يتوهم الاشتباهات في بعض الموارد بين الرشوة والهدية:
الأولى - أن يسلم أو يرسل مالا إلى بعض الإخوان طلبا للاستئناس، وتأكيدا للصحبة والتودد. وقد عرفت كونه هدية وحلالا، سواء قصد به الثواب في الآخرة والتقرب إلى الله تعالى أيضا، أو لم يقصد به الثواب، بل قصد مجرد الاستئناس والتودد.
الثانية - أن يقصد بالذل عوض مالي معين في العاجل، كأن يهدي الفقير إلى الغني أو الغني شيئا طمعا في عوض أكثر أو مساو من ماله. وهذا أيضا نوع هدية، وحقيقته ترجع إلى هبة بشرط العوض، وإذا وفى بما (يطمع فيه) من العوض فلا ريب في حليته.
قال الصادق (ع):" الربا رباءان: ربا يؤكل وربا لا يؤكل. فأما الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها، فذلك الربا الذي يؤكل، وهو قول الله تعالى:
" وما أتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله " (الروم، الآية: 39).
وأما الذي لا يؤكل، فهو الذي نهى الله عز وجل عنه، وأوعد عليه النار ". وعنه عليه السلام: " قال: قال رسول الله (ص):
الهدية على ثلاثة وجوه: هدية مكافأة، وهدية مصانعة، وهدية لله عز وجل ".
وفي بعض الأخبار نوع إشعار بالحل، وإن لم يتحقق الوفاء بما (يطمع فيه)
من العوض، كخبر إسحق بن عمار عن الصادق عليه السلام: " قال: قلت له عليه السلام: الرجل الفقير يهدي إلي الهدية، يتعرض لما عندي فآخذها ولا أعطيه شيئا أيحل لي؟ قال نعم، هي لك حلال ولكن لا تدع أن تعطيه ".
وهل يحل مع إعطائه العوض المطموع فيه إذا لم يكن من ماله، بل كان من الأموال التي أعطته الناس ليصرف إلى الفقراء من الزكوات والأخماس وسائر وجوه البر، والظاهر الحل إذا كان المهدي من أهل الاستحقاق والمهدي له معطيا إياه، وإن لم يكن ليهدي له شيئا. وفيه تأمل، كما يظهر بعد ذلك.
الثالثة - أن يقصد به الإعانة بعمل معين، كالمحتاج إلى السلطان أو ذي شوكة يهدي إلى وكيلهما، أو من له مكانة عندهما، فينظر إلى ذلك العمل، فإن كان حراما، كالسعي في تنجز إدرار حرام أو ظلم إنسان أو غير ذلك. أو واجبا، كدفع ظلم أو استخلاص حق ينحصر الدفع والاستخلاص به، أو شهادة معينة، أو حكم شرعي يجب عليه، أو أمثال ذلك، فهو رشوة محرمة يحرم أخذها، وإن كان العمل مباحا لا حراما ولا واجبا.
فإن كان فيه تعب، بحيث جاز الاستئجار عليه، فما يأخذه حلال وجار مجرى الجعالة، كأن يقول: أوصل هذه الفضة إلى السلطان، ولك دينار.
أو اقترح على فلان أن يعينني على كذا أو يعطيني كذا، وتوقف تنجز غرضه على تعب أو كلام طويل، فما يأخذه في جميع ذلك مباح، إذا كان الغرض مشروعا مباحا، وهو مثل ما يأخذه وكيل القاضي للخصومة بين يديه، بشرط ألا يتعدى من الحق. وإن لم يكن العمل مما فيه تعب، بل كان مثل كلمة أو فعلة لا تعب فيها أصلا، ولكن كانت تلك الكلمة أو تلك الفعلة من مثله مفيدة، لكونه ذا منزلة، كقوله للبواب لا تغلق دونه باب السلطان، فقال بعض العلماء: الأخذ على هذا حرام، إذ لم يثبت في الشرع جواز ذلك. ويقرب من هذا أخذ الطبيب العوض على كلمة واحدة ينبه بها على دواء يتفرد بمعرفته. وفيه نظر، إذ الظاهر جواز هذا الأخذ مع مشروعية الغرض وعدم كونه واجبا عليه.
الرابعة - أن يطلب به حصول التودد والمحبة، ولكن لا من حيث إنه تودد فقط، بل ليتوصل بجاهه إلى أغراض ينحصر جنسها وإن لم ينحصر عينها، وكان بحيث لولا جاهه لكان لا يهدى إليه، فإن كان جاهه لأجل علم أو ورع أو نسب فالأمر فيه أخف، والظاهر كون الأخذ حينئذ مكروها، لأنه هدية في الظاهر مع كونه مشابها للرشوة. وإن كان لأجل ولاية تولاها، من قضاء أو حكومة أو ولاية صدقة أو وقف أو جباية مال أو غير ذلك من الأعمال السلطانية، فالظاهر كون ما يأخذه حراما لو كان بحيث لا يهدى إليه لولا تلك الولاية، لأنه رشوة عرضت في معرض الهدية، إذ القصد بها في الحال طلب التقرب والمحبة، ولكن لأمر ينحصر في جنسه، لظهور أن ما يمكن التوصل إليه بالولايات ماذا، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله -: " يأتي على الناس زمان يستحل فيه السحت بالهدية، والقتل بالموعظة، يقتل البرئ لتوعظ به العامة ". وروي:
" أنه (ص) بعث واليا على صدقات الأزد، فلما جاء أمسك بعض ما معه، وقال: هذا لكم وهذا لي هدية. فقال (ص): ألا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هدية إن كنت صادقا! ثم قال: ما لي استعمل الرجل منكم، فيقول: هذه لكم وهذه هدية لي، ألا جلس في بيت أمه ليهدى له! والذي نفسي بيده! لا يأخذ منكم أحد شيئا بغير حقه إلا أتى الله بحمله، ولا يأتين أحدكم يوم القيامة ببعير له رغاء، أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر... ثم رفع يديه حتى رأوا بياض إبطيه، وقال: اللهم هل بلغت؟ ".
وعلى هذا، فينبغي لكل وال أو حاكم وقاض وغيرهم من عمال السلاطين، أن يقدر نفسه في بيت أبيه وأمه معزولا بلا شغل، فما كان يعطى حينئذ يجوز له أن يأخذه في ولايته أيضا، وما لا يعطى مع عزله ويعطى لولايته يحرم أخذه، وما أشكل عليه من عطايا أصدقائه فهو شبهة، وطريق الاحتياط فيها واضح.
المصدر: جامع السعادات-ج 2-ص 131-