بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين ...وبعد
لقد قمت بطرح هذا الدرس، كي يتسنى لعشاق القرآن خاصة المبتدئين منهم، تعلم وإتقان علم المقامات، والتي عادة مايُقرأ بها القرآن الكريم، والإتقان لهذه المقامات، إنما يأتي عن طريق الإستماع إلى دروس الأساتذة المختصين، وكذلك الإستماع المتكرر إلى مقاطع من آيات الذكر الحكيم، المقروءة بمقامات مختلفة, المجموعة في جملة صنع بسحر, وهي: الصبا, النهاوند, العجم, البيات, السيكا, الحجاز, الرست.
و فروع هذه المقامات هي : الجهاركا, والكرد والشوری والنكريز, وغيرها.
ملاحظة هامّة :
إن لم تكن متقنا لأحكام التجويد، ومخارج الحروف الصحيحة، والقراءة المعربة الصحيحة, فلا تهدر وقتك بتعلم المقامات، بل يجدر بك؛ أن تتقن أوليات القراءة، ومن ثم تتعلم أحكام التجويد، وضبط الكلمات ضبطاً صحيحاً، ولفظ الحروف لفظاً سليماً, بعدها تستطيع أن تسعى لتحصيل هذا العلم .
تمهيد لعلم المقامات :
في البداية سنشرح للذين يتوجسون ريبة من المقامات والنغمات، ويعتقدون بأنها جاءت من أهل الغناء واللهو , وهذا ليس صحيحاً ...
الحقيقة أن المقامات، هي نغمات لحنية، إشتهرت عند أهل الأمصار والأصقاع الإسلامية, فاشتهر كل مِصْرٍ وقطْرِ بنغمته المشهورة، وصارت تُعرف بهم ، أقدّم مثالاً لذلك، مثلاً ( مقام الحجاز )، إشتهر هذا المقام عند أهل الحجاز، وهذه هي نغمتهم المعروفة عند قراءتهم للقرآن الكريم .
مثال آخر، نغمة البيات اشتهرت في العراق، وعرفت بالبيات لأنها قُرأت أو ابتُكرت من قبل قبيلة معروفة هناك، وهي قبيلة البياتي، حيث اشتُهرت بها، ولازالت هذه القبيلة موجودة إلى الآن ، وتفتخر بانتساب هذا المقام إليها .
وكمثال آخر هناك مقام أسمه النهاوند: وهذا المقام ينسب إلى بلدة تسمى ( نهاوند) وهي مدينة في إيران.
نستنتج من هذه الأمثلة، بأن المقامات والنغمات اشتُهرت أو عُرفت نسبة إلى بعض الدول أو المدن أو القبائل، حيث كان الطابع الأغلب لألحانهم على تلك المقامات، فيقرؤون القرآن حسب نغماتهم المشهورة عندهم .
تنبيه :
قبل أن نبدأ لابد من الإشارة، وهو أن هذه المقامات لابد أن توظف في مكانها المناسب، فلايصح أن نلحن انشودة رثاء بمقام الرست مثلا، أو مقام السيكاه، والمقام المناسب للأناشيد هو مقام الصبا، وسنشرح مع كل مقام مناسبته ومعناه.
ملاحظة أخيرة، لابد أن نركز عليها : وهي الإستماع الى أساتذة هذا الفن، والدروس التي تهتم بهذه المقامات .
يمكن لمن يطلب هذا العلم أن يسلك طريقين لتحصيله، الطريق الأول هو الطريق النظري، وهو يعتني بتبين النوتات الموسيقية على ورق الموسيقا, وفك طلاسمها, من صعود ونزول, وقرار وجواب, وحركات وسكنات, وعوائل وأجناس, وأصول وفروع الخ... وعندما يحصل الطالب هذه المطالب, يبتدئ بالتطبيق على الآلات الموسيقية (في أغلب الأحيان)، أو بواسطة الصوت من خلال الغناء، وهذا مايوقع الطالب في إشكال شرعي, لحرمة استخدام الآلات الموسيقية، وحرمة الغناء، لذا فالكثير من طلاب هذا العلم يسلكون الطريق الثاني.
أما الطريق الثاني، الذي ينمي في الطالب الأذن الموسيقية، بدفعه للإستماع المكرر إلى مقرئ يمتلك طبقة صوت متقاربة لطبقة صوت الطالب، فأصوات الناس مختلفة، بعضهم يمتلك صوتا رفيعا, وبعضهم يمتلك صوتا متينا فخما.
وعلى الطالب أن يعلم أولا، ماهو النوع الذي يتلائم وصوته وما حده، فهل صوته أقرب إلى القرار؟ أو الجواب؟ أو جواب الجواب؟ وهل يستطيع أن يقرأ بالقرار, ويصعد إلى الجواب, ومن ثم إلى جواب الجواب, أم أن صوته محدود، فلا يقدر إلا على القرار والجواب، لذلك عليه أن يكتشف خاصية صوته قبل أن يشرع بالتدريب, حتى لا يحمل صوته ما لا طاقة له, فيجرحه ويشوهه.
وبعد أن يجد الطالب مقرئا يناسب صوته, يجب أن يستمع إلى ترتيله أولاً, ويدمن الإستماع إليه, حتى يتمكن من تقليده في الترتيل، بعدها يبتدئ الإستماع إلى تحقيق (تجويد) مقرئه، وبعد أن تترسخ قراءات التحقيق في ذهن الطالب، يتدخل المعلم، ويعطي الطالب آيات لذاك المقرئ، مقروءة بمقام البيات مثلا، وعلى الطالب أن يحاول جاهداً، تقليد المقرئ بطرق شتی، حتى يتقن مقام البيات، بقراره وجوابه وفروعه، ومن ثم ينتقل إلى مقام آخر, كالرست، ويعيد الكرة حتى يتقنه، ومن ثم السيكا, وبعده الصبا, وبعده العجم, وبعده النهاوند, وأخيرا الحجاز.
وعلى الطالب أيضاً أن يسجل قراءته بين الحين والآخر ويستمع إليها, حتى يعلم إن كان هناك تقدم في أدائه, أو إن كانت هناك ملاحظات، تستوجب المبادرة إلى رفعها وتجنبها في القراءة مستقبلاً، ولا يجب على الطالب أن يتبع هذا الترتيب بالذات، بمعنى الإعتماد كلياً على هذا النمط من التعلّم، بل يجب عليه أن يتبع أذنه، فإن استساغت أذنه مقام النهاوند وأحبته وعشقته, فعليه حينئدِ أن يبدأ به أولا، وهكذا حتى ينهي المقامات السبعة، عندها؛ إذا استمع الطالب إلى آية من مقرئه, فسيعرف في الحال على أي مقام قُرأت، وهذه المرحلة من التدريب تأخذ وقتا طويلا, قد يعد بالسنوات، وبعد اجتياز هذه المرحلة, ستتكون لدى الطالب نظرة أكثر وضوحا.
تعريف المقام :
هو عبارة عن مجموعة من نغمات و أصوات مرتبة مبنية بعضها فوق بعض, أساسه (أوکتاف) کامل ذو ثمانية أصوات، إنّ المقام هو الأساس الذي تبنی عليه الألحان .
تعريف الأوکتاف :
إن الأوکتاف ( الديوان ) يؤلف من ثمانية أصوات، وهذا الصوت الثامن المضاف يكون جواباً للصوت الأول الذي هو القرار، الأصوات : ( Do – Re – Mi – Fa – Sol – La – Si - Do )
تعريف الدرجة ( الإستقرار أو الرکوز ) :
إن المقام يمتلك مستقراً له , يعرف به ويدل به وينتهي به، ومثال ذلك: مقام الراست، الدرجة الأولی من سلمه، وهی نغمة ( صوت ) ( Do )، التي تميزه عن المقامات الأخری .
المقامات بأسلوبها توصل المعلومة للمتلقي, إذا كان بإسلوب فرح، أوأسلوب حزن، أوبإسلوب ترهيب، أوترغيب أوشيء عام, لهذا تُعتبر المقامات ضرورية جداً للمنشد، أوالرادود، أوقارىء القرآن، حتى يميز النغمة المطلوبة, والقصيدة الإرشادية لها نغماتها الخاصة, كذلك قصيدة الفرح لها نغماتها الخاصة, وقصيدة الحزن لها نغماتها الخاصة, وذلك لإيصال المعلومة إلى المتلقي، إن كانت بإسلوب فرح، أوإسلوب ترهيب، أوترغيب0
قصيدة الحزن أيام المراثي في عاشوراء، لها أنغامها الخاصة, كذلك هناك أبحاث متعددة للقرآن الكريم، بحثٌ إرشادي يطرح موضوع معين, وبحثٌ آخر للترغيب والترهيب, وعلى القاريء أن يتمكن من استخدام النغمة، ليخرج من نغمة ترهيب، ويدخل نغمة ترغيب
المقامات الرئيسية سبعة :
المقامات مجموعة كلها في هذه الجملة، (صُنع بسحر) (الصاد) الصبا ..(النون) النهاوند ..(العين) العجم..(الباء) البيات.. (السين) السيكا.. (الحاء) الحجاز…(الراء)الرست , علماً أن هناك اختلاف في حرف النون بين العلماء, قسم منهم يرى بأن هناك نغمة تسمى (النوى)، نابع من مقام النهاوند، والقسم الآخر يقول: أن النهاوند نابع من النوى, ولكن الأعم الأغلب يؤكدون أن النهاوند هو المقام الرئيسي, وهذا هو الاصح، إذن تلك هي المقامات الرئيسية، وتتفرع منها مقامات فرعية , لانتطرق إليها في الوقت الحاضر0
مقام البيات :
هو مقام سهل ممتنع , هادئ كالبحر العميق , يمتاز بالخشوع و الرهبانية، و به تُبدأ القراءة و به تنتهي، وهو ذلك المقام الذي يجلب القلب، و يجعله يتفكر في آيات الله البينات ومعانيها، ويسمى هذا المقام بأم النغمات، لاتساعه وکثرة فروعه المعروفة لدی القراء، والمنشدين والمبتهلين ( كبيات اللامي، والحسيني، والشوری، ومحير، وبيات النوا )، بيات: نغمة نستخدمها للأمر الطبيعي,( فی الحقيقة لاهي حزن، ولا فرح ), تستخدم فی اکثرالمواضيع, كأحكام الحج، والصلاة والصوم، والجهاد في القرآن، البيات هو المخرج، فترى أن القراّء أول مايبدأون به, لماذ؟ لأنه يحتوي على حلقة مناسبة للوصل، أما القرار فيبتدأ به للإلقاء دائما، وأجمل شيء في القرار، أن يبتدأ في أوله البيات، حتى يتسلط على جميع البحوث ، إن كان فرحاُ أو حزناً مثلا:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم (( كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً )).(سورة مريم / 1-2-3 ))، أجمل شيء أن ينتهي القارىء بالقرار، وليس بالجواب في مقام البيات لأنه جميل جدا ..
اضغط هنا لاستماع التلاوة http://ruqayah.net/audio/index.php?file=516
اضغط هنا لاستماع الموشح http://ruqayah.net/audio/index.php?file=517
مقام الصبا :
لعل مقام الصبا يكون من أكثر المقامات على الاطلاق شرقية، وهو مقام عاطفة وروحانية، فهو ينضح بالحزن والعاطفة، و يغوص بك أيها السامع الى عالم آخر، من المشاعر الجيّاشة، يأخذك الى حيث النغم الحزين...
وحيث تقف مع ذاتك، ولا يسعك أحياناً، إلاّ أن تشعر بأنك ملزم أن تهمر تلك العبرات، وتأخذ بنفسك إلى مكان ناء، لا يراك فيه أحد لتجهش بالبكاء....
نعم هذا هو مقام الصبا، الذي لا يكاد يكون له مثيل في المقامات الغربية، فهو مقام شرقي بل عربي، وهو مقام يمتاز بالروحانية الجيّاشة، و العاطفة والحنان، وهو أفضل مقام صوتي، يستطيع المقرئ أن يعبر من خلاله عن تفاعله مع الآيات، وذلك عن طريق استخدام الجواب و القرار، لذلك يحبذ للمقرئ أن يقرأ الآيات الروحانية، والآيات التي تتحدث عن أهوال يوم القيامة، وآيات العذاب و...
ومقام الصبا أيضا، مقام يحمل الشكوى، ويأتي به المنشدون كثيراً في أناشيد العزاء والرثاء، لمصائب المسلمين وغيرها , كان مقام الصبا في زمان العباسيين، يسمى (بكاء الرجال)، وعندما يدخلون على الحكماء، يوصون المتكلمين بالمراثي، أو المنشدين بنغمة (بكاء الرجال)، فهو يكرب القلب، كما يُعبر عنه العراقيون.
والصبا کما قلنا نغمة حزينة، تستخدم للمواضيع الحزينة, نعطيك مثالاً من القرآن الكريم : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم (( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ))….(سورة الواقعة/ 1-2-3 )، لاحظوا أن هذه النغمة حزينة، تستخدم لقضية معينة، تُذكر المستمع بالذي غفل عن ذكر الله مثلا, وفي القصيدة الحسينية كذلك، تأخذ مجالها في المراثي كثيرا .
اضغط هنا لاستماع التلاوة http://ruqayah.net/audio/index.php?file=520
اضغط هنا لاستماع الموشح http://ruqayah.net/audio/index.php?file=521
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
source : شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية