عربي
Monday 6th of May 2024
0
نفر 0

الإنسان بین الجبر والتفویض

الإنسان بین الجبر والتفویض
إنّ للشخصیة الإنسانیة أبعاداً مختلفة، ومن تلک الأبعاد کون الإنسان فاعلاً مختاراً فیما یفعل أو یترک، أو کونه مسیّراً قد رُسِم مصیرُ حیاته بید القَدَر أو عامل آخر ـ کما سیوافیک ـ ولا محیص له إلاّ السیر فی الطریق الذی خُطّ له.
مع انّ دراسة هذا البعد من أبعاد الشخصیة الإنسانیة دراسة مسألة فلسفیة محضة یَلجها کبارُ الحکماء والفلاسفة عبْر القرون ولهم فیها آراء وأفکار، لکنّها و فی الوقت نفسه مسألة یشتاق إلى فهمها عامّة الناس وقلّما وجدت فی حیاة الإنسان مسألة لها تلک المیزة، وفی الحقیقة هی من إحدى المسائل الأربع التی یتطلّع إلى فهمها الجمیع ألا وهی:
1. من أین جاء إلى الدنیا؟
2. لماذا جاء إلیها؟
3. إلى أین یذهب؟
4. وهل هو فی أعماله مخیّر أو مسیر؟
ولأجل ذلک لا یمکن تحدید الزمن الذی طُرِحت فیه مسألة الجبر والاختیار، کما لا یمکن تحدید مکانها، وعلى کلّ تقدیر فللمسألة جذور عمیقة فی تاریخ حیاة الإنسان. ثمّ إنّ الآراء المطروحة فی المسألة تدور على محورین:
1. الإنسان مسیّر لا مخیّر، مجبور فی أفعاله ولیس بمختار.
2. الإنسان مخیّر فی أفعاله لا مسیّر، مختار فیها ولیس بمجبور.
ولکلّ من الرأیین قائل ودلیل یعضد رأیه، إلاّ أنّ المهم هو الوقوف على الرأی السائد حین نزول الوحی على النبی ـ صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ـ ، فالسیر فی الحدیث والتاریخ یُثبت بأنّ الرأی العام فی الجزیرة العربیة قبل البعثة کان هو الجبر، وقد بقیت رسوبات تلک الفکرة بعد البعثة وحتى رحیل النبی ( صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ) .
إنّ التأمّل فی عقائد العرب فی الجاهلیة یُثبت بأنّهم أو طائفة منهم کانوا معتقدین بالتقدیر السالب للاختیار عن الإنسان، یقول سبحانه: (سَیَقُولُ الّذِینَ أَشْرَکُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَکْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمنا مِنْ شَیء کَذلِکَ کَذَّبَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُل هَل عِنْدَکُمْ مِنْ عِلْم فَتُخرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخرُصُون). (1)
ولیست الآیة، آیة وحیدة تکشف عن عقیدة العرب فی العصر الجاهلی حول فعل الإنسان، بل هناک آیة أو آیات أُخرى تشیر إلى عقیدتهم، یقول سبحانه: (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَیْها آباءنا وَاللّهُ أَمرنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا یأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللّه ما لا تَعْلَمُون). (2)
فقولهم:(واللّهُ أَمَرنا بِها)إشارة إلى أنّ عبادة الوثن أمر قدّره اللّه سبحانه ولیس لنا الفرار ممّا قُضی به، واللّه سبحانه یردّ على مزعمتهم بقوله:(قُلْ إِنّ اللّهَ لا یَأَمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللّه ما لا تَعْلَمُون)، فلا یأمر بها ولا یقدِّرها بالمعنى الذی تدّعون أی السالب للاختیار.
وأمّا جذور هذه العقیدة وانّها کیف تسرّبت إلى الجزیرة العربیة حتّى سادت على المشرکین فقد ظلّت مجهولة؟
والعجب انّ رسوبات فکرة الجبر بقیت بعد بزوغ نجم الإسلام وسادت حال حیاة الرسول وبعد رحیله أیضاً.
روى الواقدی فی مغازیه عن أُمّ الحارث الأنصاریة وهی تحدِّث عن فرار المسلمین یوم حنین قالت: مرّ بی عمر ابن الخطاب منهزماً، فقلت: ما هذا؟ فقال عمر: أمر اللّه.(3)
و معنى ذلک انّه لم یکن دور للغزاة من المسلمین فی هزیمة حنین، وقد کانت الهزیمة تقدیراً قطعیاً من اللّه و لم یکن محیص من التسلیم امامه.
وهذا هو نفس الجبر لا یفترق عنه قید شعرة، مع أنّه سبحانه یقول: (لَقَدْ نَصَرَکُمُ اللّهُ فِی مَواطِن کَثیرة وَیَومَ حُنَین إِذْ أَعْجَبَتکُمْ کَثْرَتُکُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْکُمْ شَیئاً وَضاقَت عَلَیْکُمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّیْتُمْ مُدْبِرین). (4)
وقد أشار سبحانه إلى عامل الهزیمة وأنّه أمران:
الأوّل: إعجابهم بکثرتهم، فاعتمدوا على الکثرة، مکان الاعتماد على اللّه سبحانه أوّلاً وعلى قواهم الذاتیة ثانیاً کما یقول: (إِذْ أَعْجَبَتْکُمْ کَثْرتکُم).
الثانی: الانسحاب عن ساحة الحرب بدل الثبات، کما یقول سبحانه(ثُمَّ وَلَّیْتُمْ مُدْبِرین) مع أنّهم أُمروا بالثبات کما یقول تعالى: (یا أَیُّها الَّذینَ آمَنُوا إِذا لَقِیتُمُ الَّذِینَ کَفَرُوا زَحفاً فَلا تُوَلُّوهُم الأَدْبار). (5)
والعجب انّ هذه العقیدة(القدر السالب للاختیار) کانت سائدة بعد رحیل الرسول وباقیة فی اذهان الصحابة، وهذا السیوطی ینقل عن عبد اللّه بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبی بکر، فقال: أرأیت الزنا بقدر؟ قال: نعم، قال: فإنّ اللّه قدّره علیّ ثمّ یعذّبنی؟ قال: نعم یا بن اللخناء أما واللّه لو کان عندی إنسان أمرته أن یجأ أنفک.(6)
لقد کان السائل فی حیرة من أمر القدر فسأل الخلیفة عن کون الزنا مقدَّراً من اللّه أم لا؟ فلما أجاب الخلیفة بنعم، استغرب من ذلک، لأنّ العقل لا یسوّغ تقدیره سبحانه شیئاً سالباً للاختیار عن الإنسان فی فعله أو ترکه ثمّ تعذیبه علیه، ولذلک قال: «فانّ اللّه قدّره علیّ ثمّ یعذبنی؟!» فعند ذاک أقرّه الخلیفة على ما استغربه، وقال: نعم یابن اللخناء.
إنّ طبیعة الحکومات الاستبدادیة هی تبریر کلّ ما یسود المجتمع من الفقر والظلم والاعتساف بعامل خارج عن دائرة حکمهم کقضاء اللّه سبحانه وقدره حتّى لا یعترض علیهم معترض.
ومن هنا وجد التفسیرُ الخاطئ للدین طریقَه إلى المجتمع الحاضر وانّه وسیلة لدعم الجهاز الحاکم، وقد استغل الشیوعیون والعلمانیُّون هذه الفکرة لإبعاد الناس عن الدین ولکنّهم خلطوا سهواً أو عمداً بین کون الدین الواقعی ـ الذی أُلهم على قلوب الأنبیاء ـ الّذی لا یکون مسانداً للجهاز الظالم ـ و بین التفسیر الباطل للدین، إذ کیف یکون الدین مسانداً للسلطات الزمنیة الجائرة مع أنّه یأمر بالعدل و الاحسان وینهى عن الظلم والفحشاء؟! یقول إمام المسلمین أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب ـ علیه السَّلام ـ راویاً عن النبی ـ صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ـ : «لن تقدس أُمّة لا یؤخذ للضعیف فیها حقّه من القوی غیر متعتع».(7)
1. انّ الأمویین استغلّوا الجبر لإرساء قواعد حُکْمِهم حتى أنّ معاویة لمّا نصب ولده یزید خلیفة للمسلمین وسلّطه على رقاب المسلمین اعترضت علیه أُمّ المؤمنین عائشة، فأجابها معاویة: إنّ أمر یزید قضاء من القضاء ولیس للعباد الخیرة من أمرهم.(8)
2. وبهذا أیضاً أجاب معاویة عبد اللّه بن عمر عند ما سأل معاویة عن تنصیبه یزیدَ للحکم؟ بقوله: إنّی أُحذرک أن تشق عصا المسلمین وتسعى فی تفریق ملئهم وأن تسفک دماءهم، وانّ أمر یزید قد کان قضاءً من القضاء ولیس للعباد خیرة من أمره.(9)
3.وقد سرى هذا الاعتذار إلى غیر الأمویّین من الذین ساروا فی رکب الخلفاء، فهذا هو عمربن سعد بن أبی وقاص، قاتل الإمام الشهید الحسین ـ علیه السَّلام ـ فلمّا اعترض علیه عبد اللّه بن مطیع العدوی بقوله: اخترت همدَان والریَ على قتل ابن عمک؟! فقال عمر: کانت أُمور قُضِیتْ من السماء و قد أعذرت إلى ابن عمی قبل الوقعة فأبى إلاّ ما أبى.(10)
4. وقد برّرتْ عائشة أُم المؤمنین خلافَها مع علی ـ علیه السَّلام ـ بالقضاء والقدر، على ما رواه الخطیب عن أبی قتادة فعندما ذکر قصة الخوارج فی النهروان لعائشة أجابته أُمّ المؤمنین بقولها: وما یمنعنی ما بینی وبین علیّ أن أقول الحق، سمعت النبی ـ صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ـ یقول: «تفترق أُمّتی على فرقتین تمرق بینهما فرقة محلّقون رؤوسهم، مخفّون شواربهم، أزرهم إلى أنصاف سوقهم، یقرأون القرآن لا یتجاوز تراقیهم یقتلهم أحبهم إلیّ، وأحبهم إلى اللّه»، قال: یا أُمّ المؤمنین فأنت تعلمین هذا فلم کان الذی منک؟! قالت: یا أبا قتادة وکان أمر اللّه قدراً مقدوراً، وللقدر أسباب!!.(11)
ومن العوامل التی صارت سبباً لترکیز فکرة الجبر بین المسلمین هی الأساطیر التی حاکها الأحبار والرهبان ونشروها بین المسلمین حول القضاء والقدر، فهذا هو حماد بن سلمة یروی عن أبی سنان قال: سمعنا وهب بن منبه، قال: کنتُ أقول بالقدر حتّى قرأت بضعة وسبعین کتاباً مِنْ کتب الأنبیاء فی کلّها: من جعل لنفسه شیئاً من المشیئة فقد کفر، فترکتُ قولی.(12)
والمراد من القدر فی قوله: «کنت أقول بالقدر» لیس القول بتقدیر اللّه سبحانه وقضائه، بل المراد هو القول بالاختیار والمشیئة للعبد کما یظهر من ذیل کلامه.
وهذا النقل یعطی انّ القول بنفی الاختیار والمشیئة للإنسان، قد تسرّب إلى الأوساط الإسلامیة عن طریق هذه الجماعة وعن الکتب الإسرائیلیة أفیصحّ بعد هذا أن نعد القول بنفی المشیئة للإنسان عقیدة جاء بها القرآن والسنّة النبویة، ونکفّر من قال بالمشیئة له ولو مشیئة ظلیة تابعة لمشیئته سبحانه، ونقاتل فی سبیل هذه العقیدة؟!
حدیث «الفراغ من الأمر» بدعة یهودیّة
یجد الباحث فی ثنایا الأحادیث وکلمات المحدّثین قولهم:«إنّ اللّه سبحانه قد فرغ من الأمر»، أی قد فرغ سبحانه من أمر التدبیر والتکوین فلا یتغیّر ما قُدّر، ولا یتبدّل ما قضى به، وهو بظاهره نفس الجبر، إذ معناه انّه لا محیص للإنسان إلاّ العمل بما قُدّر و قضى ولا یتمکّن من تغییره وتبدیله، وبالتالی لا خیرة للإنسان فی حیاته فیما یختار أو یترک مع أنّه سبحانه یحکم على خلافه ویقول: (وَمَا کانَ لِرَسُول أَنْ یَأْتِی بِآیَة إِلاّ بِإِذْنِ اللّه وَلِکلِّ أَجل کتاب * یَمْحُوا اللّهُ ما یَشاءُ ویُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْکِتاب). (13)
وهل یمحو إلاّ ما أثبتَ؟! فلو کان قد فرغ من الأمر فما معنى محو ما أثبته وقدّره؟ کیف واللّه سبحانه مبسوط الید لا یکبّله تقدیره وقضاؤه، فله السیادة على القضاء والقدر دونهما علیه؟!
وهذا هو الثعلبی ینقل عن مجاهد قال: قالت قریش: حینما أنزل (ما کان لرسول أن یأتی بآیة إِلاّ بإِذن اللّه) ما لنا نراک یا محمد تملک من شیء وقد فرغ من أمره، فأنزلت هذه الآیة تخویفاً ووعداً لهم، أی إن یشأ أحدثها من أمر ـ إلى أن قال: ـ ویُحدث فی کلّ رمضان فی لیلة القدر ویمحو ویُثبت ما یشاء من أرزاق الناس ومسائلهم وما یؤتیهم ویُنسأهم له.(14)
وقد تطرق عن طریق تلامذة الاحبار والرهبان انّه سبحانه یمحو ما یشاء و یثبت إلاّ الحیاة والموت والشقاء والسعادة فانّهما لا یتغیران، ونقله السیوطی عن غیر واحد من الصحابة والتابعین الذین کانوا یحسنون الظن باحبار الیهود ورهبان النصارى.
أخرج الطبرانی و ابن جریر وابن المنذر عن مجاهد و روى عن ابن عباس فی قوله تعالى: (یَمْحُوا اللّه ما یَشاء وَیُثبت...)قال: إلاّ الحیاة والموت، والشقاء والسعادة فانّهما لا یتغیّران.(15)
على إمکان تغییر المصیر حتّى السعادة والشقاء بالأعمال الصالحة والطالحة.
إنّ سیادة القدر على مصیر الإنسان على نحو یسلب عنه الاختیار ولا یتمکّن من تبدیل ما قدّر إلى خلافه، نفس القول بالجبر وسیادته.
إنّ هذا القول مرفوض عقلاً، وکتاباً، فإنّ إطلاق الکتاب فی المحو والإثبات، یعمّ الجمیع حتّى الموت والحیاة والسعادة والشقاء.
إنّ قوم یونس قد غیّروا مصیرهم السیّئ بالتوبة والعمل الصالح. یقول سبحانه: (فَلَولا کانَتْ قَریَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِیمانُها إِلاّ قَومَ یُونُسَ لمّا آمَنُوا کَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الخِزْیِ فِی الحَیاةِ الدُّنیا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حین). (16)
ویدلّ على ذلک أیضاً الروایات المتضافرة.
أخرج ابن أبی شیبة فی «المصنّف» وابن أبی الدنیا فی الدعاء، عن ابن مسعود ـ رضی اللّه عنه ـ قال: ما دعا عبد قطّ بهذه الدعوات إلاّ وسّع اللّه له فی معیشته: یا ذا المن ولا یُمنُّ علیه، یا ذا الجلال والإکرام، یا ذا الطول لا إله إلاّ أنت، ظهر اللاجئین، وجار المستجیرین، ومأمن الخائفین، إن کنت کتبتنی عندک فی أُمّ الکتاب شقیّاً فامح عنی اسم الشقاء وأثبتنی عندک سعیداً...، ـ إلى أن قال ـ: فإنّک تقول فی کتابک الذی أنزلت (یَمحُوا اللّه ما یَشاء وَیُثبت وعِندَهُ أُمّ الکتاب).(17)
إنّ اتّفاق المحدّثین على أنّ الصحیحین وبعدهما السنن الأربع، من أصحّ الکتب بعد القرآن الکریم، عاق الکثیر من المحقّقین من الخوض فیهما نقداً وتمحیصاً، ولولا هذا الاتّفاق، لقام المحقّقون بالنقد والتمحیص فیما کان مخالفاً للکتاب والسنّة النبویة القطعیة والعقل الصریح، وها نحن نسرد فی المقام بعض ما جاء فی الصحیحین ما لا یفارق الجبر قید شعرة وهو إمّا مؤوّل أو موضوع على لسان الرسول ـ صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ـ .
1. روى مسلم فی صحیحه عن زید بن وهب، عن عبد اللّه قال: حدّثنا رسول اللّه ـ وهو الصادق ـ أنّ أحدکم یجمع خلقه فی بطن أُمّه أربعین یوماً، ثمّ یکون فی ذلک علقة مثل ذلک، ثمّ یکون فی ذلک مضغة مثل ذلک، ثمّ یرسل الملک فینفخ فیه الروح ویؤمر بأربع کلمات: بکتب رزقه وأجله وعمله وشقی أو سعید، فوالذی لا إله غیره إنّ أحدکم لیعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما یکون بینه و بینها إلاّ ذراع، فیسبق علیه الکتاب فیعمل بعمل أهل النار فیدخلها، وإنّ أحدکم لیعمل بعمل أهل النار حتّى ما یکون بینه و بینها إلاّ ذراع، فیسبق علیه الکتاب فیعمل بعمل أهل الجنة فیدخلها.(18)
فعلى هذا لا یقدر الإنسان على إضلال نفسه ولا هدایتها کما لا یقدر على أن یجعل نفسه من أهل الجنة أو النار، ولو حاول لتحصیل شیء منها ، سبقَ الکتابُ حائلاً بینه و بین إرادته، وهذا هو نفس القول بأنّ الإنسان مسیّر لا مخیّر.
ثمّ إنّ الإمام النووی الشارح لصحیح مسلم نظر إلى هذه الأحادیث بعین الرضا والقبول، فلما رأى انّها لا تفارق الجبر قید شعرة حاول تأویل قوله: «فیسبق علیه الکتاب» فی کلا الموضعین، وقال: «انّ هذا قد یقع فی نادر من الناس لا أنّه غالب فیهم».
ثمّ إنّ من لطف اللّه تعالى وسعة رحمته انقلابُ الناس من الشر إلى الخیر فی کثرة وأمّا انقلابهم من الخیر إلى الشر ففی غایة الندور ونهایة القلة، وهو نحو قوله تعالى: «إنّ رحمتی سبقت غضبی وغلبت غضبی».(19)
یلاحظ علیـه أوّلاً:بانّ حمـل أحـد الطرفین على الغلبـة والطرف الآخـر على وجه الندرة قسمة ضیزى فانّ ظاهر الحدیث أنّ سبق الکتاب فی الطرفین سیّان.
وثانیاً: انّ الحدیث ظاهر فی غلبة القدر على عمل الإنسان ونیته فربما یجعل الصالح طالحاً والطالح صالحاً، ولا صلة له بسبق رحمته على غضبه والظاهر انّ هذه الأحادیث حیکت على وفق عقائد الیهود الذین ذهبوا إلى انّ یده سبحانه مغلولة فبعد ما قضى، لا یتمکن من تغییره، غُلَّت أیدیهم.
2. وروى عنه أیضاً حذیفة بن أسید یبلغ به النبی ـ صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ـ قال: «یدخل الملک على النطفة بعد ما تستقر فی الرحم بأربعین أو خمسة وأربعین لیلة فیقول: یا رب أشقی أو سعید؟ فیکتبان، فیقول: أی رب أذکر أو أُنثى؟ فیکتبان، ویکتب عمله وأثره وأجله ورزقه، ثمّ تُطوى الصحف فلا یزاد فیها ولا ینقص».(20)
فعلى هذا فالصحف الأُولى التی قُدِّر فیها مصیر الإنسان مطویة لا تفتح فلا یزید فیها شیء ولا ینقص، وهذا لا یختلف عن الجبر قید شعرة.
إنّ تفسیر القضاء والقدر ـ اللّذین هما من المعارف العلیا فی الإسلام ـ بالمعنى الوارد فی الروایة یجعل الإنسان مکتوف الیدین فی خضمِّ الحیاة فیسلب عنه کلّ سعی فی طریق السعادة إذا کتب من أهل الشقاء أو فی طریق الشقاء إذا کتب من أهل السعادة.
3. روى عبد اللّه بن عمر، عن أبیه قال: یا رسول اللّه أرأیت ما نعمل فیه أمر مبتدع أو فیما قد فرغ منه؟ فقال: بل فیما قد فرغ منه، یاابن الخطاب وکلّ میسر، أمّا من کان من أهل السعادة فإنّه یعمل للسعادة، وأمّا من کان من أهل الشقاء فإنّه یعمل للشقاء.
وفی روایة قال: لمّا نزلت (فمنهم شقی و سعید) سألت رسول اللّه ، فقلت: یا نبی اللّه فعلى مَ نعمل، على شیء قد فرغ منه، أو على شیء لم یفرغ منه؟ قال: بل على شیء قد فرغ منه وجرت به الأقلام یا عمر، ولکن کلّ میسر لما خلق له.(21)
وهذا الحدیث یعرب عن أنّه قد تمّ القضاء على الناس فی الأزل وجعلهم صنفین وکلّ میسر لما خلق له فی الأزل لا لما لم یخلق له، فأهل السعادة میسّرون للاعمال الصالحة فقط وأهل الشقاء میسّرون للأعمال الطالحة فقط، وأی جبر أوضح و أبین ممّا جاء فی هذا الحدیث.
إنّ للقول بالجبر وإنّ الإنسان مسیّر لا مخیّر، مضاعفات کثیرة، نشیر إلى قسم منها ونحیل الباقی إلى مجال آخر:

1. انتفاء الغرض من بعثة الأنبیاء

إنّ الغرض من بعثة الأنبیاء هو دعوة الناس وإرشادهم إلى معالم التوحید ونهیهم عن الشرک فی مجال العقیدة، وإلى محاسن الأخلاق وزجرهم عن مساویها فی مجال العمل، یقول سبحانه: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِی کُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَیْهِ الضَّلَالَةُ فَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَانظُرُوا کَیْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الْمُکَذِّبِینَ)(22)، وقال سبحانه: (کانَ النّاسُ أُمّةً واحدةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِیّینَ مُبَشِّرینَ وَمُنْذِرین)(23) إلى غیر ذلک من الآیات التی تعکس الهدف المنشود من وراء بعث الأنبیاء، ولا یتحقّق هذا الغرض إلاّ فی ظل کون الإنسان مخیّراً لا مسیَّراً، فلو کان مسیّراً فکلّ إنسان کتب علیه النار، فهو یدخلها ، إذن فما هو فائدة بعث الأنبیاء، فإنّ دعوة الأنبیاء وعدمها بالنسبة إلیه سیّان؟! وهذا من الوضوح بمکان لا یحتاج إلى التطویل.

2. انتفاء فائدة المناهج التربویة

التربیة عبارة عن توفیر أرضیة مناسبة لخروج ما هو بالقوة إلى منصّة الظهور والفعلیة، وهذا کالمزارع والفلاح القائمین بتربیة البذور والنباتات فیوفّران ما یحتاجان إلیه فی إخراج الاستعداد المکنون فیهما إلى حیز الظهور والکمال،
فلیس للمربّى دور الخلق والإیجاد، بل تهیئة الظروف المناسبة لأن یُظهر الشیءُ کمالَه المستور لکی ینقلب البذر زرعاً والنبات شجراً.
وعلى ضوء ذلک فالمناهج التربویة فی الإنسان، شعارها رفع المستوى الفکری له وسوقه نحو الفضائل ومنعه من السقوط فی هاویة الرذائل، ومن المعلوم أنّ تحقّق هذه الغایة رهن وجود الحریة فی الإنسان لکی یقع فی إطار التربیة، فیسیر حسب الضوء الذی یریه المربی، فلو کان مسیّراً لا مخیّراً فإعمال الأسالیب التربویة یُصبح أمراً لغواً غیر مؤثر.

3. تکذیب الکتاب العزیز

إنّ من سبر الکتاب العزیز وتجرد عن عامّة الرواسب یجد انّ القرآن یصوّر الإنسان فاعلاً مختاراً یخاطبه فینصحه تارة، ویأمره أُخرى، ویزجره ثالثاً، ویعده رابعاً ویوعده خامساً، إلى غیر ذلک من علائم الاختیار وآثاره، ونذکر منها مایلی:
1. قوله سبحانه: (إِنّا هدیناهُ السَّبیل إِمّا شاکراً وَإِمّا کفوراً).
2. قوله سبحانه: (وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ شاءَ فَلیُؤْمِن وَمَن شاءَ فلیَکْفُر إِنّا أَعْتَدْنا للظّالِمینَ ناراً أَحاطَ بِهِم سُرادِقُها وَإِن یستغیثُوا یُغاثُوا بِماء کالمُهْل یَشْوِی الوُجُوهَ بئسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرتَفقاً). (24)
وللّه در الشهید السعید زین الدین العاملی حینما أنشد:
لقد جاء فی القرآن آیةُ حکمة * تدمِّر آیاتِ الضلال ومن یُجبر
وتخبر انّ الاختیار بأیدینا * فمن شاء فلیؤُمن و من شاء فلیکفر
3. قال سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلیها وَما ربّکَ بِظَلاّم لِلْعَبید). (25)
4 . قال سبحانه: (کُلُّ امرى بِما کَسَبَ رَهین). (26)
5. قال سبحانه: (لِکُلِّ امرى مِنْهُمْ مَا اکتَسَبَ مِنَ الإِثْم). (27)
6. قال تعالى: (وَأَنْ لَیْسَ للإِنْسانِ إِلاّ ما سعى * وأَنَّ سَعْیَهُ سَوفَ یُرى * ثُمّ یُجزاهُ الجزاءَ الأوفى). (28)
إلى غیر ذلک من الآیات الصریحة فی أنّ الإنسان مخیّر فیما یختار ویترک ولیس فی حیاته عاملُ ضغط باسم القدر والقضاء أو غیره، یسلب عنه الاختیار، وأمّا الآیات التی ربّما یستشم منها الجبر، ککون الهدایة والضلال بید اللّه سبحانه فسیوافیک تفسیرها .

4. الجبری فی ساحة الحیاة، اختیاریّ

کلّ من رفع رایة الجبر واتّسم به فی الحیاة، وبنى علیه منهجاً فلسفیاً، فهو یغالط نفسه، فترى أنّه إذا ظُلم وغصب حقّه، یندِّد بالظالم ویرفع شکواه إلى المحاکم حتّى یأخذ الحاکم حقّه من الغاصب والظالم، فلو لم یکن لخصمه خیرة واختیار فما معنى التندید والتعرض له؟ وهذا یدلّ على أنّه یصوّر الخصم المخالف إنساناً مختاراً غصب ما یملکه عن اختیار وله أن یقوم بردّه إلى صاحبه.
وبالجملة کلّ من رفع عقیرته بالجبر فهو حین الجدال والسجال وإن کان جبریّاً ولکنّه فی حیاته الاجتماعیة اختیاری على ضد الجبر ولا یقبل أیّ عذر لخصمه!!

5. الجبر واجهة لنیل المزید من الحریة

إنّ من دوافع القول بالجبر هو اشباع المیول والغرائز الحیوانیة فی الحیاة، فالجبری یطلب المزید من الحریة من وراء ادّعائه الجبر، ویتستر تحت واجهة الجبر لیخلِّص نفسه من عهدة التکلیف والمسؤولیة، ففی الحقیقة هو لا یؤمن بالجبر کمنهج للحیاة، بل یعتقد بالحریة فیها لیعیش فیها وفقاً لما تملیه علیه غرائزه الجامحة.
المصادر :
1- الأنعام:148
2- الأعراف:28
3- المغازی:3*904 .
4- التوبة:25 .
5- الأنفال:15.
6- تاریخ الخلفاء للسیوطی:95.
7- نهج البلاغة، قسم الرسائل برقم53.
8- الإمامة والسیاسة لابن قتیبة :1*167.
9- الإمامة والسیاسة:1*171.
10- طبقات ابن سعد:5*148، ط بیروت.
11- تاریخ بغداد:1*160.
12- میزان الاعتدال:4*353.
13- الرعد:38ـ 39.
14- تفسیر الثعلبی، المسمّى بالکشف والبیان:5*298 ; الدر المنثور:4*659 واللفظ للثانی.
15- الدرّ المنثور:4*663، 661، 662.
16- یونس:98.
17- الدر المنثور:4*661، و بهذا المضمون روایات أُخرى لاحظ ص 663.
18- صحیح مسلم:8*44، کتاب القدر.
19- شرح صحیح مسلم للنووی:16*435.
20- صحیح مسلم:8*45، کتاب القدر.
21- صحیح مسلم: 8 * 45، کتاب القدر .
22- النحل:36.
23- البقرة:213.
24- الکهف:29.
25- فصلت:46.
26- الطور:21.
27- النور:11.
28- النجم:39ـ41.

source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

زيارة القبور في السنّة النبوية
شبهة التنافي بين التقدم العلمي وبين علم الله ...
الأمويين و مبادئ الدين
باب في خبر أبي المويهب الراهب
الخریطه الجغرافیه لوادی الغدیر
وقاية الامة من الانحراف
التوحيد و الحاجة إلى الناس‏
العلاقة بين الليبرالية والتعددية
صفات أهل البيت عليهم‌السلام
قم وأهلها فی روایات أهل البیت (علیهم السلام)

 
user comment