ن المعرفة الفطرية بالله تعالى تارة تطلق ويراد منها العلم الحضوري بمعنى حضور الشيء بوجوده لدى العالم، وقد يعبر عنه أحياناً بالمعرفة القلبية بالشيء. وهذا العلم له مراتب تشكيكية متفاوتة تبعاً لتفاوت الأفراد من حيث الكمال الوجودي لكل واحد منهم، فمنهم ما له أعلى درجات هذا العلم، ومنهم من له دون ذلك، وأيضاً يتفاوت العلم الحضوري الفطري من جهة كونه علماً واعياً أو نصف واعٍ، ولكن لا يصل إلى درجة عدم الوعي؛ إذ أن ذلك نقضاً لأصل ثبوته، ثم أن ما نجده من التفاسير الذهنية الخاطئة لا ترجع إلى نفس العلم الحضوري بالشيء وإن كان بدرجة ضعيفة، وإنّما ترجع إلى ضعف المدارك العقلية الذهنية لنفس الشخص عند تعبيره بالألفاظ والمفاهيم عما يدركه حضوريا، حيث تكون الأخيرة قاصرة عن أداء المطلوب (متعلق العلم الحضوري)، وهو ما قد يعبر عنه عند البعض بالشطحات.
ولا تخلو الآيات الكريمة من الإشارة إلى هذا النحو من المعرفة الفطرية الحضورية بالله تعالى، كقوله تعالى: (أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى.). وقد ذكر الفلاسفة أدلة لإثبات هذا النوع من المعرفة الحضورية، ولعل التطرق لها يخرجنا عن محل البحث.
وتارة أخرى تطلق المعرفة الفطرية بالله ويراد منها العلم الحصولي بالله تعالى الذي هو عبارة عن مجموعة من المفاهيم الأولية التي ينتزعها الذهن من مدركاته الحضورية بخالقه وموجده وهو الله وإن كان بدرجة ضعيفة عند البعض كما أنّه ينتزع مفاهيم ذهنية تعبر عن ذاته والتي يعبر عنها بلفظ أنا.
فتشكل هذه المفاهيم أصولاً موضوعة ومبادئاً أولية لمفاهيم وتصديقات نظرية، فهذه وغيرها من المفاهيم التي يحصلها الإنسان من الخارج تشكل منظومة المبادئ الأولية عند الإنسان، ولكن هذه المبادئ ليست بدرجة واحدة من الوضوح عند الجميع، بل منها بديهيات أولية ومنها بديهيات ثانوية، ومنها فطريات.
درجات معرفة الله الفطرية
(أ) المعرفة الفطرية الحضورية
إنّ المعرفة الفطرية الحضورية تتفاوت شدّة وضعفاً تبعاً لتفاوت النفس في درجاتها الكمالية، فأصحاب النفوس الضعيفة ليس لهم الحظ الأوفر من هذه المعرفة الفطرية الحضورية إلاّ بدرجة ضعيفة تتناسب ودرجة كمال أنفسهم الوجودية، بينما نجد الكُمل من الأولياء والصالحين والمخلصين لله تعالى لهم أعلى مراتب هذه المعرفة، بحيث ترتفع عن قلوبهم غشاوة وظلمة الجهل بالله تعالى، فتكون معرفتهم الحضورية معرفة شهودية واعية لا يشوبها جهل فتصل عندهم إلى درجة من الوضوح بحيث يرون الله تعالى أظهر من كل شيء، فيخاطبونه بلسان قلوبهم: «أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك» ،
ولا تتحدد درجات هذه المعرفة بالله تعالى بعمر معين كما حصل لبعضهم كيحيى وعيسى (عليهم السلام) ونبينا محمد وأئمتنا المعصومين ، ولا بعدد معين باعتبار تفاوتها تبعاً لتفاوت الكمال الوجودي للنفس الإنسانية
(ب) المعرفة الحصولية الفطرية
هذه المعرفة تتفاوت أيضاً بين الأفراد تبعاً لتفاوتهم في مداركهم الذهنية، فإنّ بعض البديهات تكون أولية عند شخص وتكون بعينها ثانوية عند آخر، وتكون نظرية عند شخص ثالث، وهكذا، وقد اصطلح الفلاسفة على القضايا التي يكفي الحكم فيها على تصور الموضوع والمحمول والنسبة بالفطريات، وهي أحد أقسام اليقينيات وعبروا عنها بالقضايا التي قياسها معها.
وخلاصة القول: إنّ لمعرفة الله تعالى الفطرية بمعنى العلم الحضوري بالله تعالى درجات، فالدرجة المنخفضة منها موجودة في جميع الناس، وإن لم يتعلّق بها الوعي الكامل، بحيث لا يلتفت إليها الإنسان بشكل كامل. والدرجات العالية منها تختص بالمؤمنين الكاملين وأولياء الله المخلصين. ولا يمكن لأي درجة منها أن تثبت بواسطة البرهان العقلي والفلسفي. وأمّا المعرفة الفطرية بمعنى العلم الحصولي القريب إلى الأمر اليقيني الأولي، يمكن الحصول عليها عن طريق العقل والاستدلال؛ إذ أنّ قربها إلى البداهة وسهولة الاستدلال عليها، لا يعني استغناؤها عن البرهان.
ولكن إذا ادعى أحد أن العلم الحصولي بالله تعالى هو من البديهيات أو الفطريات المنطقية ولا يحتاج إلى الاستدلال إطلاقاً، فإنّ مثل هذا الادعاء قد يكون غير قابل للإثبات.