الغضب
شدد الإمام الباقر(عليه السلام) في أمر الغضب، وحذر من عواقبه. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كان أبي يقول: أي شيء أشد من الغضب إن الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرم الله، ويقذف المحصنة)(1).
وكلما زاد غضب الرجل قل عقله وساء تصرفه وضعفت حيلته وقلت هيبته بين أهله ومجتمعه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه دخل النار. قال الإمام الباقر في ذلك:
(إن الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتى يدخل النار)(2).
قال أحد الشعراء:
لكل شيء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها أما الإمام الباقر فقد حذر من الغضب ووضع له علاجاً فقال (عليه السلام): (إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه وانتفخت أوداجه، ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض، فإن رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك)(3).
فدواء الغضب الصبر والحلم، فمن صبر على ما يكره ظفر بما يهدف إليه ورجز الشيطان لا دخل له في شؤون المؤمن، فلا يصغي إليه ولا يجعل لهواجسه سبيلاً إليه. قال الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله):
(إن المؤمن لينض شيطانه كما ينض أحدكم بعيره في السفر)(4).
فالمؤمن يصعب قياده على الشيطان ولا يصغي لوساوسه، اعتصاماً منه بدينه، واستلاماً عليه في ستر يقينه، فشيطانه أبداً متعب مكدود لطول منازعته القياد ومغالته الزمام (5).
فدواء الغضب الإيمان، والمؤمن صبور حليم.
الغيبة والبهتان
قال تعالى في كتابه العزيز: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)(6). فالله عز وجل يطلب إلينا البعد عن النميمة والغيبة لأن كل نمام مذموم عند ربه وفي مجتمعه. قال تعالى: (ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم)(7).
وفرق الإمام الباقر (عليه السلام) بين الغيبة والبهتان بقوله: (من الغيبة أن تقول: في أخيك ما ستره الله عليه، فأما الأمر الظاهر منه مثل الجدة والعجلة فلا بأس أن تقوله، وإن البهتان أن تقول في أخيك ما ليس فيه)(8).
العجب
قال الامام الباقر (عليه السلام): (عجباً للمختال الفخور، إنما خلق من نطفة ثم يعود جيفة وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يصنع به)(9).
ويقول الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (ورجل ينازع الله رداءه، فإن رداءه الكبرياء، وإزاره العظمة)(10).إن العظمة والكبرياء على حقيقتها صفتان لله عز وجل وتعنيان الكرامة التي يلقيها الله سبحانه على رسله وأنبيائه والقائمين بالقسط من عباده، فيعظمون بها في العيون، وإن كانت هيئاتهم ذميمة. والكبرياء والعظمة يكسوهما الله على عباده الصالحين.
وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (أعجب للمتكبر ألا يذكر أنه خرج من مخرج البول مرتين؟). فالإنسان أوله نطفة يخرج من بين الصلب والترائب، وآخره جيفة، (وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يصنع به) على حد قول الإمام الباقر (عليه السلام).
الصمت
دعا الإمام (عليه السلام) إلى عدم الخوض فيما لا يكسب فيه الإنسان فائدة أو يجني خيراً. قال (عليه السلام):
(إن هذا اللسان مفتاح كل خير وشر، فينبغي للمؤمن أن يختم لسانه كما يختم على ذهبه وفضته، فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (رحم الله مؤمناً أمسك لسانه من كل شر فإن ذلك صدقة منه على نفسه) (لا يسلم أحد من الذنوب حتى يخزن لسانه)(11). اللسان ترجمان العقل وميزان الكلام منه يخرج الخير ومنه يخرج الشر ويعود ذلك على قدرة صاحبه في التحكم بأقواله وأفعاله فيكون لسانه رهن إرادته وتكون كلماته ملك يده. قال أحد الحكماء: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني وإن لم أتكلم بها ملكتها. وقال أحد الحكماء: ليت لي عنقاً كعنق الحمل حتى إذا تكلمت بالكلمة هضمتها قبل النطق بها.
وقال أمير المؤمنين: لسان العاقل وراء قلبه ولسان الأحمق أمام قلبه. فالعاقل يفكر مليّاً بالكلمة قبل النطق بها لأنه يعلم جيداً أنه سوف يحاسب عليها أمام الله عز وجل وأمام الناس. وهذه صفات كل مؤمن الذي يمسك لسانه عن كل شر، ويطلقه في كل خير وبذلك يسلم من الذنوب والأخطاء أو على الأقل تقل أخطاؤه وتخف ذنوبه. أما من أفلت للسان العنان وأغفل مراقبة أخطائه فإنه يقع في شرورها.والصمت محبب في أوقات وغير محبب في أوقات أخرى، محبب عند الإصغاء وأخذ المعلومات المفيدة عن العلماء الفضلاء وكما يتعلم الإنسان فن التكلم والخطابة يتعلم أيضاً فن الإصغاء ومن أحسن الأخذ أحسن العطاء. ولا ريب أن العطاء الجيد في سبيل الله صدقة من الصدقات المباركة.
في رحاب الشعر والخطابة
كانت حياة الأئمة (عليهم السلام) حلقات متواصلة من الجهاد المتواصل في إصلاح المسلمين وإرشادهم، حافلة بتوجيههم إلى الطريق الصحيح، وموعظتهم إلى سبل الخير والرشاد. وكانوا (عليهم السلام) يسلكون كافة السبل لتوعية الناس، فمرة بالخطب، وأخرى بالوصايا، أو الحكم أو إلقاء الدروس. والشعر كما قالوا: ديوان العرب وأنيس النفوس وفاكهة المجالس، يستريح الإنسان الذواقة باستماعه، ويأنس صاحب الحواس المدربة والثقافة الأدبية بانسياقه.
وجرياً مع الناس في هذا الاتجاه جاء شعر الأئمة (عليهم السلام) جاء متمشياً مع اتجاههم في الدعوة إلى الخير، والحث على الفضيلة والأمر بمكارم الأخلاق. ومن هنا كان تعريف النقاد للشعر فقالوا: (الشعر هو الحق ينقله الشعور حياً إلى القلب).والمشهور عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه فتق أبواباً كثيرة في العلوم، وأسس معظم قواعدها كعلم الفقه وعلم الأصول..، وأنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب، ولم تنص المصادر المترجمة للإمام (عليه السلام) أنه كان ينظم الشعر. غير أن بعض المؤرخين نسبوا له بعض الأبيات منها:
فنحن على الحوض ذواده نذود ويسعد رواده
فما فاز من فاز إلا بنا وما خاب من حبنا زاده
فمن سرنا نال من السرور ومن ساءنا ساء ميلاده
ومن كان غاصبنا حقنا فيوم القيامة ميعاده (12)
وقال أيضاً:
عجبت من معجب بصورته وكان من قبل نطفه مذره
وفي غد بعد خسف صورته يصير في القلب جيفة قذره
وهو على عجبه ونخوته ما بين جنبيه يحمل العذره
وقال أيضاً مخاطباً العصاة:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن أحب مطيع (13)
ونقش على خاتمه:
ظني بالله حسن وبالنبي المؤتمن
وبالوصي ذي المنن وبالحسين والحسن(14)
وسواء أصح أن الإمام الباقر (عليه السلام) كان ينظم الشعر أم لم يصح، فإن من المقطوع به، إنه كان في طليعة البلغاء، لأنه نشأ في بيت الفصاحة والبلاغة. وقد دلت على ذلك المجموعات الضخمة من الحكم والمواعظ والاحتجاجات والحوارات التي سجلها له التاريخ وكلها تعد من الطراز الأول في فصاحتها وبلاغتها.
ومن رحاب الشعر إلى رحاب الخطابة:
جاء في كتاب أئمتنا للأديب علي محمد علي دخيل (تأسف ابن عباس أشد الأسف لأن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يتم خطبته الشقشقية، في حين أنه سمع منه (عليه السلام) مئات الخطب والوصايا، والحكم، وليت الزمن امتد بابن عباس ليشاهد حياة الأئمة (عليهم السلام) وما رافقها من ضيق واضطهاد. فهم لا يستطيعون أن يتكلموا فضلاً من أن يخطبوا، وقد يسمعهم ولاة الجور سب آبائهم من فوق منبر جدهم فلا يستطيعون الرد عليهم والإنكار في وجوههم. ثم تابع:إن عقيدتي فيما حفظ للأئمة (عليهم السلام) من أحاديث وتعاليم وسير وفضائل كان بطريق المعجز، وبعناية من الله سبحانه وإذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أسر أولياؤه مناقبه خوفاً، وكتمها أعداؤه حقداً ـ كما يقول الشافعي ـ فما هو الحال في أولاده (عليهم السلام)(15).
والحقيقة أن الحكم الأموي افتعل الكثير من المضايقات مع الشيعة وقام بأعمال إجرامية فظيعة وأخذ يطارد كل شيعي يحب أهل البيت وبصورة خاصة أمير المؤمنين ومن جاء بعده من أولاده وأحفاده من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) اعتقلوهم وضايقوهم ودسوا لهم السم، وأحرقوا مكتباتهم، وحاربوا كل من وقف بجانبهم من أدباء وشعراء وفقهاء وكتاب ومحدثين.
فبات من المعجز والحالة هذه إذا وصلتنا بعض خطبهم أو حكمهم أو أشعارهم لكن (يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)(16) وهذا بعض ما وجدناه من خطب الإمام الباقر (عليه السلام).
من خطبة له (عليه السلام) في الشام:
قال الإمام الصادق (عليه السلام): لما شخص أبي محمد بن علي إلى دمشق سمع الناس يقولون: هذا ابن أبي تراب!! قال: فأسند ظهره إلى جدار القبلة ثم حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي (صلّى الله عليه وآله) ثم قال:
(اجتنبوا أهل الشقاق وذرية النفاق، وحشو النار، وحصب جهنم عن البدر المزهر، والبحر الزاخر والشهاب الثاقب، وشهاب المؤمنين، والصراط المستقيم، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو يلعنوا كما لعن أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولاً. ثم قال بعد كلام له:
أبصنو رسول الله تستهزئون، أم بيعسوب (17) الدين تلمزون، وأي سبل بعده تسلكون، وأي حزن بعده تدفعون؟! هيهات هيهات برز الله بالسبق، وفاز بالخصل، واستوى على الغاية، وأحرز على الخطاب فانحسرت عنه الأبصار، وخضعت دونه الرقاب، وقرع الذروة العليا، فكذب من رام من نفسه السعي، وأعياه الطلب فأتى لهم التناوش (18) من مكان بعيد. وقال:أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا وإن عاهدوا وفوا وإن عقدوا شدوا (19)
فأنى يسد ثلمة أخي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ شفعوا، وشقيقه إذ نسبوا، ونديده إذ فشلوا، وذي قربى كنزها إذ فتحوا، ومصلي القبلتين إذ انحرفوا، والمشهود له بالإيمان إذ كفروا، والمدعي لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا، والخليفة على المهاد ليلة الحصار إذ جزعوا، والمستودع لأسرار ساعة الوداع… إلى آخر كلامه (20).
هذه الفقرات مقتطفات من خطاب الإمام الباقر (عليه السلام) وهو حفيد أبي تراب، وله ولأي إنسان، الشرف أن ينتسب إليه، وكلها تعنى بنشر مآثر أهل البيت، والتدليل على فضائلهم أمام ذلك المجتمع الذي تربى على بغضهم وعدائهم. فيا سبحان الله كم غرتهم هذه الدنيا الفانية وغرت أمثالهم. لكنهم فشلوا ولم يدروا لقد فضلوا جاه الدنيا على جنة الآخرة!!
وله خطبة أخرى (عليه السلام) في الشام جاء فيها:
لما حمل أبو جعفر إلى الشام إلى هشام بن عبد الملك وصار ببابه، قال هشام لأصحابه: إذا سكت من توبيخ محمد بن علي فلتوبخوه، ثم أمر أن يؤذن له فلما دخل عليه أبو جعفر قال بيده: السلام عليكم، فعمهم بالسلام جميعاً ثم جلس، فازداد هشام عليه حنقاً بتركه السلام عليه بالخلافة وجلوسه بغير إذن، فقال: يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين ودعا إلى نفسه، وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم، وجعل يوبخه، فلما سكت أقبل القوم عليه رجل بعد رجل يوبخه. فلما سكت القوم نهض قائماً ثم قال:أيها الناس أين تذهبون وأين يراد بكم، بنا هدى الله أولكم، وبنا ختم آخركم فإن يكن لكم ملك معجّل فإن لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك لأنا أهل العاقبة، يقول الله عز وجل: (والعاقبة للمتقين)(21) فأمر به إلى الحبس، فلم يبق رجل إلا ترشفه (22) وحسن عليه، فجاء صاحب الحبس إلى هشام وأخبره بخبره، فأمر به فحمل إلى البريد هو وأصحابه يردوا المدينة (23).
الكميت بن زيد الأسدي مع الإمام الباقر (عليه السلام)
عرف الكميت بحبه لأهل البيت منذ نشأته. ولد سنة 60هـ وهي السنة التي فجعت بها الأمة الإسلامية بقتل سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)(24). انطبعت نفسه بتلك المأساة المروعة وأخذت تتفاعل مع مشاعره وعواطفه، وظهر أثر ذلك في رثائه للإمام الحسين (عليه السلام) بشعر يفيض حزناً وأسى.
نشأ بالكوفة التي كانت عاصمة الشيعة ومنجم الثورات على بني أمية، وتربى على حب أهل البيت (عليهم السلام) وقد ظهر حبه لهم في شعره وبصورة خاصة في هاشمياته.
كان شعره منجماً من مناجم الأدب العربي، صرف معظمه في مديح بني هاشم وهجاء بني أمية، وعبر أصدق تعبير عن عواطفه تجاه ساداته الذين أخلص لهم في حبه ومودته وهذه لوحة من إحدى لوحاته الرائعة التي تمثل هذا الاتجاه:
وقالوا: ورثناها أبانا وأمنا وما ورثتهم ذاك أم ولا أب
يرون لهم حقاً على الناس واجباً سفاهاً وحق الهاشميين أوجب
ثم يعرج على ما ذهب إليه من أحقية أهل البيت بالخلافة فيقول:
يقولون: لم يورث ولولا تراثه لقد شركت فيه بكيل وأرحب
وعك ولخم والسكون وحمير وكندة والحيان بكر وتغلب (25)
وقد أقام شعره في مدح بني هاشم على الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم. يقول مخاطباً بني هاشم:
وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا تقي ومعرب
وفي غيرها آياً وآياً تتابعت لكم نصب فيها الذي الشك منصب (26)
يشير في البيت الأول إلى قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)(27).وفي البيت الثاني إلى قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)(28).
وإلى قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه)(29).
وقوله تعالى: (واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى)(30).
اتسم شعر الكميت في مدحه لأهل البيت (عليهم السلام) بأنه صادق اللهجة، قوي العاطفة، متين الإيمان الخالص الذي لا يشوبه أي شائبة من أعراض الدنيا، فقد كان يبغي فيه وجه الله عز وجل والدار الآخرة. يقول:
إلى النفر البيض الذي بحبهم إلى الله فيما نالني أتقرب أخلص في حبه وهواه لأهل البيت (عليهم السلام) لأنه لم ير وسيلة غيرهم تقربه زلفى إلى الله تعالى.
مع الإمام الباقر (عليه السلام):
عرف الكميت بحبه الخالص للإمام الباقر (عليه السلام) فكان شاعره الخاص وقد تلا عليه بعض هاشمياته وقصائده التي نظمها في حق أهل البيت (عليهم السلام) أخذت مأخذها في نفس الإمام (عليه السلام) فشكره عليها ودعا له بالمغفرة والرضوان.
ولا يرى الكميت أحداً في هذه الدنيا يستحق الولاء والتقدير غير سيده أبي جعفر (عليه السلام) دخل عليه وهو يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم لم يبق إلا شامت أو حاسد
وبقي على ظهر البسيطة واحد فهو المراد وأنت ذاك الواحد (31)
كان الكميت مقيماً في الكوفة، فاشتد به الوجد إلى رؤيا الإمام فسافر إلى يثرب، ولما دخل إلى حضرة الإمام تلا عليه قصيدته التي يذكر فيها تعطشه لرؤياه يقول فيها (32):
كم جزت فيك من أحواز وإيقاع وأوقع الشوق بي قاعاً إلى قاع
يا خير من حملت أنثى ومن وضعت به إليك غدي سيري وإيضاعي
أما بلغتك فالآمال بالغة بنا إلى غاية يسعى لها الساعي
من معشر شيعة الله ثم لكم صور إليكم بأبصار وأسماعي
دعاة أمر ونهي عن أئمتهم يوحي بها منهم واع إلى واعي
رثاؤه لسيد الشهداء (عليه السلام)لما ترعرع الكميت ذهل كغيره من الناس بأهوال تلك المأساة التاريخية الخالدة في دنيا الأحزان. والجميع ينوح وينادي في الأندية والمجالس ما عاناه ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من فواجع الخطوب التي هزت مشاعره وعواطفه.
هذه القصيدة تمثل ذوب روحه وعمق عاطفته ونبل شعوره يروي المؤرخون أنه وفد على الإمام الباقر (عليه السلام).
فقال له: يا ابن رسول الله قد قلت فيكم أبياتاً من الشعر أفتأذن لي بإنشادها؟
أجابه (عليه السلام): إنها أيام البيض (33) التي يكره فيها إنشاد الشعر.
هي فيكم خاصة.
هات ما عندك.
فانبرى يقول:
أضحكني الدهر وأبكاني والدهر ذو صرف وألوان
لتسعة بالطف قد غودروا صاروا جميعاً رهن أكفان
تألم الإمام الباقر(عليه السلام) كثيراً حينما سمع رثاء جده سيد الشهداء وأغرف في البكاء وبكى معه ولده الإمام الصادق (عليه السلام) كما بكت العلويات من وراء الخباء، ولما بلغ إلى قوله:
وسنة لا يتجارى بهم بنو عقيل خير فرسان
ثم علي الخير مولاهم ذكرهم هيج أحزاني
بكى الإمام (عليه السلام)، وذكر له ما أعد الله من الثواب الجزيل لمن يذكر أهل البيت، ويحزن لحزنهم، ولما بلغ قوله:
من كان مسروراً بما مسّكم أو شامتاً يوماً من الآن
فقد ذللتم بعد عز فما أدفع ضيماً حين يغشاني
أخذ الإمام الباقر(عليه السلام) بيد الكميت ودعا له قائلاً:
(اللهم اغفر للكميت ما تقدم من ذنبه وما تأخر..).
ولما بلغ قوله:
متى يقوم الحق فيكم متى يقوم مهديكم الثاني
عندها التفت إليه الإمام (عليه السلام) وعرفه بأن المهدي (عليه السلام) هو الإمام المنتظر الذي يملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، سأله الكميت عن زمان خروجه فقال (عليه السلام): لقد سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن ذلك، فقال: إنما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلا بغتة (34).
المشهور من شعره في حبه وولائه لأهل البيت هاشمياته والمشهور من هاشمياته قصيدته (الميمية) التي أنشدها عند الإمام الباقر (عليه السلام) وهي تعد من أروع الشعر العربي في تصوير انطباعات الكميت عن أهل البيت (عليهم السلام) تصويراً واقياً رائعاً.
يقول في مطلعها:
من لقلب متيّم مستهام غير ما صبوة ولا أحلام
يمدح فيها بني هاشم فيقول:
إنهم معدن الجود والكرم، وأساس العدل بين الناس، تحلوا بالشجاعة وكانوا المأوى، والملجأ لأيتام الفقراء والمحرومين. وهم الذين يملكون العقول النيرة لإرشاد الناس وهدايتهم لأنهم الحكماء الماهرون في معالجة أمراض النفوس بحكمتهم ودرايتهم وعلومهم. كانوا مصدر خير وسعادة لجميع الناس وهم أكرمهم جوداً وجدوداً. لقد فاقوا جميع مراحل التاريخ بأصالة فكرهم وخصوبة رأيهم وصدق حديثهم.
المصادر:
1- جامع السعادات ج1 ص289.
2- نفسه ج1 ص289.
3- نفسه ج1 ص289.
4- المجازات النبوية ص410 وينضي: يسبب له الهزال من كثرة إجهاده في السير خلفه لإغوائه ثم لا يحصل الشيطان على طائل بسبب الرجل الهزال لبعيره من كثرة السير.
5- مغالته الزمام: أي كلما أمسك الشيطان بزمام المؤمن ليقوده في غوايته، يشد المؤمن زمامه من يد الشيطان ويفلته منه.
6- سورة الحجرات، الآية 12.
7- سورة القلم، الآية 10 و11، وهماز: مغتاب الناس. مشاء بنميم: يسعى بالإفساد بين الناس.
8- تحف العقول ص298.
9- حياة الإمام محمد الباقر للقرشي ج1 ص304.
10- المجازات النبوية ص440.
11- تحف العقول ص298.
12- تحف العقول ص214 وأعيان الشيعة ج2 ص80.
13- كشف الغمة ص218 وبحار الأنوار ج11 ص77 ونسبها بعضهم للإمام زين العابدين (عليه السلام).
14- الدمعة الساكبة ص403.
15- أئمتنا ج1 ص357.
16- سورة التوبة، الآية 32.
17- التناوش: التناول.
18- يعسوب الدين: يعني الإمام أمير المؤمنين.
19- هم في السلم أوفياء وفي الحرب أبطال أقوياء.
20- المناقب ج2 ص29 وبحار الأنوار ج11 ص91.
21- سورة هود، الآية 49 وسورة الأعراف، الآية 128.
22- ترشفه: قام بخدمته.
23- المناقب ج2 ص280 وأصول الكافي ج1 ص471.
24- الغدير ج2 ص211.
25- الهاشميات ص42.
26- الهاشميات ص40.
27- سورة الشورى، الآية 23.
28- سورة الأحزاب، الآية 33.
29- سورة الإسراء، الآية 26.
30- سورة الأنفال، الآية 41.
31- روضات الجنات ج6 ص56.
32- تأسيس الشيعة ص189 وأعيان الشيعة ج4 ص516 وقد نسبت هذه الأبيات إلى زيد الأسدي شقيق الكميت.
33- الأيام البيض هي: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وسميت لياليها بيضاً لأن القمر يطلع فيها من أولها وإلى آخرها.
34- الغدير ج2 ص200.مميزات فقه أهل البيت عليهم السلام
source : rasekhoon