البرزخ هو المنزل الأول للإنسان بعد مفارقة الدنيا بالموت، وتحقيق الحال يتوقف على تبيين معنى البرزخ، وإثبات الحياة في تلك النشأة التّي هي قبل البعث ويوم القيامة.
قال ابن فارس في المقاييس: "البرزخ: الحائل بين الشيئين، كأنّ بينهما برازاً أي متسعاً من الأرض، ثم صاركل حائل برزخاً فالخاء زائدة لما ذكرنا"1.
ويقول إبن منظورفي اللسان: "البرزخ: مابين شيئين. وفي الصحاح الحاجز بين شيئين. والبرزخ مابين الدنيا والآخرة: قبل الحشر من وقت الموت إلى البعث، فمن مات فقد دخل البرزخ"2.
هذا معنى البرزخ وبه يفسرقوله سبحانه: ?وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون?(المؤمنون:100). والوراء في الآية بمعنى الأمام كمافي قوله سبحانه: ?وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَة غَصْبا?(الكهف:79).
والآية لا تفيد أزيد من وجود الفاصل، والحاجز بين الدنيا والقيامة، مثل قوله سبحانه: ?بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ?(الرحمن:20). ولا تدل على وجود حياة في هذ الفصل.
نعم، هناك آيات يستفاد منها وجود حياة واقعية للإنسان في تلك النشأة، نذكر منها مايلي
1- قال تعالى: ?قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوج مِنْ سَبِيل?(غافر:11).
وهذه الآية تحكي عن تحقيق إحياءين وإماتتين إلى يوم البعث، وقد اختلف المفسّرون في تفسيرهما، والمروي عن ابن عباس أنّ الإماتة الأولى، حال كونهم نطفاً، فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة الثانية، ثم أحياهم للبعث، فهذان إحياءان وإماتتان ونظيره قوله: ?كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون?(البقرة:28).
يلاحظ عليه: إنّ الآية الثانية ليست نظير الآية الأُولى حتى تفسّر بها، فإنّ الآية الثانية، تصف الناس بكونهم أمواتاً، وهو ينطبق على الإماتة في حال كون الإنسان نطفة أوقبل ذلك، بخلاف الآية الأُولى فإنها تحكي عن إماتة الإنسان، والفرق بين الموت والإماتة واضح، فالأحوال المتقدمة على النطفة، ونفسها، توصف بالموت، دون الإماتة. فلأجل ذلك لا يصح تفسير الإماتة بماجاء في هذا القول.
والظاهر أنّ المراد هو مايلي:
الإماتة الأُولى هي الإماتة عن الحياة الدنيا.
والإحياء الأوّل هوالإحياء في البرزخ، وتستمر هذه الحياة إلى نفخ الصور الأوّل.
والإماتة الثانية، عند نفخ الصور الأوّل يقول سبحانه: ?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْض?(الزمر:68).
والإحياء الثاني، عند نفخ الصور الثاني، يقول سبحانه: ?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ?(يس:51).
وتعدد نفخ الصور يستفاد من الآيتين، فيترتب على الأول هلاك من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاءالله، وعلى الثاني قيام الناس من أجداثهم، وفي أمر النفخ الثاني يقول سبحانه: ?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا?(الكهف:99).
ويقول سبحانه: ?فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذ وَلاَ يَتَسَاءَلُون?(المؤمنون:101). واختلاف الآثار يدل على تعدد النفخ.
وعلى ضوء هذا فللإنسان حياة بعد الإماتة من الحياة الدنيا، وهي حياة برزخية متوسطة بين النشأتين.
2ـ قوله سبحانه: ?مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا?(نوح:25).
وهذه الآية تدل على أنهم دخلوا النار بعد الغرق بلا فصل للفاء في قوله: (فأدخلوا). ولو كان المراد هونار يوم القيامة لكان اللازم الإتيان بـ "ثم" أوّلاً، وارتكاب التأويل في قوله(فأدخلوا)، حيث وضع الماضي مكان المستقبل لأجل كونه محقّق الوقوع، وهو خلاف الظاهر، ثانياً.
3ـ قوله سبحانه: ?النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ?(غافر:46).
وهذه الآية تحكي عرض آل فرعون على النار صباحاً ومساءً، قبل يوم القيامة، بشهادة قوله بعد العرض: (ويوم تقوم السّاعة). ولأجل ذلك، عبّر عن العذاب الأول بالعرض على النار، وعن العذاب في الآخرة، بإدخال آل فرعون أشدّ العذاب، حاكياً عن كون العذاب في البرزخ، أخفّ وطأً من عذاب يوم الساعة.
نعم، هناك آيات تدلّ على حياة الإنسان في هذا الحدّ الفاصل بين الدنيا والبعث، حياة تناسب هذا الظرف، ونكتفي هنا بهذا المقدار، حذراً من الإطالة.
وأمّا من السنة، فنكتفي بماجاء عن الصادق عليه السَّلام، عندما سئل عن أرواح المؤمنين؟ فقال: "في حجرات في الجنة، يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويقولون ربّنا أتمم لنا الساعة وأنجز ما وعدتنا".
وسئل عن أرواح المشركين، فقال:"في النار يعذّبون، يقولون لا تقم لنا الساعة، ولا تنجزلنا ماوعدتنا"3.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- المقاييس، ج 1، ص 333.
2- لسان العرب، ج3، مادة برزخ،ص 8.
3- البحار،ج6، باب أحوال البرزخ،ص169، الحديث 122، وص 270، الحديث 126.