العقيدة الحقّة في المعاد هو الاعتقاد باعادة الله تعالى جسد الانسان بروحه في يوم القيامة ، ليجزى على أعماله السائدة ويعيش الحياة الخالدة.
لا اعادة الروح فقط كما هو المحكي عن جمهور الفلاسفة ..
ولا البدن فقط كما هو المحكي عن أصحاب نفي النفس الناطقة ..
بل اعادة جسم الانسان بروحه المعبّر عنه بالمعاد الجسماني ، فيعود الانسان بعينه وروحه وجسده بحيث لو رآه الرائى قال هذا فلان ،
كما يدلّ على هذا المعاد القرآن الكريم ، وأحاديث الشرع القويم ، ودليل العقل السليم ، وتحقّق فيه اجماع المسلمين ، بل جميع المليّين.
لذلك عرّفه الفاضل المقداد بأنه هو :
(الوجود الثاني للأشخاص الانسانيّة ، بعد موتها ، لأخذ الحق منها أو ايفائه) (1).
وعرّفه الشيخ الطريحي بقوله :
(بعث الأجسام البشريّة ، وتعلّق أنفسها بها ، للنفع والانتصاف والجزاء) (2).
وعرّفه السيّد الخونساري بقوله :
(رجوع الانس والجن بعد الموت بالحياة ، حتّى يجدوا جزاء أعمالهم الصادرة قبل الموت) (3).
والأدلّة القطعيّة متّفقة متظافرة ، وعلميّة متواترة في إثبات هذا الأصل الأصيل ، والاعتقاد النبيل ، الذي هو الأصل الخامس من اُصول الدين العظيم ، ودعائم الاسلام القويم بصريح الكتاب والسنّة والاجماع والعقل.
بل هو من ضروريّات الانسان ، ومرتكزات الوجدان ، وثابتٌ في جميع الأديان ، واعترف به جميع الأديان والمذاهب في جميع العصور ، إلاّ الدهريّين والطبيعيّين الذين شذّوا عن الحقّ المبين ، وادّعوا : إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.
والأدلّة القطعيّة القائمة على المعاد تزيّف هذا الادّعاء والالحاد.
ويحسن أن نشرح الكلام ونبيّن المرام في مقامين :
الأول : الأدلّة القائمة على المعاد.
الثاني : مراحل القيامة للعباد ومن الله تعالى نسأل التوفيق والتسديد انّه هو الوليّ الحميد.
أدلّة المعاد
المعاد حقيقة يقينيّة ثابتة بكلا الطريقين : الأدلّة الشرعيّة ، والبراهين العقليّة ، أمّا الأدلّة الشرعيّة فكما يلي :
1 ـ دليل الكتاب :
ما أكثر الآيات القرآنيّة الكريمة التي أثبتت هذه الحقيقة العظيمة ، وأكّدت على هذه الواقعة المنتظرة الصادقة.
بحيث جعلتها وعداً حقّاً لا يمكن تخلّفه فقال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّـهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّـهُ مَن يَمُوتُ بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (4).
بل أقسم عليه في قوله تعالى في : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) (5).
واستدلّ لوقوعه ودفع استبعاده بقوله تعالى : (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (6).
وبقوله تعالى :
(وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) (7).
وبقوله عزّ اسمه :
(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (8).
وردّ الله تعالى على منكريه بقوله عزّ شأنه (9) :
(وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ...).
وقال أيضاً : (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (10).
وبيّن تعالى انّ الحشر للجميع بلا استثناء في قوله تعالى (11) :
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا).
وأرشد الله جلّ جلاله إلى أنّ المعاد ضرورة لازمة وحكمة بالغة لمجازات المحسن والمسيء بالعدل فقال تعالى (12) :
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).
وبيّن البرهان الوجداني والدليل العياني بوقوعه فعلاً في هذه الدنيا لئلّا يبقى أدنى شك وريب واستبعاد في صدق هذه الحقيقة ووقوعها.
فقال تعالى في قصّة ابراهيم الخليل عليه السلام (13).
(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) الخ.
وقال عزّ اسمه في قصّة النبي حزقيل (14).
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ) الخ.
وقال جلّ وعلا في قصّة النبي أيّوب (15).
(وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ) الخ. راجع التفصيل في التفسير.
فتلاحظ أنّ الحجّة الاهيّة قد تمّت في إعلان المعاد ، وتجلّت في بيان هذا اليوم للعباد ، فأعذرت حين أنذرت بهذا الموقف الرهيب ، والملتقى المهيب بقوله عزّ من قائل (16) :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ اللَّـهِ شَدِيدٌ).
وبيّنت صفات ذلك اليوم العجيب بما أشارت إليه في أسمائهم الحاكية عنه ، وحقّاً هو يوم عظيم كما تنبّىء عنه أسماء يوم القيامة :
1 ـ يوم الحساب : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (17).
2 ـ يوم التناد : (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) (18).
3 ـ يوم الجمع : (تُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ...) (19).
4 ـ يوم التغابن : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) (20).
5 ـ يوم الفصل : (هَـٰذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) (21).
6 ـ الطّامة الكبرى : (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) (22).
7 ـ اليوم الموعود : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) (23).
8 ـ اليوم المشهود : (ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ) (24).
9 ـ يوم الحسرة : (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (25).
10 ـ يوم التلاق : (لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّـهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) (26).
11 ـ يوم الآزقة : (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (27).
12 ـ الحاقّة : (الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) (28).
13 ـ القارعة : (الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) (29).
14 ـ يوم القيامة : (فَاللَّـهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (30).
علماً بأن يوم القيامة ذكر في القرآن الكريم في 70 موضعاً من القرآن الكريم كما جمعت في المعجم ، ص 581.
وهذا يدلّ على يقينيّة ذلك اليوم الرهيب ، وعظمة ذلك الموقف العجيب ، والله تعالى هو المعين ببركة أهل البيت الطيّبين عليهم السلام.
ولو أردنا استقصاء ما ورد في القرآن الكريم لشؤون القيامة من الآيات البيّنات لاستلزم الصفحات المفصّلات نتركه اختصاراً.
لذلك نكتفي بالاستدلال بجملة من الآيات المباركة التي تفيد المعاد بالجسم والروح لتكون دليلاً على أصل العود الانساني والمعاد الجسماني بالاضافة إلى عود الروح ، ومنها :
1 ـ قوله تعالى في سورة فصّلت ، الآية 21 :
(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّـهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ).
والآية المباركة صريحة في بعثة الجلود في المعاد ، حيث تخاطب وتنطق بقدرة الله تعالى.
2 ـ قوله تعالى في سورة يس ، الآيتان 78 و79 :
(قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ). وهي صريحة في إحياء العظام يوم القيامة.
3 ـ قوله تعالى في سورة النور ، الآية 24 :
(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وهي صريحة في بعثة الأبدان بألسنتهم والأيدي والأرجل التي هي أعضاء الجسم.
4 ـ قوله تعالى في سورة القيامة ، الآيتان 3 و4 :
(أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ).
وهي مفيدة لاعادة أجزاء وجزئيات بدن الانسان كالبنان وهي الأنامل بما تشتمل عليه من الخطوط.
5 ـ قوله تعالى في سورة القمر ، الآية 7 :
(خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ).
هذه الآية الشريفة تبيّن حتّى صفاتهم وحالاتهم البدنيّة وخشوعهم في معادهم وحشرهم.
6 ـ قوله تعالى في سورة النساء ، الآية 56 :
(كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ).
حيث يستفاد منها المعاد بالجلد وشعور الجلد بألم العذاب.
وهذه الآيات الكريمة تدلّنا بأوضح دلالة وأفصح بيان أن عودة الانسان تكون بيده ورجله وجلده وبصره ولسانه وعظامه مع ادراكه واحساسه ، ممّا يقطع معها بكون المعاد بالجسم والروح معاً لا الروح فقط بدن أيّ تردّد وتأويل ، أو شكّ أو احتمال عليل ، خصوصاً مع التعبير في سورة الحج ، الآية 7 بقوله عزّ اسمه :
(وَأَنَّ اللَّـهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ).
فبديهي أن الذي في القبر هو البدن لا الروح ، وهو الذي يبعث بعد احياء الله تعالى له ونفخ الروح فيه.
وبهذا يظهر لك أنّ المعاد يوم القيامة حقيقة ثابتة جليّة في الآيات القرآنية التي هي حجّة الهيّة وأدلّة علميّة ..
فهي عقيدة اسلاميّة حقّة يلزم تصديقها والاذعان بها ...
وقد تبث المعاد معاداً بالجسم حتّى في الكتب السماوية السابقة ..
ففي التوراة ، الكتاب الأول لصموئيل ، الباب 2 ، الجملة 6 : (الله يميت ويحيي ويُدخل في القبور ويبعث منها).
وفي زبور داود عليه السلام ، السورة العاشرة : (أيّها الناس لا تغفلوا عن الآخرة ولا تغرّنكم الحياة لبهجة الدنيا ونضارتها ، يا بني إسرائيل! لو تفكّرتم في منقلبكم ومعادكم وذكرتم القيامة وما أعددت فيها للعاصين قلّ ضحككم وكثر بكاؤكم ، ولكنكم غفلتم عن الموت ، ونبذتم عهدي وراء ظهوركم ، واستخففتم بحقّي كأنّكم لستم بمسيئين ولا محاسبين ...).
وفي انجيل يوحنا ، الباب 5 ، الجملتين 27 و28 : (تأتي ساعة يسمع جميع من في القبور صوته ، ويخرجون منها ، فكلّ من عمل حسناً له الحياة السعيدة ، ومن عمل سيّئاً له الجزاء السيّء).
وعليه فالقرآن الكريم والكتب السماويّة ناطقة بالمعاد ، ومثبتة لعود العباد.
2 ـ دليل السنّة :
الأحاديث الشريفة متظافرة متواترة في يوم الدين وحشر العالمين بصورةٍ تفيد العلم اليقين بيوم المعاد وقيامة العباد.
نختار منها جملة من أحاديث النبي والعترة سلام الله عليهم فيما يلي يستدلّ بها على أصل المعاد وكونه معاداً جسمانيّاً ، فمنها :
1 ـ خطبة أميرالمؤمنين عليه السلام المعروفة بالغرّاء ، جاء فيها :
«حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ وَتَقَضَّتِ الدُّهُورُ وَأَزِفَ النُّشُورُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ وَأَوْكَارِ الطُّيُورِ وَأَوْجِرَةِ السِّبَاعِ وَمَطَارِحِ الْمَهَالِكِ سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِه ...» (31).
2 ـ حديث الامام الصادق عليه السلام :
«إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ أَمْطَرَ السَّمَاءَ عَلَى الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً فَاجْتَمَعَتِ الْأَوْصَالُ وَنَبَتَتِ اللُّحُوم» (32).
3 ـ حديث الاحتجاج عن الامام الصادق عليه السلام في جواب المسائل جاء فيه :
«أَفَتَتَلاشَى الرُّوحُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ قَالَبِهِ أَمْ هُوَ بَاقٍ؟
قَالَ عليه السلام : بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى وَقْتٍ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَبْطُلُ الْأَشْيَاءُ وَتَفْنَى فَلا حِسَّ وَلا مَحْسُوسَ ثُمَّ أُعِيدَتِ الْأَشْيَاءُ كَمَا بَدَأَهاَ مُدَبِّرُهَا وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ يَسْبُتُ فِيهَا الْخَلْقُ وَذَلِكَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ.
قَالَ : أَنَّى لَهُ بِالْبَعْثِ وَالْبَدَنُ قَدْ بَلِيَ وَالْأَعْضَاءُ قَدْ تَفَرَّقَت؟
قَالَ عليه السلام : إِنَّ الَّذِي أَنْشَأَهُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ، وَصَوَّرَهُ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَانَ سَبَقَ إِلَيْهِ ، قَادِرٌ أَنْ يُعِيدَهُ كَمَا بَدَأَه» (33).
4 ـ حديث الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام :
«قالت : يَا أَبَتِ أَخْبِرْنِي كَيْفَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
قَالَ : يَا فَاطِمَةُ يُشْغَلُونَ فَلا يَنْظُرُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ وَلا وَالِدٌ إِلَى الْوَلَدِ وَلا وَلَدٌ إِلَى أُمِّه ...» (34).
5 ـ حديث الامام الصادق عليه السلام :
«سُئِلَ عَنِ الْمَيِّتِ يَبْلَى جَسَدُهُ؟ قَالَ : نَعَمْ حَتَّى لا يّبْقَى لَهُ لّحْمٌ وَلا عَظْمٌ إِلّا طِينَتُهُ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا ، فَإِنَّهَا لا تُبْلَى تَبْقَى فِي الْقَبْرِ مُسْتَدِيرَةً حَتَّى يُخْلَقَ مِنْهَا كَمَا خُلِقَ أَوَّلَ مَرَّةٍ» (35).
6 ـ الحديث النبوي المبارك :
«يَا بَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ إِنَّ الرَّائِدَ لا يَكْذِبُ أَهْلَهُ وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ وَلَتَبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ وَمَا بَعْدَ الْمَوْتِ دَارُ إِلّا جَنَّةُ أَوْ نَارٌ وَخَلْقُ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَبَعْثُهُمْ عَلَى اللهِ عَزَّوَجَلَّ كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَعْثِهَا ...» (36).
7 ـ حديث الخطبة العلويّة الشريفة :
«اسْمَعْ يَا ذَا الْغَفْلَةِ وَالتَّصْرِيفِ مِنْ ذِي الْوَعْظِ وَالتَّعْرِيفِ جُعِلَ يَوْمُ الْحَشْرِ يَوْمَ الْعَرْضِ وَالسُّؤَالِ وَالْحِبَاءِ وَالنَّكَالِ يَوْمَ تُقَلَّبُ إِلَيْهِ أَعْمَالُ الْأَنَامِ وَتُحْصَى فِيهِ جَمِيْعُ الْآثَامِ يَوْمَ تَذُوبُ مِنَ النُّفُوسِ أَحْدَاقُ عُيُونِهَا وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا وَتَفَرَّقُ مِنْ كُلِّ نَفْسٍ وَجِيبُهَا وَيَحَارُ فِي تِلْكَ الْأَهْوَالِ عَقْلُ لَبِيبِهَا ...
إلى قوله عليه السلام : يَا لَهَا مِنْ سَاعَةٍ مَا أَشْجَى مَوَاقِعَهَا مِنَ الْقُلُوبِ حِينَ مُيِّزَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقُ فِي السَّعِيرِ ، مِنْ مِثْلِ هَذَا فَلْيَهْرَبِ الْهَارِبُونَ ، إِذَا كَانَتِ الدَّارُ الْآخِرَةُ لَهَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ».
8 ـ كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أهل مصر مع محمّد بن أبي بكر :
«يَا عِبَادَ اللهِ إِنَّ بَعْدَ الْبَعْثِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ الْقَبْرِ يَوْمَ يَشِيبُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَيَسْكَرُ فِيهِ الْكَبِيرُ وَيَسْقُطُ فِيهِ الْجَنِينُ وَتَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرِيرٌ يَوْمَ كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ، إِنَّ فَزَعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَيُرْهِبُ الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ لا ذَنْبَ لَهُمْ وَتَرْعُدُ مِنْهُ السَّبْعُ الشِّدَادُ وَالْجِبَالُ الْأَوْتَادُ وَالْأَرْضُ الْمِهَاد ...» (37).
9 ـ حديث الامام الرضا عليه السلام :
«إِنَّ أَوْحَشَ مَا يَكُونُ هَذَا الْخَلْقُ فِي ثَلاثَةِ مَوَاطِنَ يَوْمَ يُولَدُ وَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ أُمَّهِ فَيَرَى الدُّنْيَا ، وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيُعَايِنُ الْآخِرَةَ وَأَهْلَهَا ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَيَرَى أَحْكَاماً لَمْ يَرَهَا فِي دَارِ الدُّنْيَا» (38).
10 ـ الحديث العلوي الشريف :
«إِنَّ فِي الْقِيَامَةِ لَخَمْسِينَ مَوْقِفاً كُلُّ مَوْقِفٍ أَلْفُ سَنَةٍ فَأَوَّلُ مَوْقِفٍ خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ حُبِسُوا أَلْفَ سَنَةٍ عُرَاةً حُفَاةً جِيَاعاً عِطَاشاً ،
فَمَنْ خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ مُؤْمِناً بِرَبِّهِ ، وَمُؤْمِناً بِجَنَّتِهِ وَنَارِهِ ، وَمُؤْمِناً بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْقِيَامَةِ ، مُقِرّا بِاللهِ ، مُصَدِّقاً بِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وآله وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّوَجَلَّ نَجَا مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَش ...» (39).
فالسنّة متوترة قطعيّة بل فوق التواتر مضافاً إلى الكتاب الكريم في اثبات المعاد ، وهي توجب الاعتقاد اليقيني بذلك اليوم المصيري.
وليست الأحاديث من طريق الخاصّة فقط بل حتّى من طريق العامّة كما تلاحظ أحاديثهم في أبواب الحشر من كنز العمّال ج 14 ، ص 355 إلى ص 676.
3 ـ دليل الاجماع :
بالاضافة إلى الأدلّة المتقدّمة تحقّق الاجماع من كلّ أهل دينٍ وملّة على يوم المعاد وجزاء العباد.
بل أصبح في الاسلام من البديهيّات في الشرع المبين ، ومن الضروريّات عند المسلمين ، بحيث يوجب العلم واليقين على الصعيد الاعتقادي الصحيح.
قال الشيخ الصدوق رحمه الله :
(اعتقادنا في البعث أنّه حق) (40).
وقال العلّامة الحلّي من محكي كتاب أنوار الملكوت الذي هو شرح كتاب الياقوت لأبي اسحاق إبراهيم النوبختي من قدماء المتكلّمين :
(اتّفق المسلمون على اعادة الأجسام خلافاً للفلاسفة) (41).
وقال المحقّق نصيرالدين الطوسي :
(الضرورة قاضية بثبوت الجسماني من دين النبي صلّى الله عليه وآله) (42).
وقال المحقّق الدواني من محكي كتاب شرح العقائد العضديّة :
(والمعاد ـ أي الجسماني فانه المتبادر من إطلاق أهل الشرع ، إذ هو الذي يجب الاعتقاد به ويكفر من أنكره ـ حقّ باجماع أهل الملل الثلاثة) (43).
وقال شيخ الاسلام المجلسي :
(اعلم أن القول بالمعاد الجسماني ممّا اتّفق عليه جميع المليّين ، وهو من ضروريّات الدين ، ومنكره خارج عن عداد المسلمين.
والآيات الكريمة في ذلك ناصّة لا يُعقل تأويلها.
والأخبار فيه متواترة لا يمكن ردّها ولا الطعن فيها.
وقد نفاه أكثر ملاحدة الفلاسفة تمسّكاً بامتناع اعادة المعدوم ولم يقيموا دليلاً عليه ، بل تمسّكوا تارة بادّعاء البداهة ، واُخرى بشبهات واهية لا يخفى ضعفها على من نظر فيها بعين البصيرة واليقين ، وترك تقليد الملحدين من المتفلسفين) (44).
وقال السيّد شبّر :
(فالقول بالمعاد الجسماني ممّا اتّفق عليه جميع المليّين ، وهو من ضروريّات الدين ... وقد نفاه أكثر ملاحدة الفلاسفة تمسّكاً بامتناع اعادة المعدوم ، ولم يقيموا دليلاً على ذلك ولا برهاناً شافياً هنالك ، بل تمسّكوا تارة في مثل هذا المطلب العظيم والأمر الجسيم في مقابلة الآيات القرآنيّة والأحاديث المتواترة المعصوميّة بالبداهة ، وتارة بشبهات واهية أوهن من بيت العنكبوت ، وانه لأوهن البيوت ...
القول بالمعاد الجسماني والروحاني معاً أقوى المذاهب ، وهو الذي دلّت عليه الآيات القرآنيّة ، والأحاديث المعصوميّة ، وأيّدته المؤيّدات العقليّة) (45).
وقال الشيخ كاشف الغطاء الكبير في تعداد المعارف التي هي من اُصول الاسلام ومن أنكر واحداً منها عرف بالكفر بين الأنام :
(الثالث : المعاد الجسماني ، ويجب العلم بأنّه تعالى يعيد الأبدان بعد الخراب ، ويعيدها هيئتها الاُولى بعد أن صارت إلى التراب ، ويُحلّ بها الأرواح على نحو ما كانت ، ويضمّها إليها بعد ما انفصلت وبانت) (46).
فتلاحظ أنّ الوفاق والاجماع على المعاد صريح في كلمات علمائنا الأمجاد ، اتّفاقاً من جميع الديّانين ، واجماعاً من كلّ المسلمين ، بحيث قال الرازي في محكي كتاب نهاية العقول :
(نعلم باضطرار اجماع الأنبياء من أوّلهم إلى آخرهم على اثبات المعاد البدني فوجب القطع بهذا المعاد) (47).
4 ـ دليل العقل :
مضافاً إلى الأدلّة السالفة القطعيّة يحكم العقل أيضاً في أحكامه اللزوميّة بيوم المعاد وقيامة العباد لوجوه ذكرنا بعضها في مبحث العقائد (48) وهي :
أولاً :
أن الكون كما نراه ونجده مبنى على أساس العدل ونظم العدالة ، وبالعدل قامت السماوات والأرض.
ومضافاً إلى كون قيام السماوات والأرض على نظام العدل والحق أمراً وجدانيّاً عقليّاً يستفاد هذا النظام من بعض الأحاديث الشريفة أيضاً.
ففي الحديث النبوي :
«بِالعَدلِ قامَتِ السموات وَالأَرض» (49).
وفي الحديث العلوي :
«فانّ الحقّ به قامَتِ السموات وَالأرض» (50).
وما من خلل يخالف العدل إذا وقع في الكون إلاّ وظهرت مساويه ، وبدت مفاسده.
وعلى هذا النظام الأساسي يُلزم العقل باستقرار العدل بمعاقبة المجرم ، وإثابة المحسن.
ومن المعلوم أنّه لا تحصل هذه الحقيقة ، ولم يتحقّق هذا الحق في هذا العالم بالبداهة ...
فلابدّ وأن يتشكّل عالمٌ يُقضى فيه بالعدل ، ويحكم فيه بالانصاف ، فينتصف من الظالم ، ويُنتصر للمظلوم.
ولولاه لذهبت حقوق العباد ، وضاعت الدماء بالفساد وهو ظلمٌ لا يقبله العقل في جزء حقير وزمانٍ يسير في هذا الكون ، فكيف بمرّ الأجيال في الأزمنة الطوال ، على ظهرجميع الأرض البسيطة ، وبالنسبة إلى جميع الخلق والخليقة.
لذلك يحكم العقل على أساس العدل بتحقّق يوم الفصل.
ثانياً :
أن الحكمة الالهيّة البالغة تقضي بيوم المعاد ومجازاة العباد ، وإلاّ لكان التكليف وعناء الكلفة عبثاً ، وكان إرسال الأنبياء لغواً ، وكان الوعد والوعيد باطلاً ، وحاشا الحكيم العليم عن ذلك أبداً.
فلابدّ وأن يتحقّق العود والرجوع هنالك باقتضاء الحكمة ، حتّى لا يلزم العبث واللغو والبطلان.
فيحكم العقل على أساس حكمة الله الحكيم بتحقّق ذلك اليوم العظيم لمجازات التكاليف وانجاز مواعيد الأنبياء ، وقد كان إكتساب الطاعة والعصيان بالجسم والروح معاً ، فلابدّ بحكم العقل من رجوع كليهما معاداً.
ثالثاً :
أنّه لو لم يكن ذلك اليوم الخالد ولم يظهر الفرق بين المطيع والعاصي في الجزاء لتساوي الأنبياء النبلاء مع أشقى العصاة الأشقياء ، ولتعادل جبابرة الكافرين مع كبار المؤمنين ، واستوى البر والفاجر ، وتوازن الظلم والعدل والحق مع الباطل والنور مع الظلمة.
وهذا شيء قبيح ، مخالفٌ للحق الصريح ، فيحكم العقل باستحالته على الله تعالى ، والحكيم المولى.
وعليه فالعقل حاكم على أساس الحسن وعدم استلزام القبح بضروريّة يوم الحشر للانسان ، وقيام المعاد والميزان ، لتمييز الحق وإبطال الباطل ، وتمييز المطيع عن العاصي.
رابعاً :
انّ الوجدان الذاتي يدرك بكلّ وضوح أنّ الانسان لم يخلق للحياة الحيوانيّة والأكل والشرب والتمتع والتلذّذ في العالم الدنيا فحسب ..
فقد زوّد بالعقل الحكيم الذي يوصل الانسان إلى أعلى مستويات الكمال ، ولا يقف على حدّ ، إلى أن يصل إلى ما قال خالقه سبحانه وتعالى : (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ) (51).
وإلاّ لكان اعطاؤه العقل لغواً ، تعالى الحكيم عن ذلك فمقتضى الحكمة الالهيّة بالحكومة العقليّة أن لا تختم حياة الانسان بالحياة الدنيويّة فقط ، بل لابدّ من الحياة الاخرى والوصول إلى الدرجات العلى ، والحياة الفضلى.
خامساً :
أنّ الفطرة الانسانيّة بنفسها تقضى بمجازاة الظالم ، ومؤاخذة الجاني الغاشم ..
حتّى فطرة الملحدين ومنكري ربّ العالمين ، لذلك تراهم يعاقبون السارق ويؤاخذون المتجاوز ، ويدعون إلى تشكيل أجهزة قضائيّة ، ومحاكم عدليّة للجزاء والانتصاف وتلاحظ أن كلّ انسان ـ إلاّ من شذّ ـ يشعر لأبديّة الجزاء في ضميره ووجدانه.
فيحسّ بهالة من السرور والاطمئنان اذا وفّق لعمل صالح ، وفي قباله يحسّ بكابوسٍ من الغم واللوم إذا ارتكب قبيحاً أو جناية ...
وما ذلك إلاّ لفطريّة الجزاء ، ووجدانيّة المجازات.
فحقانيّة يوم القيامة ثابتة بمنطق العقل ووحي الفطرة ، مضافاّ إلى ما تقدّم من الأدلّة.
وقد عرفت أنّ اكتساب المحاسن والطاعات ، والمعاصي والسيّئات يكون بالبدن والروح معاً ، وفيجب عود كليهما جزاءً.
ومن أجلى الحقائق ما يدركه الانسان من كمال الارتباط بين الروح والبدن في حياته العمليّة ومشاعره الوجدانيّة من كلّ حركة وسكون وفعل وترك ، فينبغي تعلّق الثواب والعقاب بكليهما.
لذلك فالعقل حاكم بالمعاد الانساني .. الجسماني والروحاني معاً.
علماً بأنّه لا يوجد أيّ إشكالٍ رادع ، ولا محالٍ مانع عن عود الأجسام في بعثة الأنام.
وهذا برهان وجداني ودليل عقلي على يوم المعاد ، بلا ريب ولا اشكال.
والشبهات التي ألقاها بعض الملحدين هي تخيّلات باطلة مقابل حكم العقل السليم ، بل هي معارضته لكلام القادر الحكيم.
والشبهات هذه هي كما يلي نذكرها مع جوابها :
الشبهة الأُولى :
ما ذكره منكروا المعاد الجسماني من الفلاسفة بأنّ الانسان يصير بموته معدوماً ، والمعدوم يستحيل اعادته بواسطة انعدامه ، فلا يمكن عود الانسان بجسمه.
والجواب : انّ هذه الشبهة غفلة عن حقيقة الموت والمعاد ، وخلطٌ بين الموت والانعدام.
فانّ الموت في الحقيقة ليس انعداماً لأجزاء الانسان ، بل هو تفريق لأجزائه ، وتشتيت لأعضائه.
والمعاد ليس اعادة المعدوم ، بل هو اعادة تلك الأجزاء المتفرّقة والأعضاء المتشتّتة ، ونفخ للروح الباقي في ذلك الجزء الأصلي من الجسم الذي لا يفنى ولا ينعدم ، كما يرشد إليه حديث الامام الصادق عليه السلام المتقدّم :
«لا يَبْقَى لَهُ لَحْمٌ وَلا عَظْمٌ إلّا طِينَتُهُ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا ، فَإِنَّهَا لا تُبْلَى ، تَبْقَى فِي الْقَبْرِ مُسْتَدِيرَةً حَتَّى يُخْلَقَ مِنْهَا كَمَا خُلِقَ أَوَّلَ مَرَّةٍ» (52).
وأمّا قوله تعالى في سورة الرحمن ، الآية 26 : (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) فليس معنى الفناء الانعدام ، بل هو بمعنى الهلاك وعدم البقاء كما يشهد له قوله تعالى بعد ذلك في قباله : (وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ).
ويشهد له أيضاً قوله عزّ اسمه في سورة القصص ، الآية 88 : (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).
فلا انعدام في أصل البدن ، ولا في روحه ، ولا استحالة في الاعادة بجمع أجزاء البدن ونفخ الروح فيها بقدرة الله تعالى العالم بكلّ جزء والمحيط بكلّ شيء.
ويرشدنا إلى كون الموت تفريقاً لا انعداماً والاحياء جمعاً للأجزاء لا اعادة للمعدوم نفس البيان القرآني في قضيّة سيّدنا إبراهيم الخليل عليه السلام قال عزّ اسمه في سورة البقرة ، الآية 260 : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا).
فإنّ من المعلوم انّ الأحياء الذي بيّنه الله تعالى لابراهيم الذي سأل عن كيفيّته كان نفخ الصور بعد تفريق أجزاء الطيور لا انعدامها.
ويرشدنا إلى بقاء الروح وعدم فناءه حديث الامام الصادق عليه السلام المتقدّم : «بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى وَقْتٍ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» (53).
وحتّى قد بيّنت الأحاديث الشريفة محل بقاء تلك الأرواح وموطن اقامتها كما في حديث عبدالله بن سنان عن الامام الصادق عليه السلام في بيان أنهار الجنّة ، جاء في الحديث :
«إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا تُوُفِّيَ صَارَتْ رُوحُهُ إِلَى هَذَا النَّهَرِ وَرَعَتْ فِي رِيَاضِهِ وَشَرِبَتْ مِنْ شَرَابِهِ وَإَنَّ عَدُوَّنَا إِذَا تُوُفِّيَ صَارَتْ رُوحُهُ إِلَى وَادِي بَرَهُوتَ (54) فَأُخْلِدَتْ فِي عَذَابِهِ وادي برهوت : هو وادٍ منخفض في حضرموت باليمن الجنوبي ، يعرف بوادي حضرموت ، يبعد عنه 200 كيلومتراً ، ويمتدّ هذا الوادي إلى مسافة 320 كيلومتراً كما في الموسوعة العربيّة
وَأُطْعِمَتْ مِنْ زَقُّومِهِ وَأُسْقِيَتْ مِنْ حَمِيمِهِ فَاسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي» (55).
فالأرواح اذاً لا تفنى بل هي باقية بعد الموت كما صرّحت به الأحاديث المتظافرة ، واستقرت عليه العقيدة الحقّة.
قال الشيخ الصدوق (56).
(واعتقادنا فيها ـ الأرواح ـ أنها خُلقت للبقاء ، ولم تُخلق للفناء ، لقول النبي صلى الله عليه وآله : «وما خُلقتم للفناء ، بل خُلقتم للبقاء ، وإنّما تنتقلون من دار إلى دار ...» فهي باقية ، منها منعّمة ، ومنها معذّبة ، إلى أن يردّها الله تعالى بقدرته إلى أبدانها).
وقال العلّامة المجلسي (57).
(اعلم أنّ الذي ظهر من الآيات الكثيرة والأخبار المستفيضة والبراهين القاطعة هو أنّ النفس باقية بعد الموت ، إمّا معذّبة إن كان ممّن محض الكفر ، أو منعّمة إن كان ممّن محض الايمان ، أو يُلهى عنه إن كان من المستضعفين).
وقال السيّد شبّر (58).
(الموت عبارة عن خروج الروح عن هذا البدن ومفارقتها إيّاه ، وجسم الروح في نهاية اللطافة والشفافيّة كأجسام الملائكة وسائر الأجساد السماويّة ، تبقى محفوظة الميسرة : ص 726.
وذكر في معجم البلدان : ج 1 ، ص 405 : أن في وادي برهوت بئراً ماؤها أسود حكى الأصمعي عن بعض أهل حضرموت : انا نجد في ناحية برهوت الرائحة المنتنة الفظيعة جدا ، فيأتينا بعد ذلك أن عظيماً من عظماء الكفار مات ، فنرى أن تلك الرائحة منه ، وعن ابن عيينة أنّه أخبرني من أمسى ببرهوت انه سمع منه أصواتاً وضجيجاً بقدرة الله تعالى).
فبقاء الروح ممّا لا ينبغي الشكّ فيه ، وسيأتي الدليل عليه كتاباً وسنّةً واجماعاً بل حتّى العقل والوجدان يشهد ببقائه ، وحيويته ، وتصرّفاته كما ثبت في العلم الحديث ، ولمسته المقابلات الروحيّة بين الأحياء وبين الأموات على الصعيد الروحي .
وغير خفيّ أنّ اعادة تلك الأرواح إلى أبدانها بالرغم من تشتّت البدن ولزوم جمع أعضائه ليس من العسير على الله تعالى الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكلّ خلق عليم.
وقد أبان الله تعالى قدرته المطلقة في الأحياء والاماتة في آيات كتاب الكريم : فهو الذي الأرض جميعاً قبضته والسماوات مطويّة بيمينه ، ولا يخفى عليه شيء وهو قادر على كلّ شيء.
الشبهة الثانية :
شبهة الآكل والمأكول ، أي أن المأكول صار جزءاً لبدن الآكل فكيف يحشر؟
والجواب : أنه تندفع هذه الشبهة من حديث الكافي المتقدّم : المصرّح ببقاء الطينة الأصليّة المستديرة التي خُلق منها.
حيث يستفاد بقاء الجسم الاوّلى الصغير ، ولا تصير جزء مستحيلاً لبدن الآكل بل تبقى حتّى لو أكلت وبلى جسم الآكل في التراب ، وحتّى لو انتقل إلى بدن آخر ...
فتبعث تلك الطينة الأصليّة ، ويعيدها الله تعالى إلى خلقتها الأوليّة المأكولة.
كما أنّ نفس الآكل يحشر بخلقته الأصليّة ، عارياً عن تلك الطينة ، لتميّز الأجزاء وعود كلّ جزء إلى أصله ، بقدرة الله تعالى العالم المحيط بكلّ شيء علماً.
الشبهة الثالثة :
بأيّ جسم يُحشر الانسان ، حيث قد تبدّل الجسم في حياته ، وتغيّر في جزئيّاته على مرّ الأعوام التي عاش فيها؟
والجواب : أنّ جميع أطوار الجسم تتلخّص في الجسم الأخير الذي يموت به الانسان ويُدفن في قبره ، ويصير تراباً في قبره للأخير من جسمه ، مع أنّ كلّ تراب بدن في أطوار بدنه محفوظ في الأرض غير خارج عنه ، فيجتمع جميع أتربته ، ويعود تراب كلّ جسم إلى قالبه ، كما صرّح به حديث الاحتجاج المتقدّم الذي ورد فيه (فيجتمع تراب كلّ قالب إلى قالبه).
ولا استحالة لهذا الجمع في الأسباب والوسائل العاديّة كالمغناطيس الذي يجمع برادة الحديد المنتشرة في الأرض ، فكيف بقدرة الله تعالى القادر على كلّ شيء والعالم بكلّ جزء.
الشبهة الرابعة :
كيف تسع الأرض حشر الجميع مع كثرة الوجودات الانسانيّة والحيوانيّة ، في الأزمنة الطويلة ، ومحدوديّة الأرض؟
الجواب : قوله عزّ اسمه في سورة الانشقاق ، الآية 3 ـ 4.
(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ).
فانّ في امتداد الأرض وتوسيعها بقدرة الله تعالى وانبساطها حينئذٍ أكبر امكان وكفاية لحشر جميع الخلق بأبدانهم وأرواحهم.
فمسألة المعاد الجسماني حق بلا ريب ، ولا شبهة فيه ولا اشكال.
المصادر :
1- إرشاد الطالبيين : ص 385.
2- مجمع البحرين : ص 219.
3- العقائد الحقّة : ص 164.
4- سورة النحل ، الآية 38.
5- سورة التغابن ، الآية 7.
6- سورة الاسراء ، الآيات 49 – 51.
7- سورة مريم ، الآية 66 ـ 67.
8- سورة الروم ، الآية 27.
9- سورة الواقعة ، الآيات 47 ـ 62.
10- سورة يس ، الآيتان 78 ـ 79.
11- سورة الكهف ، الآية 47.
12- سورة النجم ، الآية 31.
13- سورة البقرة ، الآية 260.
14- سورة البقرة ، الآية 259.
15- سورة ص ، الآية 43.
16- سورة الحج ، الآيتان 1 ـ 2.
17- سورة ص ، الآية 26.
18- سورة غافر ، الآية 32.
19- سورة الشورى ، الآية 7.
20- سورة التغابن ، الآية 9.
21- سورة المرسلات ، الآية 38.
22- سورة النازعات ، الآية 34.
23- سورة البروج ، الآيتان 1 ـ 2.
24- سورة هود ، الآية 103.
25- سورة مريم ، الآية 39.
26- سورة غافر ، الآيتان 15 ـ 16.
27- سورة غافر ، الآية 18.
28- سورة الحاقّة ، الآيات 1 ـ 3.
29- سورة القارعة ، الآيات 1 ـ 3.
30- سورة البقرة ، الآية 113.
31- نهج البلاغة : ج 1 ، ص 131 ، الخطبة 80.
32- البحار : ج 7 ، ص 39 ، ح 8.
33- الاحتجاج : ج 2 ، ص 97.
34- جامع الأخبار : ص 449 ، الحديث 1385.
35- الكافي : ج 3 ، ص 251 ، باب النوادر ، ح 7.
36- البحار : ج 7 ، ص 47 ، ب 3 ، ح 31.
37- البحار : ج 7 ، ص 102 ، ب 5 ، ح 16.
38- البحار : ج 7 ، ص 104 ، ب 5 ، ح 18.
39- البحار : ج 7 ، ص 111 ، ب 5 ، ح 42.
40- الاعتقادات للشيخ الصدوق : ص 64.
41- حكاه في حقّ اليقين : ج 2 ، ص 36.
42- تجريد الاعتقاد المفصلات : ص 300.
43- حكاه في حقّ اليقين : ج 2 ، ص 37.
44- بحار الأنوار : ج 2 ، ص 47.
45- حقّ اليقين : ج 2 ، ص 27 و38.
46- كشف الغطاء : ص 3.
47- حكاه في حقّ اليقين : ج 2 ، ص 36.
48- العقائد الحقّة : ص 400.
49- عوالي اللئالي : ج 4 ، ص 103.
50- نهج السعادة : ج 4 ، ص 221.
51- سورة النجم ، الآية 42.
52- الكافي : ج 3 ، ص 251 ، ح 7.
53- الاحتجاج : ج 2 ، ص 97.
54- وادي السلام : هو الوادي المبارك في ظهر الكوفة ، [لاحظ تاريخ النجف الأشرف : ج ، ص 38].
55- بحار الأنوار : ج 6 ، ص 287.
56- الاعتقادات : ص 47.
57- البحار : ج 6 ، ص 270.
58- حقّ اليقين : ج 2 ، ص 48.
source : rasekhoon