانطلقوا نحوهم في عملية خضوع و استجداء ليمنحوهم العزّة من خلال عزتهم، فازدادوا ذلّا بذلك، أو ليقدّموا لهم الثروة من مواقع غناهم، فازدادوا فقرا بذلك، أو ليرفعوهم إلى مواقع السموّ و العلو، من خلال علوّهم، فازدادوا سقوطا و انحطاطا.
و هكذا كان هذا الواقع مصدر فكر للإنسان المؤمن الواعي، الذي استطاع أن يعرف طريق الرشد و الصواب، ليختار السير فيه، و ليصل إلى النتيجة الحاسمة في توحيد اللَّه على مستوى الألوهية و العبادة و المعونة. و من خلال هذه التجربة الحيّة، تنفتح للإنسان الواعي الباحث عن الحقيقة آفاق جديدة، فيحرّكه الواقع من حوله، ليكتشف فيها الكثير الكثير من صدق العناوين الروحية في العقيدة التي تطل على الحياة، لتشير إلى الكثير من مفرداتها التي يتحرك فيها صدق العنوان في وجود المعنون، و حقيقة المفهوم في واقع المصداق، فلا يتيه الإنسان في أجواء التجريد الفكري، بل يجد في كل موقع من مواقع الحياة بعض الحركة التي تتفتّح فيها كل مواقع الإحساس لديه بالصدق في الفكر و الشعور، الأمر الذي يجعلنا نشعر بأنّ الروح في معانيه العقيدية ليس غيبا من الغيب، بل هو حالة في ضمير الحياة و إحساس الواقع.
__________________________________________________
 (1) الصحيفة السجادية، دعاؤه متفزعا إلى اللَّه عز و جل.
                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 79


source : دار العرفان
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أهل البيت أساتذة القرآن الكريم‏ (للعلامة ...
كيف تعامل الإسلام مع الجسد؟
حوار معاصر مع عبد الله الرضيع عليه السلام
ماهية الصلاة البتراء والأحاديث الناهية عنها عند ...
علماء الشيعة والتشبيه
محطات قدسيّة .. في عالم النور
زيارة أم البنين عليها السلام
دعاء الليلة العاشرة من شهر رمضان المبارک
يوم المباهلة
شفاء النفوس من خلال الهدى القرآني

 
user comment