لم یعد الحدیث عن الاِیمان حدیثاً تکراریاً ، ولا خطاباً «رجعیاً» کما کان یذاع من قبل الدعوات المادیة وهی فی ذروة تصاعدها وفی طور التأسیس لکیاناتها المستقلّة، لم یعد کذلک بعد أن وجدت هذه الدعوات نفسها مضطرة إلى استعارة الکثیر من قیم الاِیمان ومبادئه السامیة.. ذلک حین أثبتت لها تجارب الحیاة ان دعوتها المادیة إنّما هی «مثالیة» من نمط آخر ، إذ أنها کانت ترید أن تصنع انساناً غیر هذا الانسان ، أو أنها کانت تظنّ ان ما جاءت به الاَدیان إنّما هو محض خرافة ، فلمّا عرکتها التجارب أدرکت بأنّها غارقة فی خیال بعید حین خیل إلیها إنّ الاِنسان ما هو إلاّ کتلة من اللحم والدم والعظام التی یجب أن تعیش فی اطار هذه المکونات ـ ولاَجلها وحسب ـ فمن الطبیعی ان تهزم مثل هذه الاَفکار أمام طبیعة الاِنسان الثنائیة التی لا یمکن الغاء إحدى قطبیها بحال من الاَحوال.. فلم یعد الاِیمان إذن حدیث خرافة انما هو حدیث طبیعة الاِنسان وطبیعة الحیاة أیضاً .
ومن ناحیة أُخرى ، عندما ندقق النظر ، نجد أن القرآن الکریم حین تحدث عن الایمان ، فقد تحدث عنه فی أبعاد متعددة ، ولم یجعله حدیثاً تأنس به الروح فی یومها من أجل أن تطمئن لغدها ، اُنساً صوفیاً وحسب .
لقد تحدث القرآن عن الاِیمان کقضیة فرد یرجو لقاء ربه والفوز فی الحیاة الآخرة: ( إنَّ الذینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحاتِ اُولئکَ هُم خَیرُ البریَّة ) .1)
(أفَمَن کانَ مُؤمِناً کَمَن کانَ فاسِقاً لا یَستَوونَ ) (2)
(کُنتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْکِتَابِ لَکَانَ خَیْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَکْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) .3)
وتحدّث عنه کقضیة مجتمع وأُمّة ، لها دورها الاَکبر فی تقریر مصیرها الحضاری ووجودها على الاَرض : ( وألَّوِ استَقَامُوا على الطَّریقةِ لاَسقیناهُم مَّآءً غَدَقاً)(4)
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَیْهِم بَرَکَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰکِن کَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا کَانُوا یَکْسِبُونَ)(5)
وتحدث عنه قیماً إنسانیة عالیة کفیلة بصنع المجتمع الاَمثل : (تِلْکَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لَا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ)) .6)
هذه هی صورة الاِیمان وحقیقته ، وهذه هی أبعاده ، فلیس هو اُنساً صوفیاً یحبس المرء فی صومعته ، ولا هو مجرّد دعوى تلجُّ بها الاَلسن أیضاً ، بل هو الآفاق الشاسعة التی تتعلق بالفکر والسلوک والنظم والعلائق الاِنسانیة بأسرها ، وهی آفاق واسعة جداً یضیق المدلول اللغوی لکلمة (الاِیمان) عن ضبطها وحصرها ، فضلاً عن احتوائها . ولهذا کان الاِیمان سراً فی نهضة أُمم وازدهارها ، وکان الکفر سرّاً فی انهیارها وضیاعها .
إذن ، حینما ندرس الاِیمان والکفر ، فلسنا ننهمک فی مداعبة الروح وتخدیرها بالآمال ، ولا تخویفها بالاَهوال ، کما قد یتخیل البعض بنظرة تبسیطیة سطحیة ، وإنّما ندرس فی الواقع معادلات الحیاة البشریة کلّها ، والتی یشکل الفرد والمجتمع أبرز محاورها .
والله تعالى هو المستعان ، وهو الهادی إلى سواء السبیل و الحمدُ لله الذی حبَّبَ الاِیمان لعباده ، وزیّنَهُ فی قلوبهم ، وکَرَّهَ إلیهم الکُفر والفُسوقَ والعصیانَ .
لا یخفى أنَّ الاِیمان بالله وملائکته وکتبه ورسله هو ذروة العقیدة الحقّة وسنام الدین الاَعلى ، مما ینبغی على المسلمین فی کل عصر وجیل أن یکون (الاِیمان) هو المقیاس الحقیقی للتفاضل بینهم بعیداً عن جمیع الاعتبارات الاُخرى التی لم یعطها کتاب الله العزیز قیمة ولا وزناً ، وهو لیس شعاراً یرفعه من یشاء ، وإنما هو سلوک وأدب وخلق وممارسة تتجسد فی حیاة الفرد بالحرص الشدید على بغض کل شر وحب کل خیر وبثه .
وإذا کان کل مولود یولد مؤمناً على الفطرة وإنما أبواه یهودانه أو ینصرانه أو یمجسانه ، فإنّ هذا المبدأ الاستعدادی للاِیمان منذ الوهلة الاُولى لکلِّ مولود جدید غیر کافٍ للوصول إلى الغایة الواضحة التی رسمها القرآن الکریم للاِیمان ما لم یقترن ذلک الاستعداد بتربیة صحیحة وتوجیه سدید وتعلیم متقن ، وإلاّ فلا بدَّ من اهتزاز المثل الاِیمانیة الرفیعة التی تؤدی إلى انحسار الاِیمان الحق شیئاً فشیئاً إلى أن ینسحب ظله من النفوس لا قدّر الله .
ولا أخال أحداً عاقلاً لا یعی ما للاِیمان من دور فعّال فی حیاة الفرد والمجتمع ، فنظرة واحدة إلى ما أحرزته الاُمم المتقدمة من انتصارات کبیرة فی الاَبعاد المادیة کتسخیرها للطبیعة وتحقیقها تقدماً باهراً فی الطب والتصنیع والاتصال ، تکفی شاهداً على ما نقول ، لاَنَّ هذا التقدّم لم یؤثّر إیجابیاً فی حیاتها النفسیة ، فلم تجد الطمأنینة والاَمن النفسی بعد ، ولم تذق طعم السلام إلى الیوم ، وتنتاب أفرادها موجة من الشک والقلق والخوف من المستقبل ، تدفعهم إلى الهروب من الحیاة أو الانتحار الذی أصبح ظاهرة ملفتة للنظر فی المجتمعات الغربیة ، لذلک أخذ علماؤها ومفکروها یدقون أجراس الخطر .
کما لم یؤثّر التقدم المادی المشهود فی أبعادها الخُلقیة إذ یلاحظ کثرة وتنوع مظاهر الفساد فی أکثر البلدان وتفشی ظاهرة الجریمة والشذوذ وتعاطی المخدرات على أوسع نطاق . وفوق ذلک لم یحدث تطور فی تصور الاِنسان عن غایة الوجود وأهداف الحیاة الاِنسانیة .
والمثیر فی الاَمر بروز مظاهر جدیدة للکفر تقف وراءها مؤسسات عملاقة أخذت تحارب الاِسلام وتحاول النیل من مبادئه والحط من مکانة ومصداقیة رموزه .
وأخذت دائرة الکفر تتسع بظهور جماعات تنتشر فی کافة القارات ، وتدعوا ـ علناً ـ لعبادة الشیطان ! ، وقد أوجدت لهذه الغایة طقوساً خاصة وأماکن مخصصة ، مستفیدة من أحدث وسائل الاتصال لنشر أفکارها الهدّامة ، لذلک وجدنا الحاجة ماسة للحدیث عن قضیة الاِیمان والکفر ، ونعتقد أنها من القضایا الحیویة الاَولیة التی یجب إعطاءها ما تستحقه من أهمیة .
صحیح أنّ هناک من تضیق عدسة الرؤیة لدیه ، ولا یرغب الحدیث عن الاِیمان والکفر ، ویرى أنها قضیة جانبیة هامشیة ، وأنّ فی الدّنیا قضایا حیاتیة أهم . ولکن غاب عن هؤلاء أنّها من القضایا المصیریة التی یتوقف علیها مصیر الفرد والمجتمع معاً . خصوصاً وأنّ الاِیمان مصدر خیر للبشریة ، وأنّ الکفر مصدر شرٍّ لها عبر تاریخها الطویل ، فقد کبّل عقول الناس بالخرافات والاَساطیر وحط من أخلاقهم وحال دون رقیهم ، کما جلب لهم الخصام والتنازع ولم یذوقوا طعم السلام .
ولاَجل بیان ما یلزم بیانه ، قسّمنا البحث على فصول أربعة وخاتمة ، آملین أن تسهم فی تشخیص معالم الکفر والاِیمان وبیان أثرهما على الفرد والمجتمع کخطوة مبارکة ـ إن شاء الله ـ فی دعم فطرة الاِنسان الاولى وتقویتها وصیانتها والحفاظ علیها من مغبة الانزلاق فی مسالک الحیاة المادیة مع الاَخذ بید المؤمنین إلى ما یقوی إیمانهم ویرفعه درجات .
المصادر :
1- البینة / 7
2- السجدة /18
3- آل عمران / 110
4- الجن /16
5- الاعراف /96
6- القصص /83
source : rasekhoon