عربي
Wednesday 24th of April 2024
0
نفر 0

معارضوا الامام علي عليه السلام

معارضوا الامام علي عليه السلام
للتعرّف على القوى المعارضة لحكومة الإمام ، التي لم تكن لتلک القوی أيّة أهداف نبيلة ، وانّما كانت تبغي الاستيلاء على الحكم للظفر بخيرات البلاد ، والتحكّم في رقاب المسلمين بغير حقّ ، وفيما يلي نستعرض ذلک :

السيّدة عائشة :

وانطوت نفس السيّدة عائشة ـ مع الأسف ـ على بغض عارم وكراهية شديدة للإمام أمير المؤمنين عليه‌ السلام ، ولعلّ السبب في ذلك ـ فيما نحسب ـ يعود إلى ميل زوجها النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌ السلام وإلى بضعته وحبيبته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها ‌السلام ، وإلى سبطيه وريحانتيه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين عليهما‌السلام واشادته دوماً بفضلهم ، وسموّ منزلتهم عند الله ، وفرض مودّتهم على عموم المسلمين ، كما أعلن الذكر الحكيم ذلك
قال تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) وفي نفس الوقت كانت عائشة تعامل معاملة عادية ، وفي كثير من الأحيان كان النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم يشير إلى أفعالها ، فقد قال صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم لنسائه : أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط ، وقال صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم : من ها هنا يتولّد الشرّ وأشار إلى بيتها ، وغير ذلك مما أثار عواطفها.
وثمّة سبب في كراهية عائشة للإمام وهو موقفه الصارم الذي وقفه تجاه بيعة أبيها أبي بكر ، ومقاطعته لانتخابه ، وشجبه لبيعته وبعد سقوط حكومة عثمان كانت تروم إرجاع الخلافة إلى قبيلتها تيم لتكون سياسة الدولة بجميع أجهزتها خاضعة لرغباتها وميولها ، وهي على يقين أن الخلافة إذا رجعت للإمام عليه‌ السلام فإنّها سوف تعامل كغيرها من أبناء الشعوب الإسلامية ، ولا تحظى بأيّة ميّزة ، فان جميع الشؤون السياسية والاقتصادية عند الإمام عليه‌ السلام لا بدّ أن تسير على وفق الكتاب والسنّة ، ولا مجال عنده للأهواء والعواطف ، وكانت عائشة تعرف ذلك جيّداً ، ولذا أعلنت العصيان والتمرّد على حكومته ، وقد انضمّ إليها كل من الزبير وطلحة والامويين وذوي الاطماع والمنحرفين عن الحق من القبائل القرشية الذين ناهضوا الدعوة الإسلامية من حين بزوغ نورها.
وعلى أيّ حال فقد كانت عائشة من أوثق الأسباب في الإطاحة بحكومة عثمان ، وقد أفتت بوجوب قتله ، ولما أيقنت بهلاكه خرجت إلى مكّة ، وهي تتطلع إلى الأخبار ، فلما وافاها النبأ بقتله أعلنت فرحتها الكبرى ، ولكنها لمّا فوجئت بالبيعة للإمام عليه‌ السلام انقلب وضعها رأساً على عقب ، وراحت تقول بحرارة :
« قتل عثمان مظلوماً والله لأطلبنّ بدمه .. ».
وأخذت تندب عثمان رياءً لا حقيقة ، وقد رفعت قميصه الملطّخ بدمه ، وجعلته شعاراً لتمرّدها على السلطة الشرعية التي أعلنت حقوق الإنسان ، وتبنّت مصالح المحرومين والمضطهدين والتي كانت أمتداداً لحكومة الرسول الأعظم صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم .
وعقدت عائشة في مكّة الندوات مع أعضاء حزبها البارزين كطلحة والزبير ، وسائر الامويين ، وأخذت تتداول معهم الآراء أي بلد يغزونه ليشكّلوا فيه حكومة لهم ، ويتّخذوا منه قاعدة لانطلاقهم في محاربة الإمام ، والإجهاز على حكومته ، وبعد التأمّل والنظر الدقيق في أحوال المناطق الإسلامية أجمع رأيهم على احتلال البصرة لأن لهم بها شيعة وأنصاراً ، وأعلنوا بعد ذلك العصيان المسلّح ، وزحفوا نحو البصرة ، وقد التحق بهم بهائم البشر ، وحثالات الشعوب من الذين ليس لهم فكر ولا وعي ، وساروا لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى البصرة ، وبعد مقاومة عنيفة بينهم وبين الحكومة المركزية فيها استطاعوا احتلالها ، وألقوا القبض على حاكمها سهل بن حنيف وجيء به مخفوراً إلى عائشة فأمرت بنتف لحيته ، فنتفتها جلاوزتها وعاد ابن حنيف بعد لحيته العريضة شاباً أمرد.
ولما وافت الأنباء الامام أمير المؤمنين عليه‌ السلام بتمرّد عائشة ، واحتلالها لمدينة البصرة ، سارع بجيوشه للقضاء على هذا الجيب المتمرّد ، خوفاً من أن تسري نار الفتنة إلى بقيّة الأمصار الإسلامية ، وقد ضمّ جيشه القوى الواعية في الإسلام أمثال الصحابي العظيم عمّار بن ياسر ، ومالك الأشتر ، وحجر بن عدي ، وابن التيهان وغيرهم ممن ساهموا في بناء الإسلام ، وإقامة ركائزه في الأرض.
وسرت جيوش الإمام حتى انتهت إلى البصرة فوجدوها محتلّة بجنود مكثفة ، وهم يعلنون الطاعة والولاء لأمّهم عائشة ، فأرسل الإمام رسله إلى أعضاء القيادة العسكرية في جيش عائشة كطلحة والزبير ، فعرضوا عليهم السلم والدخول في مفاوضات بينهم وبين الامام حقناً لدماء المسلمين ، فأبوا ، وأصرّوا على التمرّد والعصيان مطالبين ـ بوقاحة ـ بدم عثمان ، وهم الذين أطاحوا بحكومته ، وأجهزوا عليه.
ولما نفدت جميع الوسائل التي اتخذها الإمام عليه‌ السلام للسلم اضطّر إلى إعلان الحرب عليهم ، وجرت بين الفريقين معركة رهيبة سقط فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل ، وأخيراً نصر الله الإمام على أعدائه ، فقد قُتل طلحة والزبير ، وملئت ساحة المعركة بجثث قتلاهم ، وقذف الله الرعب في قلوب الأحياء منهم فولّوا منهزمين قابعين بالذلّ والعار.
واستولى جيش الإمام على عائشة القائدة العامة للمتمرّدين ، وحملت بحفاوة إلى بعض بيوت البصرة ، ولم يتّخذ الإمام معها الإجراءات الصارمة ، وعاملها معاملة المحسن الكريم ، وسارع الإمام فسرّحها تسريحاً جميلاً إلى يثرب ، لتقرّ في بيتها الذي أمرها الله ورسوله أن تسكن فيه ، ولا تتدخّل بمثل هذه الأمور التي ليست مسؤولة عنها.
وانتهت هذه الفتنة التي أسماها المؤرّخون ( بحرب الجمل ) وقد أشاعت في ربوع المسلمين الثكل والحزن والحداد ، ومزّقت صفوفهم ، وألقتهم في شرّ عظيم ... ومن المؤكّد أن دوافع هذه الحرب لم تكن سليمة ، ولم تكن حجّة عائشة وحزبها منطقية ، وانّما كانت من أجل المطامع ، والكراهية الشديدة لحكم الإمام الذي فقدوا في ظلاله جميع الامتيازات الخاصة ، وعاملهم الإمام كما يعامل سائر المسلمين.
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس عليه‌ السلام هذه الحرب الدامية ، ووقف على أهدافها الرامية للقضاء على حكم أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الأرض ، وقد استبان له أحقاد القبائل القرشية له واستبان له أن الدين لم ينفذ إلى أعماق قلوبهم ، وانّما كانوا يلوكونه بألسنتهم حفظاً لدمائهم ومصالحهم.

معاوية وبنو أميّة :

وفي طليعة القوى المعارضة لحكومة الإمام والمعادية له ، معاوية بن أبي سفيان ، وبنوا أميّة ، فقد نزع الله الإيمان من قلوبهم ، وأركسهم في الفتنة ركساً ، فكانوا من ألدّ أعداء الإمام ، كما كانوا من قبل من أعداءً لرسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم فهم الذين ناهضوا دعوته ، وكفروا برسالته ، وكادوا له في غلس الليل ، وفي وضح النهار ، حتى أعزّه الله وأذلّهم ، ونصره وقهرهم ، وقد دخلوا في الإسلام مكرهين لا مؤمنين به ، ولولا سماحة خلق النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم وعظيم رأفته ورحمته لما أبقى لهم ظلاًّ على الأرض ، إلاّ أنّه صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم منحهم العفو كما منح غيرهم من أعدائه.
ولم يكن للأمويين أي شأن يذكر أيام النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم فقد قبعوا بالذل والهوان ينظر إليهم المسلمون بنظرة العداء والخصوم ، ويذكرون ما قاموا به في محاربة دينهم ، والتنكيل بنبيّهم ، ومن المؤسف انّه لما فجع المسلمون بفقد نبيّهم صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم وآل الأمر إلى الخلفاء علا نجم الأمويين ، وذلك لأسباب سياسية خاصة ، فقد عيّن أبو بكر يزيد بن أبي سفيان والياً على دمشق ، وخرج بنفسه لتوديعه إلى خارج يثرب تعظيماً له ، واشادة بمكانة أسرته ، ولم يفعل مثل ذلك مع بقية عمّاله وولاته كما يقول المؤرّخون ، ولما هلك يزيد أسندت ولاية دمشق إلى أخيه معاوية ، وكان أثيراً عند عمر تتوافد عليه الأخبار بأنّه يشذّ في سلوكه ، وينحرف في تصرّفاته عن سنن الشرع وأحكام الإسلام ، فقد أخبروه بأنّه يلبس الحرير والديباج ، ويأكل في أواني الذهب والفضّة ، وكل ذلك محرّم في الإسلام ، فيقول معتذراً عنه ، ومسدداً له : ذاك كسرى العرب ومتى كان ابن هند الصعلوك النذل كسرى العرب ، !!
ولو فرضنا أنّه كان كذلك فهل يباح له في شريعة الله أن يقترف الحرام ، ولا يحاسب عليه ، ان الله تعالى ليست بينه وبين أحد نسب ولا قرابة ، فكل من شذّ عن سنّته ، وخالف أحكامه فانّه يعاقبه على ذلك ، يقول الرسول الأعظم صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم لو عصيت لهويت ، ويقول الإمام زين العابدين عليه‌ السلام : ان الله تعالى خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً.
وعلى أيّ حال فان عمر قد أغدق بألطافه ونعمه على معاوية وزاد في رقعة سلطانه ، ونفخ فيه روح الطموح ، وقد ظلّ يعمل في ولايته على الشام عمل من يريد الملك والسلطان ، فكان يقرّب الوجوه والزعماء ، ويغدق عليهم بالهبات والأموال ، ويشتري الذمم والعواطف ، ويركّز ولاءه في قلوب الغوغاء.
ومهّدت عائشة في ثورتها على حكم الإمام الطريق لمعاوية لإعلانه العصيان المسلّح على حكومة الامام التي هي أشرف حكومة ظهرت في الشرق العربي على امتداد التأريخ ، وقد تذرّع بها معاوية الذئب الجاهلي لحرب الإمام ، واتخذ من دم عثمان وسيلة لإغراء الغوغاء واتّهم الإمام بأنّه المسؤول عن المطالبة بدمه ، وفي نفس الوقت أوعز إلى أجهزة الإعلام أن تندب عثمان ، وتظهر براءته مما اقترفه في تصرّفاته الاقتصادية والسياسية التي تتجافى مع أحكام الإسلام.
وتسلّح معاوية بكبار الدبلوماسيين ، ومهرة السياسة في العالم العربي أمثال المغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص ، وأمثالهما ممن كانت لهم الدراية الوثيقة في أحوال المجتمع ، فكانوا يضعون له المخططات الرهيبة للتغلّب على الأحداث.

إعلان الحرب :

ورفض معاوية رسمياً بيعة الإمام ، وأعلن عليه الحرب ، وهو يعلم أنّه انّما يحارب أخا رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم ووصيّه وباب مدينة علمه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، لقد أعلن عليه الحرب كما أعلن أبوه أبو سفيان الحرب على رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم . وتشكّل الجيش الذي زحف به معاوية لمحاربة الإمام عليه‌ السلام من العناصر التالية :
أ ـ الغوغاء :
أمّا الغوغاء فهم جهلة الشعوب ، وهم كالاَنعام بل هم أضلّ سبيلاً وتستخدمهم السلطة في كل زمان لنيل أهدافها ، ولتبني عروشها على جماجمهم ، وكانت الأكثرية الساحقة من جيش معاوية من هؤلاء الغوغاء المغرر بهم الذين لا يميّزون بين الحق والباطل ، والذين تلوّنهم الدعاية كيفما شاءت ، وقد جعلهم معاوية جسراً فعبر عليهم لنيل مقاصده الشريرة.
ب ـ المنافقون :
أمّا المنافقون فهم الذين أظهروا الإسلام في ألسنتهم ، وأضمروا الكفر والعداء له في ضمائرهم وقلوبهم ، وكانوا يبغون له الغوائل ، ويكيدون له في وضح النهار ، وفي غلس الليل ، وقد ابتلي بهم الإسلام كأشدّ ما يكون البلاء وامتحن بهم المسلمون كأشدّ ما يكون الامتحان لأنّهم مصدر الخطر عليهم وقد ضمّ جيش معاوية رؤوس المنافقين وضروسهم أمثال المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وأمثالهم من الزمرة الباغية الذين وجدوا الفرصة لهم مواتية لضرب الإسلام وقلع جذوره ، وقد تسلّحوا بمعاوية ابن أبي سفيان العدوّ الأوّل للإسلام فناصروه ، وساروا في جيشه لمحاربة أخي رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم ووصيه ، والمنافح الأوّل عن الإسلام.
انّ جميع من حارب رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم من المنافقين قد انضمّوا إلى معاوية وصاروا من حزبه وأعوانه في محاربة الإمام أمير المؤمنين عليه‌ السلام.
ج ـ النفعيون :
ونعني بهم الجماعة التي فقدت امتيازاتها ومنافعها للامشروعة في ظلّ حكم الامام رائد العدالة الاجتماعية في الأرض ، وفي طليعة هؤلاء ، العمّال والولاة ، وسائر الموظّفين في حكومة عثمان ، فقد فقدوا منافعهم وخافوا على مصادرة ما عندهم من الأموال التي اختلسوها من الشعب أيام عثمان ، كما تمّ عزلهم عن مناصبهم فور تقلّد الإمام للحكم.
هذه بعض العناصر التي تشكّل منها جيش معاوية ، وقد زحف بهم إلى محاربة قائد الإسلام ، ورائد العدالة الإنسانية.

احتلال الفرات :

واتّجهت جيوش معاوية صوب العراق ، فعسكرت في منطقة صفين واختارتها مركزاً للحرب ، وأوعزت القيادة العامة إلى قطعات الجيش باحتلال الفرات ، ووضع المفارز على حوض الفرات لمنع جيش الإمام من الشرب ليموتوا عطشاً ، وقد اعتبر معاوية ذلك أوّل النصر والفتح ، ونمَّ ذلك عن خبث طبيعته ولؤم عنصره ، فان لكل إنسان بل ولكل حيوان حقاً طبيعياً في الماء عند كافة الأمم والشعوب ، ولكن معاوية وبني أميّة قد تخلّوا عن جميع الأعراف ، فاستعملوا منع الماء كسلاح في معاركهم ، فقد منعوا الماء يوم الطفّ عن ريحانة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم وأهل بيته حتى أشرفوا على الموت من شدّة الظمأ.
ولمّا علم الإمام عليه‌ السلام بزحف معاوية لحربه اتّجه بجيوشه نحو صفّين فلمّا انتهوا إليها وجدوا حوض الفرات قد احتلّ من قبل معسكر معاوية ، ومنعوهم من تناول قطرة من الماء ، وألحّ العطش بجيش الإمام فانبرت إليه قادة جيشه ، وطلبوا منه الإذن في مقارعة القوم ، فرغب الإمام قبل أن يبدأهم بالحرب أن يطلبوا منهم السماح في تناول الماء ، إذ ليس لهم من سبيل أن يتخذوه وسيلة لكسب المعركة لأن الماء مباح لكل إنسان وحيوان عند جميع الشرائع والأديان ، وعرض عليهم أصحاب الإمام ذلك إلاّ أنّهم
أبوا وأصرّوا على غيّهم وعدوانهم ، فاضطّر الإمام بعد ذلك إلى أن يسمح لقوّاته المسلّحة بفتح نار الحرب عليهم ، فحملوا عليهم حملة واحدة ، ففرّوا منهزمين شرّ هزيمة ، وتركوا مواقعهم فاحتلتها جيوش الإمام ، وأصبح نهر الفرات بأيديهم ، انطلق فريق من قادة الجيش نحو الإمام فطلبوا منه أن يسمح لهم في منع الماء عن أصحاب معاوية كما منعوهم عنه ، فأبى الإمام أن يقابلهم بالمثل ، فأباح لهم الماء كما هو مباح للجميع في شريعة الله ، ولم يشكر الامويون الأوغاد هذه اليد البيضاء التي أسداها عليهم الإمام ، فقد قابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عن أبنائه في كربلاء حتى صرعهم الظمأ ، وأذاب العطش قلوبهم.

دعوة الإمام إلى السلم :

وكره الإمام أشدّ الكره الحرب وإراقة الدماء ، فدعا إلى السلم ، والوئام فقد أرسل عدّة وفود إلى ابن هند يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون وأن يجنّبهم من الحرب فأبى ولم يستجب لهذه الدعوة الكريمة ، وأصرّ على الغيّ والعدوان ، وتذرّع كذباً بالمطالبة بدم عثمان الذي ما أراق دمه إلاّ سوء تصرّفاته السياسية والإدراية.

الحرب :

ولمّا فشلت جميع الجهود التي بذلها الإمام من أجل السلم وحقن الدماء اضطّر إلى أن يفتح مع عدّوه باب الحرب ، وقد خاض معه حرباً مدمّرة سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى فضلاً عن المعوقين من كلا الجانبين واستمرّت الحرب أكثر من سنتين كانت تشتدّ حيناً ، وتفتر حيناً آخر ، وفي المرحلة الأخيرة من الحرب كاد الإمام أن يكسب المعركة ، وتحسم من صالحه ، فقد بان الانكسار في جيش معاوية ، وتفللت جميع قواعد عسكره ، وعزم معاوية على الهزيمة لولا أن تذكّر قول ابن الأطنابة :
أبت لي عفتي وحياء نفسي / اقدامي على البطل المشيح
واعطائي على المكروه مالي / أخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت / كانك تحمدي أو تسريحي
فردّه هذا الشعر إلى الصبر والثبات كما كان يتحدّث بذلك أيّام العافية ، وفيما أحسب أن هذا الشعر ليس هوالذي ردّه إلى الثبات وعدم الهزيمة إذ ليست لابن هند أيّة عفّة أو حياء نفس ، ولا غير ذلك مما حوته هذه الأبيات وانما ردّه إلى الصبر هو ما دبّره من المكيدة والخديعة التي مزّقت الجيش العراقي ، وهو ما سنتحدّث عنه.

الخديعة الكبرى :

وآن النصر المحتم لجيش الإمام ، فقد أشرف على الفتح ، ولم يبق إلاّ مقدار حلبة شاة من الوقت حتى يؤسر معاوية أو يقتل كما أعلن ذلك قائد القوّات المسلحة في جيش الإمام الزعيم مالك الأشتر ، ومن المؤسف جدّاً أنّه في تلك اللحظات الحاسمة مُني الإمام بانقلاب عسكري في جيشه ، فقد رفع عسكر معاوية المصاحف على أطراف الرماح ، وهم ينادون بالدعوة إلى تحكيم القرآن ، وإنهاء الحرب حقناً لدماء المسلمين ، واستجابت قطعات من جيش الامام لهذا النداء الذي يحمل التدمير الشامل لحكومة الإمام وأفول دولة القرآن.
يا للعجب لقد نادى جيش معاوية بالرجوع إلى تحكيم القرآن ، ومعاوية وأبوه هما في طليعة من حارب القرآن.
أصحيح أنّ ابن هند يؤمن بالقرآن ، ويحرص على دماء المسلمين وهو الذي أراق أنهاراً من دمائهم إرضاءً لجاهليته ، وانتقاماً من الإسلام.
وكان أول من استجاب لهذا النداء المزيّف العميل الأموي الأشعث ابن قيس ، فقد جاء يشتدّ كالكلب نحو الإمام ، وقد رفع صوته ليسمَعَهُ الجيش قائلاً :
« ما أرى الناس إلاّ قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فان شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد .. ».
وامتنع الإمام من إجابة هذا العميل المنافق الذي طعن الإسلام في صميمه ، والتفّ حول الأشعث جماعة من الخونة فأحاطوا بالإمام ، وهم ينادون : أجب الأشعث ، ولم يجد الإمام بُدّاً من إجابته ، فانطلق الخائن صوب معاوية ، فقال له :
« لآيّ شيء رفعتم هذه المصاحف ؟.. »
فأجابه معاوية مخادعاً :
ولنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله عزّ وجلّ في كتابه تبعثون منكم رجلاً ترضون به ، ونبعث منّا رجلاً ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم نتّبع ما اتفقا عليه .. ».
ورفع الأشعث عقيرته قائلاً :
« هذا هو الحقّ .. ».
وخرج الأشعث من معاوية ، وهو ينادي بضرورة إيقاف الحرب ، والرجوع إلى كتاب الله العظيم ، ومن المؤكّد أنّ هذه الحركة الانقلابية التي تزعّمها هذا المنافق العميل لم تكن وليدة رفع المصاحف ، وانّما كانت قبل زمن ليس بالقليل ، فقد كانت هناك اتّصالات سريّة بين الأشعث وبين معاوية ووزيره والفكر المدبّر لخدعه وأباطيله عمرو بن العاص ، ومما يدل على ذلك أنّه لم تكن هناك رقابة ولا مباحث في جيش الامام على من يتّصل بمعسكر معاوية فقد كان الطريق مفتوحاً ، وجرت اتصالات مكثّفة بين معاوية والأشعث وغيره من قادة الجيش العراقي ، وقدم لهم معاوية الرشوات ، ومنّاهم بالمراتب العالية ، وبالمزيد من الأموال إن استجابوا لدعوته.
وعلى أيّ حال فقد أُرغم الإمام على قبول التحكيم ، فقد أحاطت به قطعات من جيشه وقد شهرت عليه السيوف والرماح وهي تنادي : « لا حكم إلاّ لله » واتّخذوا هذا النداء شعاراً لتمرّدهم ، ووقوفهم ضدّ الامام ، وسرعان ما أصبحوا حركة ثورية ، ومصدر قلق مثير للفتن والاضطراب.
وعلى أيّ حال فقد جهد الإمام بنفسه ورسله على إقناعهم ، وإرجاعهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يتمكّن ، ورأى أنّهم جادّون على مناجزته والإطاحة بحكومته ، فاستجاب لهم ، وأوعز إلى قائد قوّاته العسكرية الزعيم مالك الأشتر بالانسحاب عن ساحة الحرب ، وإيقاف العمليات العسكرية ، وكان قد أشرف على الفتح فلم يبق بينه وبين الاستيلاء على معاوية سوى مقدار حلبة شاة ، ورفض مالك الاستجابة وأصرّ على مزاولة الحرب إلاّ أنّه أخبر بأنّ الإمام في خطر ، وان المتمرّدين قد أحاطوا به ، فاضطرّ إلى إيقاف الحرب ، وبذلك فقد تمّ ما أراده معاوية من الإطاحة بحكومة الإمام ، وكتب له في تلك اللحظات النصر على الإمام ، وقد انتصرت معه الوثنية القرشية كما يقول بعض الكتّاب والمحدثين.

التحكيم :

وتوالت المحن والأزمات على الإمام يتبع بعضها بعضاً ، وانكشفت خفايا هؤلاء العملاء المتمرّدين ، فقد أصرّوا على انتخاب أبي موسى الأشعري ليكون ممثلاً عن العراق ، والأشعري خبيث دنس كان حقوداً على الإمام ، ومن ألدّ أعدائه وخصومه ، وفي نفس الوقت لم يملك وعياً ولا فهماً للأحداث ، وكان بليداً ومنافقاً ، واتّخذه المنافقون والمتمردون في جيش الإمام جسراً فعبروا عليه لنيل مقاصدهم الخبيثة لعزل الإمام عن الحكم عن الحكم ، وتثبيت معاوية في مركزه.
ولم يستطع الإمام إيقاف هذا المدّ التآمري في جيشه ، فقد أصبح قادة جيشه يتلقّون الأوامر والتوجيهات من قبل معاوية ووزيره ابن العاص ، وصار الإمام بمعزل تام عن الحياة السياسية ، فقد أصبح يأمر جيشه فلا يطيع ، ويدعوه فلا يستجيب له ، وصارت دفّة الحكم كلّها بيد معاوية.
لقد حكم الأشعري بعزل الإمام ، وحكم ابن العاص بإبقاء معاوية ، وبذلك فقد انتهت مهزلة التحكيم إلى عزل الإمام عن منصب الحكم ، وتقليده لمعاوية وانطوت بذلك أقدس حكومة إسلامية ظهرت في الشرق كان يرجى منها أن تقوم ببسط العدل السياسي والعدل الاجتماعي بين الناس ، فلم تدعها هذه الوحوش الكاسرة من ذئاب الأمويين ، وسائر القبائل القرشية من تحقيق أهدافها ومثلها العليا.
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس عليه‌ السلام وهو في دور الشباب فصول هذه المأساة الكبرى فكوت قلبه ، وهزّت عواطفه ، فقد جرت لأهل بيته المصائب ، وأخلدت لهم المحن والخطوب.

ثورة الخوارج :

ومن بين المحن الشاقة التي امتحن بها الإمام امتحاناً عسيراً هي ثورة الخوارج فقد كان معظمهم من بهائم البشر ، فقد امتطاهم معاوية ، وجعلهم جسراً لنيل أطماعه وأهدافه من حيث لا يشعرون ، فهم الذين أرغموا الإمام على قبول التحكيم ، وإيقاف عمليات الحرب ، وهم الذين أصرّوا على انتخاب المنافق أبي موسى الأشعري ، ولما عقد التحكيم ، وأعلن أبو موسى عزل الإمام عن منصبه ، وأعلن ابن العاص إقامة سيّده معاوية في مركزه أسفوا على ما فرّطوا في أمر المجتمع الإسلامي واستبانت لهم المكيدة التي دبّرها ابن العاص في رفع المصاحف وعابوا على الإمام وكفّروه لاستجابته لهم ، وفي الحقيقة هم الذين يتحمّلون جميع المسؤوليات الناجمة عن ذلك.
ولمّا نزح جيش الإمام من صفّين إلى الكوفة لم يدخلوا معه إليها وانما انحازوا إلى حروراء فنسبوا إليها ، وكان عددهم فيما يقول المؤرّخون اثني عشر ألفاً ، وأذن مؤذّنهم أن أمير القتال المنافق شبث بن ربعي الذي كان من قادة الجيش الذي حارب ريحانة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم الإمام الحسين عليه‌ السلام ، كما نصبوا إماماً للصلاة عبد الله بن الكواء العسكري ، وجعلوا الأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عزّ وجلّ ، وجعلوا من أهمّ الأحكام التي يقاتلون من أجلها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا شعارهم « لا حكم إلاّ لله » ولكنّهم سرعان ما تنكّروا لهذا الشعار فجعلوا الحكم للسيف وذلك بما أراقوه من دماء الاَبرياء ، وما نشروه من الذعر والخوف بين المسلمين.
وبعث الإمام إليهم بعض رسله يعدلهم عن فكرتهم ، ويرشدهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يجد ذلك معهم شيئاً ، فانطلق عليه‌ السلام بنفسه إليهم ، ومعه أعلام أصحابه ، فجعل يناظرهم ، ويقيم الأدلة الوثيقة على فساد رأيهم ، وضلالة قصدهم ، فاستجاب له قوم ، وأبي قوم آخرون ، وجعل الأمر يمعن في الفساد بين الإمام وبينهم ، وأخذوا ينشرون الإرهاب ، واعمال التخريب ، ويعيثون في الأرض فساداً ، وقد رحلوا عن الكوفة ، وعسكروا في النهروان ، واجتاز عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن خباب ابن الأرت ، وهو من أعلام أصحاب الإمام فدارت بينه وبينهم أحاديث ، فعمدوا إليه فقتلوه ، وقتلوا معه السيّدة زوجته ، ولم يقف شرّهم عند هذا الحدّ ، وانّما أخذوا يذيعون الذعر والخوف بين المسلمين.
وبعث الإمام إليهم الحارث بن مرة العبدي ليسألهم عما أحدثوه من الفساد ، فلما انتهى إليهم اجهزوا عليه وقتلوه ، ورأى الإمام بعد هذا أنّهم يشكّلون خطراً كبيراً على دولته ، وانّهم مصدر فتنة وتخريب بين المسلمين ، وان الواجب يقضي بحربهم فزحف إليهم بجيشه ، ودارت بينه وبينهم معركة رهيبة ، فقتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم إلاّ تسعة (١)
وانتهت بذلك حرب النهروان وقد شاهد أبو الفضل العبّاس عليه‌ السلام هذه الحرب ووقف على دوافعها التي كان منها كراهة هؤلاء القوم لعدل الإمام ، وتفانيه في إقامة الحقّ بين الناس.
ومن الجدير بالذكر أن أبا الفضل العباس عليه‌ السلام لم يشترك في حرب النهروان ولا في حرب صفين ، فقد منعه الإمام كما منع بعض أبنائه ، واعلام أصحابه من الدخول في الحرب ضنّاً بهم على الموت ، ومما يدل على ذلك أن الذين كتبوا عن واقعة صفين والنهروان لم يذكروا أيّ دور لسيّدنا العباس فيهما.

النتائج الفظيعة :

وأعقبت حرب الجمل ، وحرب صفّين أسوأ الأحداث وأقساها وأشقّها محنة على الإمام عليه‌ السلام ومن بينها :
١ ـ التمرّد الكامل في جيش الإمام فقد أصبحت جميع قطعاته غير مطيعة لأوامر الإمام.
لقد شاعت الهزيمة النفسية في جيش الإمام ، وفقدت قطعاته الروح المعنوية ، وتخاذلت تخاذلاً مطلقاً أمام الأحداث التي مُني بها.
٢ ـ وعمد معاوية بعد معركة صفين إلى تعزيز جيشه وتماسكه ، وقد بثّ فيه روح العزم والإخلاص ، وقد وثق بالنصر والفتح والتغلّب على جيش الإمام.
٣ ـ وتعرّضت البلاد الإسلامية الخاضعة لحكم الإمام لحملات إرهابية عنيفة كانت تشنّها العصابات المجرمة التي يبعثها معاوية لإشاعة الخوف والذعر فيها ، وقد تعرّضت المناطق القريبة من عاصمة الإمام لهجمات الإرهابيين من كلاب معاوية ، والإمام لم يتمكّن من حمايتها وحفظ الأمن والإستقرار فيها فكان يدعو بحرارة جأشه للذبّ عن حياض الوطن ، وحمايته من الاعتداء فلم يستجب له أحد منهم.
٤ ـ واحتلّت جيوش معاوية مصر احتلالاً عسكرياً ، وبذلك خرجت عن حكم الإمام ، وقد أُصيبت حكومة الإمام بنكسه كبيرة ، ولم تعد بعد هذه الأحداث إلاّ شكلاً خاوياً في ميدان الحكم.

مصرع الإمام :

وبقي الإمام الممتحن في ارباض الكوفة قد أحاطت به المحن والأزمات يتبع بعضها بعضاً ، يرى باطل معاوية قد استحكم ، وشرّه قد استفحل وهو لا يتمكّن أن يقوم بأي عمل لتغيير الأوضاع الاجتماعية المتدهورة المنذرة بأفول دولة الحق ، وإقامة حكومة الظلم والجور.
لقد استوعبت المحن الشاقة التي أحاطت بالإمام نفسه الشريفة فراح يدعو الله ، ويتوسّل إليه بحرارة أن ينقله إلى جواره ، ويريحه من هذا العالم المليء بالفتن والأباطيل ، واستجاب الله دعاء الإمام فقد عقدت عصابة مجرمة من الخوارج مؤتمراً في مكّة ، وأخذوا يذكرون بمزيد من الأسى والحزن قتلاهم الذين حصدت رؤوسهم سيوف الحق في النهروان ، وعرضوا ما مني به العالم الإسلامي من الفتن والانشقاق وألقوا تبعة ذلك حسب زعمهم على الإمام أمير المؤمنين ، ومعاوية وعمرو بن العاص ، فقرّروا القيام باغتيالهم ، وعيّنوا لذلك وقتاً خاصاً ، وضمن لهم ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم اغتيال الامام أمير المؤمنين ، ومن الجدير بالذكر أن مؤتمرهم كان بمرأى ومسمع من السلطة المحلّية بمكّة ، وأكبر الظنّ أنّها كانت على اتصال معهم وان القوى المنحرفة عن الإمام قد أمدّت ابن ملجم بالمال ليقوم باغتيال الإمام.
وعلى أيّ حال فقد قفل ابن ملجم راجعاً إلى الكوفة وهو يحمل شرّ أهل الأرض ، ويحمل الكوارث المدمّرة للمسلمين ، وفور وصوله إلى الكوفة اتصل بعميل الامويين المنافق الأشعث بن قيس ، وأخبره بمهمته ، فشجّعه على اقتراف الجريمة ، وأبدى له تقديم جميع ألوان المساعدات لتنفيذها.
وفي ليلة التاسع عشر من رمضان شهر الله المبارك اتّجه زعيم الموحّدين وسيّد المتقين نحو مسجد الكوفة ليؤدّي صلاة الصبح ، فأقبل نحو الله ، فشرع في صلاته ، ولما رفع رأسه من السجود علاه ابن اليهودية بالسيف فشقّ رأسه الشريف الذي كان كنزاً من كنوز العلم والحكمة والإيمان ، والذي ما فكّر إلاّ بتوزيع خيرات الله على البؤساء والمحرومين ، وإشاعة الحقّ والعدل بين الناس.
ولمّا أحسّ الإمام بلذع السيف علت على شفتيه ابتسامة الرضا والظفر ، وراح يقول :
« فزت وربّ الكعبة .. ».
لقد فزت يا إمام المصلحين ، فقد وهبت حياتك لله وجاهدت في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين.
لقد فزت يا إمام المتّقين لأنّك في طيلة حياتك لم توارب ولم تخادع ولم تداهن ، ومضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بسيّد المرسلين ابن عمّك صلّى الله عليه وعليك ، فكان ذلك حقاً هو الفوز العظيم.
لقد فزت أيّها الإمام الحكيم لأنّك خبرت الدنيا ، وعرفتها دار فناء وزوال فطلّقتها ثلاثاً ، وأعرضت عن زينتها ومباهجها واتجهت صوب الله فعملت كل ما يرضيه ، وما يقربك إليه زلفى.
وحُمل الإمام إلى منزله ، وقد فاضت عيون الناس بالدموع وتقطّعت النفوس ألماً وحزناً ، وكان الإمام هادىء النفس قرير العين ، قد تعلّق قلبه بالله ، وهام في مناجاته ، وقد سأله مرافقة الأنبياء والأوصياء ، وأخذ يلقي نظراته على أولاده ، وخصّ ولده أبا الفضل بالعطف والحنان ، واستشفّ من وراء الغيب انّه ممن يرفع رايه القرآن ، ويقوم بنصرة أخيه ريحانة رسول الله المنافح الأول عن رسالة الإسلام.

وصايا خالدة :

ولما شعر الإمام العظيم بدنّو أجله المحتوم أخذ يوصي أولاده بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، وأمرهم أن يجسّدوا الإسلام في سلوكهم واتجاهاتهم ، وفيما يلي بعض بنود وصيّته.
أ ـ التحلّي بتقوى الله التي هي الاَساس في بناء الشخصية الإسلامية على أساس متكامل من الوعي والازدهار.
ب ـ الالتزام بالحق قولاً وعملاً وبه تصان الحقوق وتسود العدالة الاجتماعية بين الناس.
ج ـ مناجزة الظالم والوقوف في وجهه ، ومناصرة المظلوم ومساعدته ، وفي ذلك إقامة للعدل الذي هو من أهمّ الأهداف الأصيلة التي ينشدها الإسلام.
د ـ السعي في إصلاح ذات البين ، وإزالة البغضاء والكراهيّة بين المتخاصمين وهو من أفضل الأعمال وأهمّها في الإسلام لأن فيه إقامة لمجتمع متطوّر قائم على المحبّة والمودّة.
ه‍ ـ مراعاة الأيتام ، والقيام بصلتهم ، ورفع الحاجة عنهم ، وهذا من جملة بنود التكافل الإسلامي الذي هو من أبدع ما شرّعه الإسلام في نظامه الاقتصادي.
و ـ الإحسان إلى الجيران ، والإغداق عليهم بالبرّ والمعروف لأن فيه إشاعة للمحبّة بين المسلمين ، كما أنّه في نفس الوقت من أهمّ الوسائل في تماسك المجتمع الإسلامي ووحدته.
ز ـ العمل بما في القرآن الكريم من أحكام وسنن وآداب فانّه خير ضمان لصيانة سلوك الإنسان المسلم ، وتهذيبه ، ورفع مستواه.
ح ـ إقامة الصلاة في أوقاتها وأدائها على أحسن وجه فانّها عمود الدين ومعراج المؤمن ، وهي ترفع الإنسان إلى مستوى عظيم إذ تشرفه بالاتصال بخالق الكون وواهب الحياة.
ط ـ إحياء المساجد بذكر الله من العبادة والعلم ، وتعتبر المساجد من أهمّ المراكز في إشاعة الآداب والفضائل بين المسلمين.
ي ـ الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال لإقامة معالم الدين وإحياء السنّة ، وإماتة البدعة.
ك ـ إشاعة المحبّة والمودّة بين المسلمين ، وذلك بالتواصل والتوادد وترك التدابر والتقاطع ، وغير ذلك مما يؤدّي إلى فصم عرى الوحدة بينهم.
ل ـ إقامة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر لأنّه مما يؤدّي إلى إقامة مجتمع سليم تسوده العدالة ، أما ترك ذلك فان له من المضاعفات السيّئة التي توجب ارتطام المجتمع بالفتن والبلاء كتولية الفساق والأشرار لشؤونه ، وعدم استجابة الدعاء من أفراده.
هذه بعض الوصايا الخالدة التي أدلى بها الإمام العظيم ، وهو على فراش الموت (2).

إلى جنّة المأوى :

وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمام عليه‌ السلام من جرّاء الضربة الغادرة التي عمّمه فيها ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم ، وأخذ الموت يدنوا إليه سريعاً سريعاً ، وقد استقبل إمام المتّقين الموت بثغر باسم ، ونفس آمنة مطمئنّة متعطّشة إلى لقاء الله راضية بقضائه وقدره ، وكان لا يفترّ لحظة واحدة عن ذكر الله ، وقراءة كتابه ، وقد حفّ به أبناؤه وهم يذرفون أحرّ الدموع قد مزّق المصاب قلوبهم ، وقد استقبل القبلة حامداً لله حتى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن ، وأرواح الأنبياء والأوصياء وقد ازدهرت به جنان الخلد.
لقد توفّي عملاق الفكر الإنساني ، ورائد العدالة الاجتماعية في الأرض ، لقد عاش هذا الامام العظيم غريباً في مجتمع لم يعرف مكانته ، ولم يع قيمه وأهدافه التي كان منها أن ينفي البؤس والشقاء من الأرض ، وينفي الحاجة والحرمان عن بني الإنسان ، فيوزع عليهم خيرات الله ، فثارت في وجهه العصابة المجرمة من الرأسمالية القرشية ، وأوغاد الأمويين الذين اتخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وقد صمد الإمام في وجوههم ، ولم ينثن عن عزمه الجبّار حتى استشهد مناضلاً عن قيمه وأهدافه.

تجهيزه :

وانبرى الإمام الحسن عليه‌ السلام ، ومعه السادة الكرام من إخوانه ومن بينهم أبو الفضل العبّاس عليه‌ السلام إلى تجهيز الجثمان العظيم ، فغسّلوا الجسد الطاهر ، ثم أدرجوه في أكفانه ، وهم يذرفون أحرّ الدموع وبعد ذلك حملوه إلى مقرّه الأخير ، فدفنوه في مرقده المطّهر في النجف الأشرف ، وقد أعزّه الله ، ورفع من شأنه فجعله كعبةً للوافدين ، ولم يحظ مرقد من مراقد أولياء الله كما حظي مرقده الشريف فقد أحيط بهالة من التعظيم والتقديس عند كافة المسلمين.
المصادر :
1- حياة الامام الحسن ١ : ٣٥٨ الطبعة الثالثة.
2- يلاحظ نهج البلاغة فقد حفل بهذه الوصايا القيّمة.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ادخال ما لیس من الدین فی الدین
مرقدها (زينب الکبري سلام الله عليها)
السعادة في النظام الاخلاقي الاسلامي
تنشيط نظام المناعة بالصيام
المقام العلمي للإمام الباقر عليه السلام
البرمجيات القرآنية المتعددة اللغات بإمكانها أن ...
طبیعة التشریع الإسلامی
الدلالات في القرآن، وفي العهد القديم (قصة يوسف)
ما تنبأ به الامام!
حج فی احادیث الامام الخمینی قدس سره (1)

 
user comment