روى الحارث بن أبي أُسامة في مسنده، عن عروة بن الزبير، مرسلاً: خديجـة خير نساء عالَمها، ومريم خير نساء عالَمها، وفاطمـة خير نسـاء عالَمها. (1)
وأخـرج البخاري عن المسور بن مخرمة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني. (2)
قال المناوي: استدلّ به السهيلي على أنّ من سبّها عليها السلام كفر، لاَنّه يغضبه صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّها أفضل من الشيخين(3)
وأخـرج الحاكم عن أبي سعيد الخدري، أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: فاطمـة سيّدة نساء أهل الجنّة إلاّ مريم بنت عمران. (4)
قال في «فيض القدير»: فعُلِم أنّها أفضل من عائشة لكونها بضعة منه صلى الله عليه وآله وسلم ، وخالف فيه بعضهم. (5)
قال السبكي: الذي نختاره وندين الله به أنّ فاطمـة أفضل ثمّ خديجـة ثمّ عائشة، ولم يَخْفَ عنّا الخلاف في ذلك، ولكن إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
قال المناوي(6): قال الشيخ شهاب الدين بن حجر الهيتمي: ولوضوح ما قاله السبكي تبعه عليه المحقّقون، وممّن تبعه عليه الحافظ أبو الفضل بن حجر، فقال في موضع: هي مقدَّمة علي غيرها مِن نساء عصرها، ومَن بعدهنّ مطلقاً. انتهى.
وأخـرج ابن جرير الطبري عن فاطمة عليها السلام ، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنتِ سيّدة نساء أهل الجنّة إلاّ مريم البتول. (7)
تـنـبـيـه:
إعلم أنّ (إلاّ) في الحديثين ليست للاسـتثناء، بل هي عاطفة بمنزلة (الواو) في التشريك في اللفظ والمعنى، كما في قوله تعالى: (لئلاّ يكون للناس عليكم حجّةٌ إلاّ الّذين ظلموا منهم)(8) وقوله تعالى: (لا يخاف لديّ المرسلون * إلاّ من ظلم ثمّ بدّل حسناً بعد سوء)(9)
أي: ولا الّذين ظلموا، ولا مَن ظلم، وهو مذهب الاَخفش والفرّاء وأبي عبيدة، كما حكاه ابن هشام في (المغني)(10)
وهذه الاَحاديث صريحة في تفضيل الصدّيقة الطاهرة عليها السلام على عائشة في الدنيا والآخرة، مع أنّك ترى أنّه لم يجرِ لاَُمّ المؤمنين ذِكرٌ في شيء من هذه الاَحاديث، فضلاً عن تفضيلها. بل الحقّ الذي ندين الله به أنّ البضعة الشريفة أفضل النساء على الاِطلاق، حتّى أُمّها رضي الله عنها، وعليه انعقد إجماع أهل الحقّ قاطبةً.
وقد ذكر الحافظ العسقلاني في «فتح الباري»(11) أنّ حديث ابن عبّاس رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «أفضل نساء أهل الجنّة خديجـة بنت خويلد وفاطمـة بنت محمّـد ومريم بنت عمران وآسـية امرأة فرعون» يقتضي أفضليّة خديجـة على غيرها.
وكذا ما أخرجه البخاري عن عليٍ عليه السلام قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة».
وقال الشهاب القسطلاني في «إرشاد الساري»(12): روى النسائي من حديث داود بن أبي الفرات، عن عليّ بن أحمد السكّري، عن عكرمة، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: أفضل نساء أهل الجنّة خديجـة بنت خويلـد وفاطمـة بنت محمّـد صلى الله عليه وآله وسلم .
قال: وداود بن أبي الفرات وعليّ بن أحمد ثقتان، فالحديث صحيح، وهو صريح في أنّ فاطمـة وأُمّها أفضل نساء أهل الجنّة. انتهى.
وقد مرّ في الاَحاديث مايدلّ على تفضيل فاطمة عليها السلام على أُمّها، وكذا ما رواه البخاري في صحيحه(13): «فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة»، فانحصرت الاَفضلية المطلقة على النساء بفاطمة الزهراء عليها آلاف التحيّة والثناء.
وأمّا ما روي عن ابن عبّاس مرفوعاً: سيّدة نساء العالمين ـ وفي رواية: سيّدة نساء أهل الجنّة ـ مريم ثمّ فاطمة ثمّ خديجة ثمّ آسية(14)، فقد قال الحافظ ابن حجر في (الفتح)(15): إنّ هذا الحديث ليس بثابت، وأصله عند أبي داود والحاكم بغير صيغة ترتيب. انتهى.
وكذا ما روي عنه مرفوعاً: سيّدة نساء أهل الجنّة بعد مريم بنت عمران؛ فاطمة بنت محمّـد وخديجـة وآسية امرأة فرعون(16)
فإنّ الاَدلّة الاَخرى التي هي أكثر عدداً وأصحّ سنداً وأصرح دلالةً من هذا الحديث ونحوه توجب الاِعراض عمّا يُستشعـر منـه تـفضيـل العذراء على الزهراء عليهما السلام كما أفاده في «الكلمة الغرّاء»(17)
هـذا، وقد صرّح جمع من الاَئمّة الاَعلام ومشايخ الاِسلام بتفضيل بضعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على عائشة ومَن سواها، فلا بأس أن نسرد هنا طرفاً ممّا وقفنا عليه من كلامهم في ذلك، لينجلي لك الحقّ وضوحاً، ويزداد أهل الباطل فضوحاً.
قال الاِمام مالك بن أنس الاَصبحي ـ إمام دار الهجرة ـ: لا أُفضّل أحداً على بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (18)
وقال العلقمي: فاطمة وأخوها إبراهيم أفضل من جميع الصحب، لِما فيهما من البضعة الشريفة(19)
وذكر علم الدين العراقي: أنّ فاطمة وأخاها إبراهيم أفضل من الخلفاء الاَربعة بالاتّفاق(20)
وقال ابن قيّم الجوزيّة: إنْ أُريد بالتفضيل كثرة الثواب عند الله فذلك أمر لا يطّلع عليه إلاّ هو، فإنّ عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح، وإنْ أُريد كثرة العلم فعائشة لا محالة، وإنْ أُريد شرف الاَصل ففاطمة لا محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فها غير أخواتها، وإنْ أُريد شرف السيادة فقد ثبت النصّ لفاطمـة وحدها(21)
وقال ابن حجر: قد ورد من طريق صحيح ما يقتضي أفضليّـة خديجـة وفاطمـة على غيرهما(22)
قلـت:وقد تقدّم آنفاً كلام له في تقديم فاطمـة عليها السلام على غيرها من نساء عصرها ومَن بعدهنّ، فراجع ثمّة إن شئت.
وقال السيوطي ـ في جواب من سأله عن عائشة وفاطمـة أيّهما أفضل؟ ـ: فيه ثلاثة مذاهب، أصحّها أنّ فاطمـة رضي الله عنها أفضل(23)
وقال ابن داود: فاطمة بضعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فلا نعدل بها أحداً(24)
وقد مرّ عليك قول الاِمام تقي الدين السبكي: الذي نختاره وندين الله به أنّ فاطمـة أفضل ثمّ خديجـة ثمّ عائشة، ولم يَخْفَ عنّا الخلاف في
ذلك، ولكن إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.وقال المناوي في «إتحاف السائل»: أمّا نساء هذه الاَمّة فلا ريب في تفضيلها عليهنّ مطلقاً، بل صرّح غير واحد أنّها وأخوها إبراهيم أفضل من جميع الصحابة حتّى الخلفاء الاَربعة. (25)
وقال الشيخ العلاّمة أبو الثناء شهاب الدين الآلوسي البغدادي: الذي أميل إليه أنّ فاطمة البتول أفضل النساء المتقدّمات والمتأخّرات، من حيث إنّها بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بل ومن حيثيّات أُخر أيضاً، إذ البضعية من روح الوجود وسيّد كلّ موجود، لا أراها تُقابَل بشيء.
قال: ومن هنا يُعلم تفضيلها على عائشة؛ ثمّ قال ـ بعد كلام له في المسألة ـ: وبعد هذا كلّه، الذي يدور في خَلَدي أنّ أفضل النساء فاطمـة ثمّ أُمّها ثمّ عائشة، بل لو قال قائل: إنّ سائر بنات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من عائشة لا أرى عليه بأساً، وعندي بين مريم وفاطمـة توقّف، نظراً للاَفضلية المطلقة، وأمّا بالنظر إلى الحيثية فقد علمتَ ما أميل إليه. انتهى(26)
ينبغي التوقّف في ذلك، فقد حكى المناوي في «فيض القدير» عن السيوطي أنّه قال في حديث «فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة»: فيه دلالة على فضلها على مريم سيّما إنْ قلنا بالاَصحّ من أنّها غير نبيّة. (27)
وقد تُقَرَّر أفضليّـة الزهـراء على العـذراء عليهما السلام بأنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة إنّها سيّدة نساء أهل الجنّة، أي من هذه الاَمّة المحمّـديّة، وقد ثبتت أفضلية هذه الاَُمّة على غيرها، فتكون فاطمـة ـ على هذا ـ أفضل من مريم وآسية(28) ، والله تعالى أعلم.
وقال الآلوسي أيضاً في موضع من «روح المعاني»(29): لا أقول بأنّ عائشة أفضل من بضعته صلى الله عليه وآله وسلم الكريمة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها، والوجه لا يخفى.وقال في موضع آخر منه(30): إنّ فاطمة من حيث البضعية لا يعدلها أحـد. انتهى.
وممّن صرّح بأفضليّتها على نساء الدنيا حتّى مريم عليها السلام تقي الدين المقريزي وبدر الدين الزركشي والشيخ العلاّمة أحمد بن زيني بن دحلان مفتي الشافعية بالحرمين الشريفين، وهو اختيار الحافظ السيوطي في كتابيه: «شرح النقاية» و «شرح جمع الجوامع» ـ كما في السيرة الدحلانية(31) ـ.هذا كلّه مضافاً إلى ما حُكي من انعقاد الاِجماع على أفضلية فاطمـة عليها الصلاة والسلام ـ كما حكاه الحافظ ابن حجر في (الفتح)(32) ـ.وأمّا عائشة بنت أبي بكر، فلم يرد نصٌّ بتفضيلها على بضعة الرسول فاطمة الزهراء البتول كما أشار إلى ذلك عليّ بن عثمان الاَوشي الحنفي في «بدء الاَمالي» حيث قال:
ولـلـصـدّيـقـة الـرجـحـان فاعـلـم **** على الزهراء في بعض الخلال
قال القاري في «ضوء المعالي»(33): اعلم أنّ المصنّف أراد أنّه لم يرد نصٌّ بتفضيل عائشة على فاطمـة، وإنّما ورد رجحانها عليها من جهة كثرة الرواية والدراية. انتهى.
هـذا مع كونه اجتهاداً في مقابل النصّ الصحيح الصريح، فإنّه سيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى.
نعـم، ذهب أبو حنيفة ـ صاحب المذهب ـ إلى القول بتفضيل عائشة حيث قال: عائشة أفضل نساء المؤمنين(34)
لكن مرّ عن الاَكمل أنّه نقل عن أبي حنيفة أنّ أفضليّتها بعد خديجـة، وقد قرّرنا لك آنفاً أنّ فاطمـة الزهراء عليها السلام أفضل نساء العالمين على الاِطلاق، حتّى أُمّها خديجة رضي الله تعالى عنها.
وقال محمّـد بن سليمان الحلبي في «نخبة اللآلي لشرح بدء الاَمالي»: إنّ عائشة أفضل نساء العالمين مطلقاً، وأحبّ النساء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وأعلمهنّ بالسُـنّة. انتهى.
واعلم أنّ عمدة ما عندهم في ذلك وجوه زائفة وحجج داحضة، ذكرها الشهاب الآلوسي الحنفي وأجاب عنها، وهي ثلاثة:
أوّلها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «خذوا ثلثي دينكم عن الحميراء» وفي لفظ:«خذوا شطر دينكم عن الحميراء».
والجواب: أنّ حديث «خذوا شطر دينكم...» قال فيه الحافظ ابن حجر العسقلاني في تخريج ابن الحاجب: لا أعرف له إسناداً، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلاّ في «النهاية» لابن الاَثير، ذكره في مادّة ح م ر، ولم يذكر من خرّجه.
وقال السخاوي: ورأيته أيضاً في كتاب «الفردوس» لكن بغير لفظه، وذكره من حديث أنس بغير إسناد أيضاً، ولفظه «خذوا ثلث دينكم من بيت الحميراء» وبيّض له صاحب «مسند الفردوس» فلم يخرّج له إسناداً، وذكر الحافظ عماد الدين بن كثير أنّه سأل الحافظَين المزّي والذهبي عنه فلم يعرفاه(35). انتهى.
وقال السيوطي: لم أقف عليه(36)
وأمّا الحديث الآخر، فعلى تقدير ثبوته فإنّ قصارى ما فيه إثبات أنّها عالمة إلى حيث يؤخذ منها ثلثا الدِين، وهذا لا يدلّ على نفي العلم المماثل لعلمها عن بضعته عليه الصلاة والسلام، ولعلمه صلى الله عليه وآله وسلم أنّها لا تبقى بعده زمناً معتدّاً به يمكن أخذ الدِين منها فيه، لم يقل فيها ذلك، ولو علم لربّما قال: خذو كلّ دينكم عن الزهراء، وعدم هذا القول في حقّ من دلّ العقل والنقل على علمه لا يدلّ على مفضوليّته، وإلاّ لكانت عائشة أفضل من أبيها، لاَنّه لم يُرْوَ عنه إلاّ قليل لقلّة لبثه وكثرة غائلته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .على أنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّي تركت فيكم الثقلين، كتاب الله تعالى وعترتي، لا يفترقان حتّى يَرِدا علَيَّ الحوض» يقوم مقام ذلك الخبر وزيادة ـ كما لا يخفى ـ كيف لا؟! وفاطمة رضي الله تعالى عنها سيّدة تلك العترة.انتهى كلام الآلوسي.
وقد ظهر لك بهذا وجه النظر فيما تقدّم من كلام ابن القيّم، حيث قال: إنْ أُريد بالتفضيل كثرة العلم فعائشة لا محالة؛ مضافاً إلى تعقّب الحافظ ابن حجر له ـ كما سلف ـ فتنـبّه.
ثانيهـا: قوله صلى الله عليه وآله وسلم ـ في مـا أخرجـه الشـيخان وأحمـد، عن أنـس وأبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، أنّه قال ـ: فضـل عائشة على النسـاء كفضـل الثريد على سائر الطعام.
تقريب الاستدلال: أنّ الثريد أفضل طعام العرب، وأنّه مركّب من الخبز واللحم، فهو جامع بين الغذاء واللذّة وسهولة التناول وغير ذلك، فضرب صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة المثل به ليُعلم أنّها أُعطيت حسن الخلق والخلق والحديث وحلاوة المنطق وجودة القريحة ورزانة الرأي ورصانة العقل، إلى غير ذلك.
وفيـه:
أوّلاً: أنّ هذا الحديث ظاهر الوضع، بيّن الاختلاق والحزازة، إذ لا يحسن نسبة هذا التشبيه الواهي إلى من أُوتي جوامع الكلم وكان أفصح من نطق بالضاد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.
وكيف لا يجزم بكذبه وبطلانه من عرف طريقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في لطف كلامه وحسن بيانه وبديع تشبيهاته؟!
وأين هو من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «فاطمة سيّدة نساء العالمين»؟! ـ كما قال العلاّمة ابن المظفّر رحمه الله في «دلائل الصدق»(37)
وثانياً: أنّه على تقدير تسـليمه لا يسـتلزم ثبوت الاَفضلية المطلقـة ـ كما صرّح به شيخ الاِسلام الحافظ ابن حجر في موضعين من «شرح البخاري(38)
وثالثاً: أنّ أفضليّتها ـ على تقدير تسليمها ـ مقيّدة بنساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى لا يدخل فيها مثل فاطمة عليها الصلاة والسلام، جمعاً بين هذا الحديث وحديث: «أفضل نساء أهل الجنّة خديجـة وفاطمـة» ـ كما أشار إليه ابن حبّان(39) ـ وقد قضينا الوَطَر فيما سلف من الكلام على ذلك.وقال المناوي في شرح هذا الحديث في «فيض القدير»(40): (على النساء) أي على نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الّذين(41) في زمانها، ومن أطلق نساءَه ورد عليه خديجـة، وهي رضي الله عنها أفضل من عائشة على الصواب، لتصريح المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه لم يُرزق خيراً من خديجـة، ولخبر ابن أبي شيبة: «فاطمـة سيّدة نساء أهل الجنّة بعد مريم وآسية وخديجـة» فإذا فضلت فاطمـةَ فعائشة أَوْلى، ومن قَيّد بنساء زمنها ورد عليه فاطمـة، وفي شأنها قال أبوها ما سمعت.
قال: وقد قال جمع من السلف والخلف لا نعدل ببضعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أحداً، قال البعض: وبه يُعلم أنّ بقيّة أولاده كفاطمـة رضي الله عنها. انتهى.
ثمّ رأيت أنّ ابن أبي الحديد المعتزلي قد ذكر في «شرح نهج البلاغة»(42)َ: أنّ أصحابه يحملون لفظة (النساء) في هذا الخبر على زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم ، لاَنّ فاطمة عليها السلام عندهم أفضل منها ـ يعني عائشة ـ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّها سيّدة نساء العالمين».
ورابعاً: أنّ هذا الحديث معارَض بما يدلّ على أفضلية غير عائشة عليها، فقد أخرج ابن جرير، عن عمّار بن سعد، أنّه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «فضلت خديجـة على نساء أُمّتي كما فضلت مريم على نساء العالمين» بل هذا الحديث أظهر في الاَفضلية وأكمل في المدح عند من انجاب عن عين بصيرته عين التعصّب والتعسّف ـ كما قال الآلوسي(43)
وقال أيضاً: أشكل ما في هذا الباب حديث الثريد، ولعلّ كثرة الاَخبار الناطقة بخلافه تهوّن تأويله، وتأويل واحد لِكثير أهون من تأويل كثيرٍ لواحد، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.
ثالثها: أنّ عائشة يوم القيامة في الجنّة مع زوجها صلى الله عليه وآله وسلم (44) وفاطمـة عليها السلام يومئذٍ مع زوجها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام، وفرق عظيم بين مقام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومقام ابن عمّه عليه السلام ، وهو قول أبي محمّـد ابن حزم، وفساده ظاهر ـ كما قال ابن حجر(45) ـ وقال الشيخ تقي الدين السبكي: هو قول ساقط مردود.
وأنت تعلم أنّ هذا الدليل يستدعي أن تكون سائر زوجات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من الاَنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، لاَنّ مقامهم ـ بلا ريب ـ ليس كمقام صاحب المقام المحمود صلى الله عليه وآله وسلم ، فلو كانت الشركة في المنزل مستدعية للاَفضلية لزم ذلك قطعاً، ولا قائل به ـ كما أفاده الشهاب الآلوسي(46)
على أنّ ذلك معارَض بما أخرجه الاِمام أحمد(47) عن عبد الرحمن الاَزرق، عن عليٍ عليه السلام ، قال: دخل علَيَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا نائم على المنامة، فاستسقى الحسن أو الحسين، قال: فقام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى شاة لنا بكيء فحلبها فدرّت، فجاءه الحسن فنحّاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالت فاطمة: يا رسول الله، كأنّ أخاه أحبّهما إليك، قال: لا، ولكنّه استسقى قبله، ثمّ قال: إنّي وإيّاكِ وهذين وهذا الراقد في مكان واحد يوم القيامة.
هـذا، وإنّ من تصفّح أحوال عائشة وتتبّع سيرتها أذعن بأنّها لا ينبغي أن تكون طرف تفضيل، فضلاً عن الخوض في تفاضلها مع الحوراء الاِنسـيّة، التي جوهرتها من شجرة قدسيّة(48)
وهل يكون الفضل جزافاً؟! وقد خالفت أمر الله في كتابه بقرارها في بيتها، وخرجت على إمام زمانها الذي جعل صلى الله عليه وآله وسلم حربه حربه(49) وجاهرت بعداوته وقد قال فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : عادى الله من عادى عليّـاً(50) واستمرّت على بغضه، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بغضه أمارة النفاق، حيث قال: «لا يحبّ عليّـاً منافق، ولا يبغضه مؤمن»(51)
وكيف تكون أفضل النساء؟! وقد ضرب الله سبحانه مثلها ومثل صاحبتها في كتابه المجيد بقوله تعالى: (ضرب الله مثلاً للّذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين)(52)
فتدبّروا يا أُولي الاَلباب في أحاديث السُـنّة وآيات الكتاب، واعرفوا الحقّ لاَهله، كي تكونوا من أهله إن شاء الله.
(سبحان ربّك ربّ العزة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين).
المصادر :
1- فيض القدير 3/432، قال المناوي: قالوا: وهو مرسَل صحيح
2- صحيح البخاري 5/26 ـ كتاب فضائل الصحابة ـ باب مناقب فاطمـة عليها السلام . وراجع: فضائل الخمسة 3/184 ـ 188
3- فيض القدير 4/421، فتح الباري 7/132
4- المستدرك على الصحيحين 3/154
5- فيض القدير 4/421 ـ 422، وقال في إتحاف السائل: 85: فعُلِم أنّها أفضل من أُمّها خديجـة، وما وقع في الاَخبار ممّا يوهم أفضليّتها فإنّما هو من حيث الاَمومة فقط، وعلى عائشة على الصحيح، بل الصواب
6- إتحاف السائل: 85 ـ 86
7- جامع البيان في تفسير القرآن 3/181
8- سورة البقرة 2: 150
9- سورة النمل 27: 10 و 11
10- مغني اللبيب عن كتب الاَعاريب 1/101 ـ الباب الاَوّل ـ مبحث (إلاّ) بالكسر والتشـديد
11- فتح الباري 6/515
12- إرشاد الساري 6/141
13- صحيح البخاري 5/25 ـ كتاب فضائل الصحابة ـ باب مناقب فاطمة عليها السلام ، إرشاد الساري 6/141
14- الاستيعاب 4/285 و 376
15- فتح الباري 7/168
16- الاستيعاب 4/286
17- الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء عليها السلام: 241
18- مرقاة المفاتيح 5/592
19- فيض القدير 2/53
20- فيض القدير 4/422
21- فتح الباري 7/136، فيض القدير 4/297
22- فتح الباري 6/515
23- الحاوي للفتاوي 2/99
24- مرقاة المفاتيح 5/348، شرح الفقه الاَكبر: 219
25- إتحاف السائل: 87
26- روح المعاني 3/155
27- فيض القدير 1/105
28- إرشاد الساري 6/141، السيرة النبوية ـ لابن دحلان ـ 1/222
29- روح المعاني 18/132
30- روح المعاني 28/165
31- السيرة النبوية 1/222
32- فتح الباري 7/136
33- ضوء المعالي ـ شرح بدء الاَمالي ـ: 26
34- الفقه الاَكبر ـ المطبوع مع شرح القاري ـ: 200
35- المقاصد الحسنة: 321 ح 432
36- مرقاة المفاتيح 5/616
37- دلائل الصدق 2/368
38- فتح الباري 6/515 و 7/135
39- فتح الباري 7/135
40- فيض القدير 2/461
41- كذا، والصواب لغةً: اللاتي أو اللائي
42- شرح نهج البلاغة 14/23
43- روح المعاني 3/156
44- كما أخرج ابن سعد عن مسلم البطين مرسلاً: عائشة زوجتي في الجنّة؛ ورمز السيوطي في «الجامع الصغير» لضعفه
45- فتح الباري 7/173
46- روح المعاني 3/156
47- مسند أحمد 1/101
48- الدرّ المنثور 4/153، المستدرك على الصحيحين 3/156، ذخائر العقبى: 36 و 44، تاريخ بغداد 5/87، فضائل الخمسة من الصحاح الستّة 3/152 و 154
49- عن زيد بن أرقم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعليٍ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام : أنا حرب لمن حاربهم، وسلم لمن سالمهم؛ رواه الترمذي. ورواه ابن ماجة في سننه بلفظ: أنا سلم لمن سالمتم، وحرب لمن حاربتم.
50- أُسد الغابة 2/194، الاِصابة 1/501، كنز العمّال 6/152، كنوز الحقائق ـ للمنّاوي ـ: 88، الجامع الصغير ـ للسيوطي ـ، وروى الحاكم في المستدرك 3/127 بسنده عن ابن عبّاس قال: نظر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليٍ عليه السلام فقال: يا عليّ، أنت سيّد في الدنيا وسيّد فيالآخرة، حبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب الله، وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدوّ الله، والويل لمن أبغضك بعدي. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين
51- أخرجه الترمذي عن أُمّ سلمة رضي الله تعالى عنها 5/635 ح 3717، وأخرج مسلم في صحيحه 1/86 ح 131 عن عليٍ عليه السلام ، قال: والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، إنّه لعهد النبيّ الاَمّي إليَّ أن لا يحبّني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافق.وراجع في ذلك: فضائل الخمسة 2/230 ـ 234
52- دلائل الصدق 2/368 بتصرّف يسير
source : rasekhoon