قد جاء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بالأدلة المقبولة. والمعجزات التي هي بلسان التواتر منقولة، وقد قال المسيح عليه السلام: من قبل ثمارهم تعرفونهم، وقد علم المخالف والموالف. أن محمدا رسول الله لم تثمر شجرته عبادة غير الله ولم يشرك مع الله غيره، ولا جعل له ندا من خلقه ولا ولدا، ولا قال لأمته اعبدوا إلهين اثنين ولا ثالث ثلاثة، ولا عبد رجلا ولا عجلا ولا كوكبا، بل دعا إلى ملة إبراهيم. إله واحد لا إله إلا هو، وأخلص لله وحده، ونزهة عن النقائض والآفات، وجاء بكتاب من عند الله أمر فيه بطاعة الله، ونهى عن معصيته، وزهد في الدنيا ورغب في الآخرة. وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأمر ببر الوالدين وصلة الرحم وحفظ الجار، وفرض الصدقات، وأمر بالصوم والصلاة، وحث على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ثم كسر الأصنام وعطل الأوثان. وأخمد النيران وأعلن الآذان. فهذه هي ثمار النبي (صلی الله عليه وآله وسلم). الذي بعثه الله والناس في ظلمة الجهل والانحراف. فأنار الطريق وأقام الحجة. وبين منهجه للبشرية الطريق الذي يحقق السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، لأنه يمد الإنسان بالوقود الذي يميز به بين الحلال وبين الحرام، وينطلق بالإنسان نحو الأهداف التي من أجلها خلقه الله، بالوسائل التي لله فيها رضا، ومن خلال المنهج الإسلامي يحفظ الإنسان صلته بالله ورسوله، لأن المنهج يقوم على أوامر الله، فهو سبحانه مصدر جميع السلطات وإليه تنتهي جميع القرارات، لأنه تعالى مصدر الخلق والتكوين. وواهب الحياة ومقوماتها، فكما أن له سبحانه الخلق والإبداع. كذلك له الأمر والنهي.
وبعد أن أقام النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) الحجة. حانت الساعة التي يدعى فيها فيجيب، وعلى فراش المرض أخذ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بالأسباب حتى لا تختلف الأمة من بعده. وهو يعلم أن الاختلاف واقع لا محالة، ونظام العالم هو نظام الأسباب والمسببات، والإنسان مطالب بأن يكون اعتماده على الله عند أخذه بالأسباب وفي كل حال، وعلى هذا سار الأنبياء والرسل عليهم السلام، كانوا يخبرون بالغيب عن الله بما يستقبل الناس من فتن وأهوال، ثم يأخذون بالأسباب فيحذرون الناس من مخاطر الطريق.
عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم): هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن.
حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قاله عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم): قوموا! " فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية، ما حال بين النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب. من اختلافهم ولغطهم! " (1). وفي رواية:
قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) " قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع " (2)، وروي عن جابر بن عبد الله " أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتابا لا يضلون بعده، فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها " (3)، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس إنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم جعل تسيل دموعه، حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ، قال:
قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) " أئتوني بالكتف والدواة - أو اللوح والدواة - أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فقالوا؟ إن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يهجر (4).
قال ابن الأثير: القائل هو عمر بن الخطاب (5). ومعنى هجر.
قال في لسان العرب: يهجر هجرا. إذا كثر الكلام فيما لا ينبغي. وهجر يهجر هجرا. بالفتح: إذا خلط في كلامه وإذا هذى (6) وقال في المختار الهجر: الهذيان (7) وقال في المعجم. هجر المريض: هذى (8).
لقد اختلفوا وأكثروا اللغط ولا ينبغي عند رسول الله التنازع، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) (9). وقال جل شأنه (فليحذر الذين يخالفون من أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (10). وقال (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وإنه إليه تحشرون. واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) (11).
ومن يتدبر في أحداث يوم الصحيفة ويمسك بأطرافها، تجد أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أراد أن يكتب لهم كتاب يكون سببا في الأمن من الضلال، وهذا السبب كان كافيا لتنفيذ الأمر، ولكن بعض الذين حضروا قالوا " هجر "، فكانت هذه الكلمة كافية ليمسك الرسول عن كتابة الصحيفة، لأنها ربما تكون مدخلا لتشكيك البعض في كل ما كتب من وصايا وعهود ويترتب على ذلك فتن عديدة، ويشهد بذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال " قالوا: إن نبي الله ليهجر، فقيل له: ألا نأتيك بما طلبت؟
قال: أو بعد ماذا! " (12)، وأمر الرسول إليهم بأن يأتوه بصحيفة لتكتب لهم الكتاب، هذا الأمر في حد ذاته كافيا لإقامة الحجة عليهم وإن لم يأتوا إليه بالصحيفة، ومن المعلوم أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قد أقام الحجة على الأمة بالبلاغ في حجة الوداع وقبلها وبعدها في غدير خم.
وقد احتج البعض أن قولهم " حسبنا كتاب الله " يستند إلى أن الكتاب جامع لكل شئ، وقولهم هذا ينتج إشكالا، لأن الكتاب الجامع لكل شئ أمر بطاعة الرسول، وعلى الرغم من أن الكتاب جامع إلا أنه ليس في استطاعة كل واحد أن يستخرج منه ما يريده على وجه الصواب، لهذا فوض الله رسوله في أن يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، ولأن الناس في حاجة إلى السنة مع كون الكتاب جامعا، جعل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عترته مع الكتاب في حبل واحد ولن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وبالجملة: لما كان الكتاب به آيات متشابهات. وهذه الآيات يتتبعها الذين في قلوبهم زيغ لإثارة الفتن ولتأويل الكتاب، حتى ينتهي تأويلهم إلى تعطيل الحكم بالكتاب، ولما كان الكتاب مع كونه جامعا لكل شئ لا يحقق دوام الهداية وعدم الاختلاف. بدليل أن الضلال وقع والتفريق وقع فعلا، فإن الأمن من الضلال لا يكون إلا بالكتاب. ومعه الطاهر الذي يتأوله، ويمكن للباحث أن يستنتج ذلك، إذا ربط بين أمر الرسول وهو على فراش المرض. وبين البلاغ الذي أقام به الحجة قبل ذلك، فيوم الصحيفة قال (صلی الله عليه وآله وسلم) " آتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا " (13) وفي بلاغه. قال (صلی الله عليه وآله وسلم) " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي. أحدهما أعظم من الآخر. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما " (14).
المصادر :
1- رواه البخاري ب قول المريض قوموا (الصحيح 7 / 4) ومسلم بـ ترك الوصية (الصحيح 76 / 5) .
2- رواه البخاري ك العلم (الصحيح 31 / 1).
3- رواه أحمد (الفتح الرباني 225 / 22) وابن سعد (الطبقات 243 / 2).
4- رواه مسلم ب ترك الوصية (الصحيح 76 / 5).
5- لسان العرب ص 4618.
6- المصدر السابق 4618.
7- مختار الصحاح ص 690.
8- المعجم الوسيط 972 / 2.
9- سورة الحجرات آية 2.
10- سورة النور آية 63.
11- سورة الأنفال آية 25.
12- ابن سعد (الطبقات الكبرى 242 / 2).
13- ابن سعد (الطبقات الكبرى 242 / 2).
14- رواه الترمذي وقال حديث حسن (الجامع 663 / 5).
source : rasekhoon