القلب والروح و النفس
و هو يطلق لمعنيين أحدهما اللّحم الصنوبري الشكل، المودع في الجانب الأيسر من الصدر، و هو لحم مخصوص و في باطنه تجويف و في ذلك التجويف دم أسود و هو منبع الرّوح و معدنه و لسنا نقصد الآن شرح شكله و كيفيّته فلا يتعلّق به الأغراض الدّينيّة و إنّما يتعلّق بذلك غرض الأطبّاء، و هذا القلب موجود للبهائم بل هو موجود للميّت، و نحن إذا أطلقنا اسم القلب في هذا الكتاب لم نعن به ذلك، فإنّه قطعة لحم لا قدر لها و هو من عالم الملك و الشهادة إذ تدركه البهائم بحاسّة البصر فضلا عن الآدميّين، و المعنى الثاني هو لطيفة ربّانيّة روحانيّة لها بهذا القلب الجسماني تعلّق، و تلك اللّطيفة هي حقيقة الإنسان و هو المدرك العالم العارف من الإنسان و هو المخاطب و المعاتب و المطالب، و لها علاقة مع القلب الجسماني، و قد تحيّرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته، فإنّ تعلّقها به يضاهي تعلّق الأعراض بالأجسام، و الأوصاف بالموصوفات، أو تعلّق المستعمل للآلة بالآلة، أو تعلّق المتمكّن بالمكان، و شرح ذلك ممّا نتوقّاه لمعنيين أحدهما أنّه متعلّق بعلوم المكاشفة و ليس غرضنا في هذا الكتاب إلا علوم المعاملة، و الثاني أنّ تحقيقه يستدعي إفشاء سرّ الرّوح و لم يتكلّم فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم«» فليس لغيره أن يتكلّم فيه، و المقصود أنّا إذا أطلقنا القلب في هذا الكتاب أردنا به هذه اللّطيفة و غرضنا ذكر أوصافها و أحوالها لا ذكر حقيقتها في ذاتها، و علم المعاملة يفتقر إلى معرفة صفاتها و أحوالها و لا يفتقر إلى ذكر حقيقتها.
الرّوح
و هو أيضا يطلق فيما يتعلّق بجنس غرضنا لمعنيين
المحجةالبيضاء ج : 6 ص : 6
أحدهما جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني و ينتشر بواسطة العروق الضّوارب إلى سائر أجزاء البدن، و جريانها في البدن و فيضان أنوار الحياة و الحسّ و السمع و البصر و الشمّ منها على أعضائها يضاهي فيضان النور من السراج الّذي يدار في زويا الدّار فإنّه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا و يستنير به، فالحياة مثالها النور الحاصل في الحيطان، و الرّوح مثالها السراج و سريان الرّوح و حركتها في الباطن مثاله مثال حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محرّكه، و الأطبّاء إذا أطلقوا اسم الرّوح أرادوا به هذا المعنى و هو بخار لطيف أنضجته حرارة القلب، و ليس غرضنا شرحه إذ المتعلّق به غرض أطبّاء الّذين يعالجون مرض الأبدان، فأمّا غرض أطبّاء الدّين المعالجين للقلوب حتّى تنساق إلى جوار ربّ العالمين، فليس يتعلّق بشرح هذا الرّوح أصلا، و المعنى الثاني هو اللّطيفة الربّانيّة العالمة المدركة من الإنسان و هو الّذي شرحناه في أحد معنيي القلب و هو الّذي أراده اللّه تعالى بقوله:
و يسألونك عن الرّوح قل الرّوح من أمر ربّي«» 17: 85و هو أمر عجيب ربّانيّ يعجز أكثر العقول و الأفهام عن درك كنه حقيقته.
اللفظ الثالث النّفس
و هذا أيضا مشترك بين معان، و يتعلّق بغرضنا منه معنيان أحدهما أنّه يراد به المعنى الجامع لقوّة الغضب و الشهوة في الإنسان على ما سيأتي بيانه، و هذا الاستعمال هو الغالب على الصّوفيّة لأنّهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصّفات المذمومة من الإنسان فيقولون: لابدّ من مجاهدة النفس و كسرها و إليه الإشارةبقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«أعدى عدوّك نفسك الّتي بين جنبيك«»»
المعنى الثاني هو اللّطيفة الّتي ذكرناها الّتي هي الإنسان في الحقيقة، و هي نفس الإنسان و ذاته و لكنّها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها فإذا سكنت
المحجةالبيضاء ج : 6 ص : 7
تحت الأمر و زايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سمّيت النّفس المطمئنّة، قال اللّه تعالى:يا أيّتها النفس المطمئنّة. إرجعي إلى ربّك راضية مرضيّة 89: 27 - 27«»و النّفس بالمعنى الأوّل لا يتصوّر رجوعها إلى اللّه، فإنّها مبعّدة عن اللّه تعالى، و هي من حزب الشيطان، و إذا لم يتمّ سكونها و لكنّها صارت مدافعة للنّفس الشّهوانيّة و معترضة عليها سمّيت النفس اللّوامة لأنّها تلوم صاحبها عند تقصيره في عبادة مولاها، قال اللّه تعالى:و لا اقسم بالنفس اللّوّامة«» 75: 2و إن تركت الاعتراض و أذعنت و أطاعت لمقتضى الشهوات و دواعي الشيطان سمّيت النّفس الأمّارة بالسوء، قال اللّه تعالى إخبارا عن يوسف عليه السّلام:و ما أَبرِّئ نفسي إنَّ النفس لأمّارة بالسّوء 12: 53«»و قد يجوز أن يقال: المراد بالأمّارة بالسّوء هي النّفس بالمعنى الأوّل، فإذن النّفس بالمعنى الأوّل مذمومة غاية الذّمّ، و بالمعنى الثاني محمودة لأنّها نفس الإنسان أي ذاته و حقيقته العالمة باللّه تعالى و بسائر المعلومات.
source : دار العرفان / المحجة البیضاء