عربي
Tuesday 7th of May 2024
0
نفر 0

أمثولة المروءة والإيثار

أمثولة المروءة والإيثار

أمثولة المروءة والإيثار
الفضائل الاخلاقیه /ناصر مکاریان

يعتبر تقديم النموذج من أفضل أساليب التربية، وذلك لأن تأثير الشخصية القدوة أشد بمراتب من سائر الأساليب في تشكيل شخصية المتربي وسلوكه. وقد اهتم الإسلام كثيراً أيضاً بهذا الأسلوب، وقد خصص القرآن الكريم قسماً من آياته المباركة للتعريف بالرجال والنساء الموحدين الذين لم يتزلزلوا، والذين تجلّت أهليتهم وشخصيتهم في الظروف المختلفة، وأثبتوا بذلك التزامهم بالحق.

وللوقوف على هذا الأمر المهم فإنني أسعى في هذه الكتابات لعرض نماذج من الإيثار والمروءة لبعض الأشخاص مما يفتح أمام المتفكرين نافذة نحو الكمال والفلاح من خلال التأمل والتدقيق فيها.

قم _ ناصر مكاريان

 

محمد ابن أبي عمير أمثولة المروءة والإيثار

محمد بن زياد وهو محمد بن أبي عمير أحد الفقهاء البارزين، وأحد الرواة المعتمدين للشيعة، وباعتراف علماء السنة والشيعة فإنه أحد أتقى الناس وأخوفهم من الله في عصره. وقد وُلد في بغداد وسكن فيها واشتغل فيها بزازاً. وقد أدرك إمامة ثلاثة من الأئمة (ع) هم الإمام الكاظم والإمام الرضا والإمام الجواد (ع)، ونهل من علوم تلك الأنوار الإلهية.

وبحسب نقل الكشي فإنه كان أحد أصحاب الإجماع، بمعنى أنه كان موضع تأييد وتصديق الأصحاب والعلماء الشيعة، وأنهم قد أقروا واعترفوا بفقاهته وعلمه، وأنهم كانوا يتعاملون مع الروايات التي تصلهم عنه كما يتعاملون مع الروايات الصحيحة[1].

كما أنه قام بتأليف كتب كثيرة في المجالات المختلفة الفقهية والكلامية وغيرها، وقد بلغت مصنفاته كما يقال 94 كتاباً.

لقد تحمل ابن أبي عمير متاعب ومصائب كثيرة في طريق الدفاع عن المذهب الشيعي، فقد صودرت أمواله، وأمضى من عمره في السجن أربع سنوات بحسب نقل النجاشي وسبعة عشر عاماً بحسب نقل الشيخ المفيد في كتاب الاختصاص. وقد تعرض للتعذيب والضرب بالسياط كي يرجع عن مسيره، ولكن إرادته الفولاذية أدخلت اليأس في قلوب القائمين على تعذيبه. وبحسب نقل بعض الأقوال فإن سبب حبسه أنه قد عُرض عليه منصب القضاء في زمن هارون الرشيد أو في زمن المأمون العباسي، ولكنه امتنع عن قبوله، وقد ورد في بعض الأقوال الأخرى أن سبب حبسه أنه قد طُلب منه التعريف بالشيعة وأصحاب الإمام الكاظم (ع) ولكنه امتنع عن ذلك.

وقد نُقل أن السندي بن شاهك قد ضربه أكثر من مائة سوط على بدنه مما أصابه بالوهن نتيجة ذلك وكاد أن يبوح بأسماء البعض تحت التعذيب، ولكنه سمع فجأة صوت محمد بن يونس بن عبد الرحمن يقول له: اتق الله واذكر موقفك أمام الله يوم القيامة وماذا سيكون جوابك. مما جعله يتحمل السياط ولم يذكر اسم أحد إلى أن فرّج الله عنه واستطاع الخروج من الحبس بعد أن دفع مبلغاً كبيراً من المال للحكومة.

وبحسب أحد الأقوال فإن أخته سعيدة أو آمنة قامت أثناء حبسه بجمع كتب أخيها ووضعتها في غرفة، ولكن قسماً كبيراً منها أصابه التلف على أثر وصول ماء المطر إليها، وبحسب قول آخر فإن الكتب قد تلفت لأنها كانت قد دفنتها تحت التراب.

وقد قام ابن أبي عمير بعد خروجه من السجن بنقل الروايات التي بقيت في ذاكرته بغرض إحياء أحاديث الأئمة الطاهرين (ع)، كما أنه نقل أيضاً في بعض الموارد روايات من النسخ التي كان الرواة قد نسخوها من كتبه قبل تلفها. ولهذا السبب فإن علماء الشيعة يتلقون رواياته المرسلة كالروايات المسندة، وبحسب نقل النجاشي، وهو الرجالي الشيعي المعروف؛ فإن الأصحاب كانوا يعتمدون على رواياته المرسلة التي سقط قسم من سندها.

وكان من الواضح أن تتعرض أوضاعه الاقتصادية للاضطراب والخلل، وذلك بسبب الحبس والحرمان من العمل والكسب، ومصادرة الحكومة لأمواله. وقد نقلوا أنه كان له دين يبلغ عشرة آلاف درهم على شخص، وعندما شاهد ذلك الشخص حال الفقر والعجز التي وصل إليها ابن أبي عمير قام ببيع داره وأحضر المال إلى ابن أبي عمير قائلاً: هذا هو مالك الذي لك عليّ. فأجابه ابن أبي عمير: من أين أتيت بهذا المال؟. هل وصلك من إرث أو وهبك إياه أحدهم؟. فقال: ليس ذلك. فسأله: فمن أين لك هذا؟. فقال: كانت لي دار أسكنها أنا وعيالي، وعندما رأيت حالك المزرية قمت ببيع داري كي أوفيك حقك وتستعين به. فقال له ابن أبي عمير: لقد نقل لي ذُريح المحاربي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: لا يُخرج الرجل عن مسقط رأسه بالدّين فخذ مالك، فوالله رغم حاجتي حتى إلى درهم من هذا المال، ولكنني لا آخذه منك[2].

طوبى لأمثال هؤلاء الناس النجباء والمضحين الذين لا يقبلون برفع غبار الغم والحزن عن وجوههم من خلال وضعه على وجوه الآخرين.

لقد كان ابن أبي عمير مضافاً إلى مكانته العلمية والاجتماعية شخصاً تقياً عابداً، فقد روى الفضل بن شاذان وهو من رواة الشيعة الكبار: دخلت العراق فرأيت واحداً يعاتب صاحبه، ويقول له: أنت رجل عليك عيال وتحتاج أن تكتسب عليهم، وما آمن أن تذهب عيناك لطول سجودك، فلما أكثر عليه، قال: أكثرت عليّ ويحك، لو ذهبت عين أحد من السجود لذهبت عين ابن أبي عمير، ما ظنك برجل سجد سجدة الشكر بعد صلاة الفجر فما رفع رأسه إلا عند زوال الشمس[3].

وعلى كل حال فإن هذا الراوي الموثق والفقيه الصالح والتقي قد رحل عن الدنيا بعد عمر مليء بالمشقة وذلك في عام 217 هجري قمري[4].

 

[1]_ الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (المعروف برجال الكشي)، طبعة جامعة مشهد، ص 556، رقم 1050.

[2]_ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 190، ح 4715.

[3]_ رجال الكشي، ص 591 و 592، رقم 1106.

[4]_ يراجع: المفيد، محمد بن محمد بن النعمان، الاختصاص، ص 86؛ النجاشي، أحمد، رجال النجاشي، طبعة جماعة المدرسين، ص 326 و 327، رقم 887؛ الطوسي، محمد بن الحسن، الفهرست، طبعة منشورات الشريف الرضي، قم، ص 142 و 143، رقم 607؛ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي، ص 488، رقم 26؛ رجال الكشي، ص 589 _ 592، الأرقام 1104 إلى 1107؛ الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث، ج 14، ص 279 _ 286، رقم 10018؛ الغفاري، علي أكبر، ترجمة من لا يحضره الفقيه، منشورات صدوق، طهران، ج 1، ص 16.


source : موقع موسسة الامام الصادق
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

زيارة عاشوراء
ا الانتصــار.. الصــوره والآثــار
نهي الرسول صلى الله عليه وآله عن الصلاة البتراء
الاختلاف في اسم أبيه:
مظاهر هجر القرآن
الشیعه «یغزون الاندلس»
انطباعات عن شخصية الإمام الحسن العسكري ( عليه ...
ما يستحب إتيانه في ليالي شهر رمضان
شبهة المستشرقين حول الوحي
وصايا الشهداء كلمات من نور

 
user comment