اتخذ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) موقفا سلبيا تجاه الحكومات المعاصرة لهم، لبعد تلك الحكومات عن المنهج الإسلامي الأصيل في الحكم، وانحرافها روحيا وعمليا عن أبسط مبادئ الإسلام وعقيدته السمحاء. والإنسان الرسالي المؤمن بمبادئ الدين الحنيف هو الذي يحاول ما أمكنه الابتعاد عن الانضواء في أجهزة السلطة، أو تحمل أعباء الحكم، لأن ذلك يعتبر بمثابة إقرار بشرعيته واعتراف بحقيقته، فكان موقف الأئمة (عليهم السلام) السلبي من الحكام دعوة صريحة للأمة إلى الانفتاح على مبادئها الرسالية، وتوعيتها على الواقع الفاسد الذي يعيشه الحكم الإسلامي، بسبب السلوك الهزيل الذي اتبعه الحاكمون في قيادة مسيرة الأمة، في مجالس الشرب والمنادمة إلى حفلات الرقص والغناء واللهو والمجون، وتقريب المغنين والقيان، وانتهاك الحرمات، فضلا عن أعمال القتل والتشريد ومصادرة الأموال التي ملأت صفحات التأريخ الأموي والعباسي. وقد اتخذ الإمام الرضا (عليه السلام) عين الموقف الذي اتخذه آباؤه (عليهم السلام) من قبل، وهو سلبية التعامل مع السلطة، ومنع أصحابه وشيعته من الانضواء في أجهزتها أو التعاون معها.
فعن سليمان الجعفري، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): ما تقول في أعمال السلطان؟ فقال: يا سليمان، الدخول في أعمالهم، والعون لهم، والسعي في حوائجهم عديل الكفر، والنظر إليهم على العمد من الكبائر التي يستحق بها النار (1). وقد حافظ الإمام (عليه السلام) على هذا الموقف حتى النهاية، وعندما قبل ولاية العهد كان ملتزما بالسلبية تجاه الحكم، حيث إنه (عليه السلام) أشخص من المدينة إلى مرو مكرها، وقبل بولاية العهد بعد تهديده بالقتل، ومع ذلك فقد شرط على المأمون أن لا يمارس أي نوع من أنواع السلطة في حل أو عقد وفي عزل أو تعيين، وعلى أن لا ينقض رسما ولا سنة، بل يكون مشيرا من بعيد. وخلاصة القول إنه (عليه السلام) كان يعلم أن هذا الأمر لا يتم، وأنه دخل فيه دخول خارج منه، ولم يزل (عليه السلام) مغموما مكروبا حتى قبض، وسنأتي على تفصيل ذلك في ثنايا هذا الفصل إن شاء الله. أما في حالة المشاركة في السلطة لدفع الظلم والجور عن كاهل الأبرياء من المؤمنين، وتخفيف وطأة الجوع والحرمان عن الفقراء والمحرومين، فإن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يعتبرون في ذلك مصلحة دينية تقتضي دفع بعض النابهين من أصحابهم، لتوظيف أنفسهم في جهاز الدولة، كما حدث لعلي بن يقطين الذي حاول الاستعفاء من منصبه مرارا، لدى هارون الرشيد، ولكن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) كان يحثه على البقاء في منصبه، لما يترتب عليه من دفع الظلم والجور عن كثير من المؤمنين، وإصلاح ما يمكن إصلاحه من المفاسد التي يرتكبها الآخرون. فعن الحسن بن الحسين الأنباري، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: كتبت إليه أربع عشرة سنة أستأذنه في عمل السلطان، فلما كان في آخر كتاب كتبته إليه، أذكر أني أخاف على خيط (2) عنقي، وأن السلطان يقول لي: إنك رافضي، ولسنا نشك في أنك تركت العمل للسلطان للرفض. فكتب إلي أبو الحسن (عليه السلام): قد فهمت كتابك، وما ذكرت من الخوف على نفسك، فإن كنت تعلم أنك إذا وليت عملت في عملك بما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم تصير أعوانك وكتابك أهل ملتك، فإذا صار إليك شيء واسيت به فقراء المؤمنين، حتى تكون واحدا منهم كان ذا بذا، وإلا فلا (3). الحكام المعاصرون له (عليه السلام): لقد بقي الإمام الرضا بعد أبيه عشرين عاما أو تزيد، منها عشر سنوات في عهد هارون الرشيد، لأن شهادة أبيه كانت سنة 183 ه، وتوفي الرشيد سنة 193 ه، ثم تولى محمد الأمين بعده ثلاث سنين وخمسة وعشرين يوما، وقيل: أربع سنين وسبعة أشهر، ثم خلع الأمين، وحبس، وتولى مكانه عمه إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة أربعة عشر يوما، ثم أخرج الأمين من الحبس، وعاد إليه الملك، وعزل إبراهيم، وبقي بعد ذلك سنة وسبعة أشهر، ثم قوي عليه أخوه المأمون فقتله سنة 198 ه، وملك الخلافة بعده عشرين سنة. وكان للرضا (عليه السلام) معه ما كان، حتى قضى مسموما سنة 203 ه، وقيل سنة: 202 (4).
لم يسلم الإمام (عليه السلام) بعد قتل أبيه من تحركات أنصار الحاكمين والدائرين في فلكهم والمتزلفين لهم، فقد كانوا يحصون عليه أنفاسه، ويراقبونه بشدة، ويصورون لهم خطره على ملكهم، فتجرع (عليه السلام) مرارة الأحداث القاسية التي استقبلت إمامته بعد شهادة أبيه (عليه السلام) في غياهب السجون، وانحراف الواقفة عنه (عليه السلام)، وتعرض بيته للسلب والإساءة من قبل جيش هارون بعد خروج محمد بن جعفر بالمدينة، وقتل بني عمومته من الحسنيين، وسلب أموالهم، ونهب دورهم وهدمها، وما إلى ذلك من الأحداث المريرة التي تعرض لها العلويون. وقد كان أذناب السلطة يكتبون إلى الرشيد عن كل ما يصدر من الإمام (عليه السلام)، فقد كتب الزبيري إليه: إن علي بن موسى قد فتح بابه، ودعا إلى نفسه (5). وممن حرضوا الرشيد على الإمام الرضا (عليه السلام) عيسى بن جعفر، فقد جاء في رواية موسى بن مهران، عن جعفر بن يحيى، أنه قال: سمعت عيسى بن جعفر يقول لهارون الرشيد حين توجه من الرقة إلى مكة: أذكر يمينك التي حلفت بها في آل أبي طالب، فإنك حلفت إن ادعى أحد الإمامة بعد موسى ضربت عنقه صبرا، وهذا علي ابنه يدعي هذا الأمر، ويقال فيه ما يقال في أبيه، فنظر إليه الرشيد مغضبا، وقال: ما ترى؟ تريد أن أقتلهم كلهم؟ قال موسى بن مهران: فلما سمعت ذلك صرت إليه فأخبرته، فقال (عليه السلام): ما لي ولهم، والله لا يقدرون إلي على شيء (6). وكان البرامكة من أشد الناس تحريضا على الإمام الرضا (عليه السلام)، وكان لهم اليد الطولى في قصة شهادة أبيه الكاظم (عليه السلام)، حيث استغلوا حقد ابن أخيه وحسده له.
وقد حاول يحيى بن خالد أن يدفع الرشيد على الإمام الرضا (عليه السلام)، ليلحقه بأبيه، فقد روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن صفوان بن يحيى، قال: لما مضى أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)، وتكلم الرضا (عليه السلام)، خفنا عليه من ذلك، فقلت له: إنك قد أظهرت أمرا عظيما، وإنما نخاف عليك هذا الطاغي! فقال: ليجهد جهده فلا سبيل له علي.
قال صفوان: فأخبرنا الثقة أن يحيى بن خالد قال للطاغي: هذا علي ابنه قد قعد، وادعى الأمر لنفسه. فقال: ما يكفينا ما صنعنا بأبيه؟ تريد أن نقتلهم جميعا؟ ولقد كانت البرامكة مبغضين لأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مظهرين العداوة لهم (7). هذه الكلمات من الرشيد إن دلت على شيء، فإنها تدل على أنه كان يحس بإثم ما ارتكبه مع الإمام الكاظم (عليه السلام)، وربما كان يعيش في صراع مع نفسه، التي لم تعد قادرة على أن تستوعب إثما جديدا بقتل ولده، ولكن المحاولات الكثيرة التي كانت تقوم بها حاشيته، استطاعت أخيرا أن تدفعه لمحاولة الانتقام منه، وكانت إرادة الله تحول بينه وبين ما يريد. فقد روى المسعودي بالإسناد عن سام بن نوح بن دراج، قال: كنا عند غسان القاضي، فدخل إليه رجل من أهل خراسان، عظيم القدر، من أصحاب الحديث، فأعظمه ورفعه وحادثه، فقال الرجل: سمعت هارون الرشيد يقول: لأخرجن العام إلى مكة، ولآخذن علي بن موسى، ولأردنه حياض أبيه. فقلت: ما شيء أفضل من أن أتقرب إلى الله تعالى وإلى رسوله، فأخرج إلى هذا الرجل فأنذره، فخرجت إلى مكة، ودخلت على الرضا (عليه السلام) فأخبرته بما قال هارون فجزاني خيرا، ثم قال: ليس علي منه بأس، أنا وهارون كهاتين، وأومأ بإصبعيه (8). الإمام يعلن إمامته وبعض أصحابه يمانعون: وقد أصبح الإمام (عليه السلام) مضطرا لإعلان إمامته، ليواجه الانحراف الذي يترأسه أقطاب الواقفة، ولكي يحافظ على قاعدته الشعبية، ومن جهة أخرى فإن الإمام (عليه السلام) كان واثقا من أن الرشيد على ضلاله وطغيانه لن يصل إليه بسوء، وذلك بما تلقاه عن آبائه (عليهم السلام) من أن قاتله غير هارون الرشيد. وقد حاول جماعة من أصحابه (عليهم السلام) إبعاده عن مواطن الخطر، فطلبوا منه أكثر من مرة أن يتستر في دعوته، ويحتاط لنفسه ولشيعته من أولئك الطغاة الذين لا يرقبون الله تعالى في سلوكهم وتصرفاتهم، لكن الإمام (عليه السلام) لم يعبأ بتلك المحاولات، ولم يغير سلوكه ونهجه في إظهار الدعوة إلى الله تعالى.
فعن محمد بن سنان أنه قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) في أيام هارون: إنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر، وجلست مجلس أبيك، وسيف هارون الرشيد يقطر الدم! فقال: جرأني على ذلك ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة واحدة، فاشهدوا بأني لست بنبي، وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة، فأنا لست بإمام (9). وعن صفوان بن يحيى: أنه قال: لما مضى أبو الحسن موسى (عليه السلام) وقام من بعده ولده الرضا، وأظهر الدعوة لنفسه، خفنا عليه من ذلك، وقلنا له: إنك أظهرت أمرا عظيما، وإنا نخاف عليك من هذا الطاغية، فقال (عليه السلام): ليجهد جهده فلا سبيل له علي (10). الواقفة يستغلون الموقف: ولا شك أن نوايا أصحابه (عليه السلام) كانت مخلصة تهدف إلى إبعاد الإمام (عليه السلام) عن مواطن الخطر، وفي المقابل هناك نوايا غير مخلصة من بعض الواقفة الذين كانوا يريدون إبعاد الإمام عن الإمامة لا عن مواطن الخطر: فقد دخل عليه جماعة من الواقفة، وبعد حوار جرى بينه وبينهم، قال له علي ابن أبي حمزة: أما تخاف هؤلاء على نفسك، فقال: لو خفت عليها كنت عليها معينا،
إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتاه أبو لهب فتهدده، فقال له رسول الله: إن خدشت من قبلك خدشة فأنا كذاب، فكانت أول آية نزع بها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي أول آية أنزع بها لكم، إن خدشت خدشا من قبل هارون فأنا كذاب. فقال له الحسين بن مهران، وكان من الواقفة: قد أتانا ما نطلب إن أظهرت هذا القول. قال الإمام (عليه السلام): أتريد مني أن أذهب إلى هارون وأقول له: أنا الإمام، وأنت لست بشيء، ما هكذا صنع رسول الله في أول أمره، إنما قال ذلك لأهله ومواليه ومن يثق به، فقد خصهم دون الناس (11). ومحاولات الواقفة تهدف إلى إيقاف الإمام عن الدعوة لنفسه، وإظهار أمر إمامته، حتى يتمكنوا من تركيز مذهبهم القائل بأن الإمام القائم هو موسى بن جعفر (عليه السلام) وإنه حي يرزق. بيت الإمام (عليه السلام) يتعرض للسلب: وفي زمان الرشيد تعرض بيت الإمام الرضا (عليه السلام) للسلب والإساءة، فقد خرج محمد بن جعفر بالمدينة، وأعلن الثورة والتمرد على الحكم الجائر، فأرسل إليه الرشيد جيشا بقيادة الجلودي (12) أحد أعوانه، وأمره بضرب عنقه إن ظفر به، ولم يقف عند هذا الحد، بل أوعز إليه أن يهاجم دور آل أبي طالب، ويسلب ما على نسائهم من ثياب وحلل، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوبا واحدا. وبعد أن ظفر الجلودي بمحمد بن جعفر والثائرين معه، هاجم دور الطالبيين،ونفذ أوامر الرشيد بها، ولما انتهى إلى دار الإمام الرضا (عليه السلام) بخيله وجنده، وقف الإمام على باب داره، وجعل نساءه في بيت واحد، وحاول أن يمنعهم من دخوله، فقال له الجلودي: لا بد وأن أدخل البيت، وأتولى بنفسي سلبهن، كما أمرني الرشيد، فقال له الرضا (عليه السلام): أنا أسلبهن لك، ولا أترك عليهن شيئا إلا جئتك به، وظل يمانعه، ويحلف له بأنه سيأخذ جميع ما عليهن من حلي وحلل وملابس حتى سكن، ووافق على طلب الإمام (عليه السلام). فدخل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) على نسائه، ولم يدع عليهن شيئا حتى أقراطهن وخلاخيلهن وملابسهن إلا أخذه منهن، وأضاف إليه جميع ما في الدار من قليل وكثير وسلمه إلى الجلودي. وعندما ملك المأمون غضب على الجلودي وأراد قتله، وكان الإمام الرضا (عليه السلام) حاضرا، فقال (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، هب لي هذا الشيخ. فقال المأمون: يا سيدي، هذا الذي فعل ببنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما فعل من سلبهن! فنظر الجلودي إلى الرضا (عليه السلام) وهو يكلم المأمون ويسأله أن يعفو عنه ويهبه له، فظن أنه يعين عليه، لما كان الجلودي فعله. فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك بالله وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا في. فقال المأمون: يا أبا الحسن، قد استعفى، ونحن نبر قسمه. ثم قال: لا والله، لا أقبل فيك قوله، ألحقوه بصاحبيه (يريد علي بن أبي عمران وابن مؤنس، وهما من الناقمين على الإمام الرضا عليه السلام)، فقدم وضربت عنقه (13).
الإمام (عليه السلام) في عصر محمد الأمين
تسلم محمد الأمين السلطة العباسية في السنة التي هلك فيها الرشيد، وهي سنة 193 ه، لأنه كان ولي عهده الأول، ومن بعده تكون الخلافة لأخيه عبد الله المأمون، وبعدهما للقاسم أخيهما، ووزع الرشيد المناطق بينهم، فجعل للأمين ولاية العراق والشام إلى آخر المغرب، وللمأمون من همدان إلى آخر المشرق بما في ذلك خراسان وجهاتها، ولولده القاسم بعد أن بايع له بولاية العهد بعد أخيه المأمون الجزيرة والثغور والعواصم، وترك للمأمون الخيار في بقائه وليا للعهد أو خلعه. وبقي محمد الأمين بعد أبيه هارون نحو خمس سنوات وأشهر، وفي المحرم من سنة 198 ه، بعد أن قتل الأمين بنتيجة المعارك التي دارت رحاها بين أنصاره وأنصار أخيه المأمون، انتقلت السلطة إلى المأمون، واجتمع عليه المسلمون في جميع أطراف الدولة. وكان محمد الأمين بعد أن انتقلت الخلافة إليه غدر بأخيه المأمون، وخلعه من ولاية العهد، وجعلها لولده موسى من بعده، بإشارة الفضل بن الربيع عليه بذلك، لأنه كان يحقد على المأمون، وقد خاف على مركزه في الدولة أن ينتزعه منه المأمون إن أفضت الخلافة له. ومهما كان الحال ففي الفترة التي حكم فيها الأمين، لم نجد في كتب التأريخ ما يشير إلى أي موقف يدل على أنه حاول الفتك بالإمام الرضا (عليه السلام) أو الإساءة إليه، ولعل مرد ذلك إلى انصرافه للملذات والشهوات بالإضافة إلى الخلافات التي آلت إلى انقسام خطير بين أفراد الأسرة الحاكمة، وكان من نتائجها إقصاؤه لأخيه المأمون من ولاية العهد، مما زاد من حدة الصراع بين الفريقين، واضطراب الأوضاع في جميع أنحاء الدولة. على أن ما كان يتمتع به المأمون من محبة الجماهير وثقتهم وقوة شخصيته، قد دفع بالأمين وأعوانه أن يقصروا جهودهم على تجنيد جميع أجهزتهم لمراقبته - أي المأمون - وقطع الطريق عن أي تحرك ضدهم، وأصبح خطر غيرهم ممن لا يرتضي حكمهم ودولتهم ضئيلا إذا ما قيس بنظرهم بالخطر الداخلي الجاثم على صدورهم، ومن الجائز أن يكون لذلك كله دخل في انصراف الأمين وجهاز حكمه عن مراقبة الإمام الرضا (عليه السلام) وملاحقته، كما كان يفعل أسلافه مع غيره من الأئمة (عليهم السلام)، مما قيض له فترة هادئة من الزمن، انصرف فيها إلى أداء رسالته، ونشر مبادئ الإسلام في ذلك الجو الذي كان مشحونا بالصراعات العقائدية والخلافات المذهبية.
الإمام (عليه السلام) في عصر المأمون
كان المأمون ولي العهد من بعد أخيه الأمين الذي بويع له بعد وفاة الرشيد سنة 193 هـ بعهد منه، فلما كانت سنة 195 هـ أعلن الأمين خلع أخيه المأمون من ولاية العهد، وعهد لابنه موسى، ولقبه الناطق بالحق، وهو لا يزال طفلا رضيعا، فنادى المأمون بخلع الأمين في خراسان، وتسمى بأمير المؤمنين. فجهز الأمين وزيره علي بن عيسى بن ماهان لحرب المأمون، وجهز المأمون طاهر بن الحسين، فالتقى الجيشان، فقتل ابن ماهان، وحمل رأسه إلى المأمون، فطيف برأسه في خراسان. وانهزم جيش الأمين، فتتبعه طاهر بن الحسين حتى حاصر بغداد حصارا طويلا، تعرضت فيه المدينة للقتل الذريع والسلب والنهب والدمار والحرائق، وانتهى الحصار بالقبض على الأمين، وزجه في السجن، ومن ثم قتله وهو في السجن، واحتز رأسه، فنصب على باب من أبواب بغداد يعرف بباب الحديد إلى الظهر، ونودي: هذا رأس المخلوع محمد، ودفنت جثته في أحد بساتين بغداد. وحملوا الرأس إلى خراسان، فأمر المأمون بنصب الرأس في صحن الدار على خشبة، وأعطى الجند، وأمر كل من قبض رزقه أن يلعنه، فكان الرجل يقبض ويلعن الرأس (14). وبويع للمأمون سنة 198 هـ بالخلافة في أغلب أطراف الدولة الإسلامية. وظهرت خلال المعارك بين الأمين والمأمون وبعدها عدة حوادث وثارت كثير من الفتن، فقد انتفضت بغداد على السلطة العباسية، وتربص الثائرون من الطالبيين وغيرهم الفرصة للتخلص من حكم بني العباس الذي سامهم الجور والظلم والقتل والتشريد، يساندهم بذلك الشيعة في خراسان، المحيطون بمركز الخلافة مرو. فظهر نصر بن سيار بن شبث العقيلي - وهو من بني عقيل - في الشام، ومحمد ابن إبراهيم المعروف بابن طباطبا في الكوفة، وإبراهيم بن موسى بن جعفر (عليه السلام) في الحجاز، وزيد بن موسى بن جعفر (عليه السلام) المعروف بزيد النار في البصرة وغيرهم (15). وكان على المأمون إزاء هذه المواقف الحرجة أن يثبت سلطانه، ويقوي أركان حكمه الذي يوشك على الاضطراب والانفصال، وكان عليه أولا بعد مقتل أخيه واستقلاله بالحكم، أن يعهد بولاية العهد لأحد من بعده، ويختار من يراه صالحا لهذا الأمر، جريا على العادة التي اتبعها أسلافه. وكان عليه أن يكون دقيقا في الاختيار، انسجاما مع دقة الظروف التي عاشها في فترة خلافه مع أخيه وما بعدها، وأن يخضع كل خطوة يخطوها إلى حسابات دقيقة، تربط بين نتائج الماضي وتوقعات المستقبل، وتلائم بين الشعور الشيعي العلوي الذي يسيطر على جهة خراسان وما والاها، والشعور العباسي العنصري الذي يسيطر على جهة العراق وغيرها من الأطراف. فاختار لهذا الأمر الإمام الرضا (عليه السلام) لأسباب تعود لصالحه ، وفي نفس الوقت جعلها ورقة لمساومة العباسيين الناقمين عليه والمؤيدين لأخيه الأمين في الحكم. فقد جاء المأمون إلى الحكم، ورأى ما رأى من كثرة الشيعة، وإقبال الناس على الإمام الرضا (عليه السلام)، ونقمتهم على أبيه والحاكمين من أسلافه، فحاول المداهنة واستمالة الرأي العام، فأظهر التشيع كذبا ونفاقا، وأخذ يدافع ويناظر عن أفضلية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأحقيته بالخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) (16)، وهو لا يؤمن بشيء من ذلك، وإنما هو وسيلة لتثبيت ملكه وتوطيد سلطانه. ولم يكن في قرارة نفسه أن يخرج الخلافة من بني العباس إلى غيرهم من العلويين أو سواهم، ورغم تظاهره بالتشيع نظريا لا سلوكا ومنهجا في العمل، فإنه لا يألوا جهدا في المحافظة على التراث الذي تحدر إليه من آبائه إطارا ومحتوى، فالرشيد والمأمون كانا قد بنيا على أساس واحد وهو الاحتفاظ بالسلطة وإن اختلف شكل البناء، فلقد دس الرشيد السم للإمام الكاظم (عليه السلام)، ودس المأمون السم للإمام الرضا (عليه السلام)، ولكن المأمون قد استفاد من أخطاء أبيه الرشيد الذي جاهر بالعداء لأهل البيت (عليهم السلام)، فأحكم الخطط لإخفاء جرائمه وآثامه .
المصادر :
1- تفسير العياشي 1: 238 / 110، بحار الأنوار 79: 15 / 21.
2- خيط الرقبة: نخاعها.
3- التهذيب 6: 335 / 49، الكافي 5: 111 / 4، بحار الأنوار 49: 277 / 28.
4- إعلام الورى: 314، الإرشاد 2: 247، التتمة في تواريخ الأئمة عليهم السلام ص122
5- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 205 / 4 مناقب ابن شهرآشوب 4: 369
6- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 225 / 3، بحار الأنوار 49: 113 / 1، العوالم 22: 224 / 2
7- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 226 / 4
8- إثبات الوصية: 199، العوالم 22: 225 / 1
9- الكافي 8: 257 / 371، بحار الأنوار 49: 115 / 7، العوالم 22: 222 / 3
10- الإرشاد 2: 255، الكافي 1: 406 / 2، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 226 / 4، المناقب 4: 340
11- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 214 / 20، بحار الأنوار 49: 114 / 5، العوالم 22: 60 / 2
12- هو عيسى بن يزيد الجلودي، أحد قادة الرشيد الأشداء
13- العوالم 22: 361، عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 159 / 24
14- مروج الذهب 2: 414 - 416
15- مروج الذهب 3: 438 - 441
16- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 185 - 200 / 2، بحار الأنوار 49: 189 / 2
source : rasekhoon