قد يمرّ هذا السؤال على بعض الخواطر و يرد في أفكار بعض الناس و خاصّة شباب هذا العصر ، الذي نشطت فيه المحاولات الإلحادية و قويت فيه الدعاية ضدّ شعائر الدين و مظاهر الإسلام بكلّ صورها ، وفي مقدّمتها الشعائر الحسينية التي هي من صميم شعائر الله و مظاهر الدين . تلك الشعائر التي من أقوى الوسائل لنشر الوعي السياسي والاجتماعي والأخلاقي بين الأحداث والشباب .
و من ثمّ نشطت الدعاية المعادية ضدّ هذه الشعائر الحسينية بكافّة أنواعها ؛ من عقد المآتم و تنظيم المواكب و غيرها . و كثيراً ما ترفع ضدّها شعارات مظلّة و خدّاعة باسم الدين ، و بالتظاهر بالحرص على وحدة المسلمين ، والاهتمام باتّفاق كلمتهم و توحيد صفوفهم أمام العدو المشترك ، فيزعمون أنّ إحياء ذكرى ثورة الحسين (عليه السّلام) ينافي هذا الهدف ؛ بسبب ما تولّده هذه الذكرى من التفرقة الطائفية ؛ لأنّها ـ أي تلك الذكرى ـ تشتمل ـ كما يزعمون ـ على الطعن والتنديد والمسّ بكرامة بعض الصحابة ، و بعض خلفاء المسلمين ، و بعض رجال الاُمّة المحترمين ؛ ولذا يجب ترك هذه الشعائر و عدم إحياء تلك الذكرى حفاظاً على وحدة المسلمين .
هكذا تقول تلك الدعاية اليوم حسب ما نقرأ ونسمع منها بين حين و آخر .
والجواب عليها ببساطة هو أن نقول :
أوّلاً : إنّ ثورة الحسين (عليه السّلام) لم تخدم مصلحة الشيعة فحسب ولا مصلحة المسلمين فحسب ، بل خدمت مصلحة الإنسانية العُليا في كلّ زمان و مكان ، و عليه فالحسين ليس للشيعة فقط ، بل لجميع المسلمين ولكل الناس الخيرين في العالم ، وقد أجمعت كلمة الخبراء والعلماء بكنه ثورة الحسين و حقيقتها على أنّ واجب كلّ شعب و أمّة أن تحيي ذكرى الحسين (عليه السّلام) خدمة لمصلحة أبنائها ، و تربية لشبابها على الشعور بعزّة النفس و إباء الظلم والكرامة الإنسانية في حياتهم . فذكرى ثورة الحسين (عليه السّلام) لا تفرّق ، بل بالعكس توحّد الكلمة على الحقّ والعدل .
ثانياً : إنّ الذي أمر بقتل الحسين (عليه السّلام) هو يزيد بن معاوية البالغ من العمر في ذلك اليوم إحدى وثلاثين عاماً فقط ، و إنّ الذي نفّذ الأمر هو عبيد الله بن زياد (لعنه الله) البالغ من العمر في ذلك اليوم ثمانية وعشرين عاماً ، و إنّ الذي باشر تنفيذ الأمر هو قائد الجيش عمر بن سعد بن أبي وقاص (لعنه الله) البالغ من العمر في ذلك اليوم حوالي خمسة وعشرين عاماً . وهم كما ترى ليسوا من صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالمعنى المعروف ، أي ليس منهم أحد أدرك الرسول (صلّى الله عليه وآله) وجالسه وسمع حديثه .
فمَنْ هم هؤلاء الصحابة الذين يخشى من الطعن بهم في إحياء ذكرى الحسين (عليه السّلام) ؟! نعم ، ربّما يتعرض في خلال الذكرى إلى معاوية بن أبي سفيان باعتباره مهّد الطريق إلى قتل الحسين (عليه السّلام) عن قصد أو غير قصد بتوليته ابنه على إمارة المسلمين .
ومعاوية معلوم الحال لدى الجميع ، أسلم قبل وفاة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بخمسة أشهر بعد أن ضاقت عليه الأرض ، و علم أنّ الإسلام سيعمّ و ينتشر فدخل في الإسلام خوفاً وطمعاً ، لا عن عقيدة و إيمان . وكان صعلوكاً مستحقراً لدى المسلمين ، و معدوداً في المؤلّفة قلوبهم الذين لا يتجاوز الإسلام شفاههم ، ولا يؤمن شرّهم على المسلمين إلاّ بالمال .
والإدعاء بأنّ معاوية كان من كتّاب القرآن بين يدي النبي (صلّى الله عليه وآله) كذب و افتراء ؛ لمْ يوجّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى معاوية كتابة أي جزء من الوحي أو آية من القرآن .
نعم ، كان يكتب للرسول (صلّى الله عليه وآله) بعض الرسائل التي كان يرسلها النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى الملوك والرؤساء ، وكان المسلمون الواعين في حياة الرسول يزدرون معاوية و يكرهون مجالسته . ولا أشك أنّ المسلمين الواعين في عصرنا هذا ليس فيهم مَنْ يحبّ معاوية و يقدّسه و يحترمه ، و هو يقرأ و يسمع ما شاع و ذاع وملأ الآفاق عن بدعه و آثامه و موبقاته إبان ملكه و إمارته .
تلك البدع والآثام التي ختمها بفرض ابنه يزيد الفاسق الماجن الخمّار السكّير فرضه خليفة على المسلمين من بعده ، فقتل آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) و أباح مدينة الرسول لجنده ثلاثة أيّام دماء و أموالاً و أعراضاً ، و أخيراً هدم الكعبة و أحرق أستارها .
فالغرض هو : أنّه لا يوجد في ذكرى ثورة الحسين ذكر لصحابة ولا لرجال دين محترمين يخشى أن يطعن فيهم أو تمسّ كرامتهم ، و بالتالي فإنّ هذه الذكرى المقدّسة لا تفرّق بين المسلمين أبداً .
نعم ، تفرّق بين المسلمين والمنافقين الدجّالين الذين هم على طراز معاوية و يزيد و ابن زياد و عمر بن سعد . و هذا التفريق يرحّب به كلّ مسلم و يتمنّاه : ( لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ من الطّيّبِ ) . و هذه التفرقة هي من ثمرات ذكرى ثورة الحسين بلا شك ، و من الأهداف المقصودة من إحيائها ، بل و من أهداف ثورة الحسين (عليه السّلام) بالذات .
ثالثاً : كيف يعقل أن تكون ذكرى ثورة الحسين (عليه السّلام) مفرّقة للصف ، ومشتّتة للوحدة بين المسلمين مع أنّ ثورة الحسين (عليه السّلام) بالذّات ضربت أروع مثال للوحدة بين المسلين ؛ حيث جمعت بين أفراد مختلفين و أشخاص متباينين من حيث العنصر والقومية ، والدين والمذهب ، والوطن والسن والجنس .
وحدّت بينهم الثورة توحيداً كاملاً حتّى جعلتهم وكأنّهم جسم واحد و شخص واحد يتحرّكون و يعملون و ينطقون بإرادة واحدة ويد واحدة ولسان واحد ، و هم أصحاب الحسين (عليه السّلام) الذين كانوا حوالي الثلاثمئة والثلاثة عشر رجلاً .
كان فيهم العربي القرشي والعربي غير القرشي إلى جنب الفارسي والتركي ، والرومي والزنجي ، والمسيحي والمسلم السنّي والمسلم الشيعي ، من أقطار الحجاز والكوفة والبصرة واليمن ، منهم الفقير والغني ، والحرّ والعبد ، والرئيس والمرؤوس من مختلف مراحل العمر ، كالشيخ الكبير ، والكهل ، والشاب ، والمراهق ، والصبي . وكان معهم جملة من النساء من الهاشميات والعربيات يقدّر عددهن بحوالي العشرين امرأة .
أجل ، لقد قدّم الحسين من وحدة أصحابه نموذجاً كاملاً عن الوحدة الإنسانية العلميّة التي ينشدها الإسلام و دعا إليها القرآن ، وثار لأجل تحقيقها سيّد الشهداء أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) ، و من قبله أبوه الإمام علي (عليه السّلام) الذي هو القدوة المُثلى للمسلمين جميعاً في العمل لوحدة المسلمين ، والحفاظ عليها والتضحية في سبيلها بمصلحته ومصلحة أبنائه و مصلحة شيعته .
صبر على اغتصاب حقوقه و حقوق أهل بيته و شيعته خمساً وعشرين سنة ، مدّة حكم الخلفاء الثلاثة قبله ، ولقد تعاون مع الخلفاء الغاصبين لحقّه في الشؤون العامة ، و خدمة المصلحة العُليا بكلّ إمكاناته وطاقاته حسب ما هو معروف لدى الجميع . . . وكذلك جميع أبنائه الأئمّة الأحد عشر (عليهم السّلام) ، سالموا خلفاء الوقت وسايروا الحكومات الإسلاميّة على حساب مصلحتهم الخاصة وحقوقهم المشروعة ؛ لأجل صيانة الوحدة الإسلاميّة .
والخلاصة هي : إنّه ليس في شعائر الشيعة وذكرياتهم شعار ولا ذكرى تفرّق المسلمين ، أو تورث حزازات طائفية بينهم ، بل إنّ الذي يفرّق و يمزّق صف الوحدة الإسلاميّة ، و يثير الحزازات الطائفية والفتنة بين المسلمين ، هم اُولئك العملاء المأجورين من قبل الاستعمار وأعداء المسلمين الذين ينفثون سموم التفرقة بين حينٍ وآخر ، بواسطة بعض الكتب أو المقالات ، أو الخطب التي تحمل و تتحامل على الشيعة بالكذب والافتراء ، والتّهم والسبّ والشتم ، و نسبة الكفر والشرك إليهم بكلّ صراحة و وقاحة .
إنّ الذين يفرّقون كلمة المسلمين هم اُولئك الذين يكتبون عن الشيعة أنّهم صنيعة الصهيونية ، و من أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الذي ابتدع مذهب الشيعة . و عبدالله بن سبأ هذا قد أجمع الخبراء على أنّه اُسطورة خيالية لا وجود له إلاّ في أذهان هؤلاء الذين يريدون التشهير بالشيعة .
إنّ مذهب الشيعة في الإسلام إنّما هو مذهب أهل البيت (عليهم السّلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً . ذلك المذهب الذي يفرض التعاون بين المسلمين جميعاً على البرّ والتقوى ومصلحة الإسلام العُليا . ذلك المذهب الذي يعتبر المسلم أخاًً للمسلم شاء ذلك أمْ أبى . . . . و أخيراً أقول : إنّ الشيعة لا يهاجمون ولا يعتدون ، بل يدافعون عن الحقّ وبالحقّ ، وليس في مذهب التشيّع شيء غير الحقّ .
وممّا يقوله المشاغبون على الشيعة أيضاً : هو أنّ الشيعة شُغلوا بالبكاء والعويل على الحسين (عليه السّلام) عن مصالحهم الحيويّة وقضاياهم المصيريّة ، فتخلّفوا عن ركب العالم علميّاً واقتصاديّاً وصناعيّاً وسياسيّاً .
أقول : إنّ قولهم هذا يذكّرني بقول بعض الملحدين الذين يقولون إنّ المسلمين شُغلوا بالصلاة والصيام والحلال والحرام عن مسايرة ركب التطوّر العالمي ، فظلّوا متخلّفين عن الاُمم الاُخرى .
أجل ، ما أشبه قول المشاغبين عن الشيعة بقول الملحدين عن المسلمين عامّة ، و ما أقرب الدوافع والغايات للقولين . تلك الغايات التي تتلخّص بكلمة واحدة وهي (التشويه) ، فكلّ من القولين مغالطة مفضوحة ، لا تنطلي إلاّ على السذّج من عوام الناس ، وإلاّ فكلّ عاقل عارف يعلم يقيناً أنّ الإسلام بكلّ ما فيه لا دخل له في تخلّف المسلمين مطلقاً ، كما إنّ إحياء ذكرى عاشوراء بكلّ ما فيه لا دخل له في تخلّف الشيعة مطلقاً .
إنّ السبب الأساسي في تخلّف المسلمين عامّة والشيعة خاصّة في العصور الأخيرة هو الاستعمار الكافر بأساليبه وعملائه و سياساته .
و إنْ قلت : مَنْ الذي مكّن العدو المستعمر من السيطرة عليهم واستعمارهم ؟ قلت : هم الحكّام الخونة الذين اغتصبوا السلطة من أصحابها الشرعيين منذ العصور الأولى ، و بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) على وجه التحديد و إلى اليوم .
_________________
(1) سورة يوسف / 4 .
(2) سورة الرعد / 15 .
(3) سورة الحج / 18 .
(4) سورة طه / 123 ـ 124 .
(5) سورة الأعراف / 96 .
(6) أبو الشهداء الحسين بن علي / 13 .
source : sibtayn