من المزايا التي خص الله تعالى بها المؤمنين: أن المؤمن إذا إحتفظ بإيمانه حتى وفاته، ولم يرتكب الذنوب التي تسلب التوفيق منه، أو تؤدي به لسوء العاقبة، وتنحدر به للشك والإرتياب أو الإنكار والجحود، وفي جملة واحدة (إذا رحل عن الدنيا وهو مؤمن)، فان مثل هذا المؤمن سوف لا يتعرض للعذاب الأبدي، وتغتفر له ذنوبه الصغيرة بسبب إجتنابه الكبائر، وتغتفر له كبائره ايضا، فيما لو صدرت منه التوبة المقبولة والكاملة. وأما إذا لم يوفق لمثل هذه التوبة فإن تحمله لمصائب الدنيا وآلامها ولشدائد عالم البرزخ وأهواله، ومواقف النشور والقيامة، سوف تأتي على البقية الباقية من أخطائه وأوزاره، وتزيل آثارها. وإذا لم يتطهر من خلال ذلك كله من أوحال ذنوبه وخطاياه، فإن الشفاعة ستقوم بمهمة إنقاذه من عذاب الجحيم وهي أعظم وأشمل مظاهر الرحمة الالهية المختصة بأولياء الله وخاصة رسوله الأكرم و أهل بيته الطاهرين عليهم الصلاة والسلام, ووفقا للكثير من الروايات فإن "مَقَامًا مَّحْمُودًا"(الاسراء:79) الذي وعد به الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله في القرآن الكريم هو مقام الشفاعة، وكذلك الآية الشريفة: "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى" (الضحى:5).
تشير إلى العفو الإلهي الذي يشمل المستحقين، والذي يتم بشفاعة الرسول صلى الله عليه وآله.
ومن هنا، فإن أعظم أمل وآخر ملجأ للمؤمنين المذنبين هو الشفاعة، ولكن في الوقت نفسه، يلزم عليهم عدم الأمن من (المكر الالهي)، وأن يكونوا في حذر تام حتى لا تصدر منهم تلك الأعمال التي تؤدي لسوء العاقبة، وسلب الإيمان حال الاحتضار والموت، ويلزم أن لا يترسخ في قلوبهم التعلق والإنشداد بالأمور الدنيوية إلى درجة يرحلون معها من هذه الدنيا وهم ساخطون على الله لكونه هو الذي يفرق بالموت بينهم وبين ما يحبونه ويعشقونه ويتعلقون به.
الشفاعة مشتقة من مادة (الشفع) أي (الزوج وما يضم إلى الفرد)، وتستخدم في الاستعمالات العرفية: بأن يطلب شخص محترم إلى شخص كبير، أن يعفو عن معاقبة مجرم، أو أن يضاعف مكافأة بعض العاملين والخدم. ولعل النكتة في إستعمال لفظة الشفاعة في هذه الأمور: أن هذا المجرم لا يستحق العفو، بحد ذاته هو، أو أن مثل ذلك العامل والخادم لا يستحق مضاعفة المكافأة لوحده، ولكن بضم طلب (الشفيع)، يتحقق مثل هذا الإستحقاق.
مفهوم الشفاعة:
الشفاعة مشتقة من مادة (الشفع) أي (الزوج وما يضم إلى الفرد)، وتستخدم في الاستعمالات العرفية: بأن يطلب شخص محترم إلى شخص كبير، أن يعفو عن معاقبة مجرم، أو أن يضاعف مكافأة بعض العاملين والخدم. ولعل النكتة في إستعمال لفظة الشفاعة في هذه الأمور: أن هذا المجرم لا يستحق العفو، بحد ذاته هو، أو أن مثل ذلك العامل والخادم لا يستحق مضاعفة المكافأة لوحده، ولكن بضم طلب (الشفيع)، يتحقق مثل هذا الإستحقاق.
وفي المجالات المتعارفة، انما يتقبل الشخص شفاعة الشفيع، بسبب خشيته من أنه إذا لم يقبل شفاعته، فسوف يتألم هذا الشفيع ويتأذى، وبذلك يحرم من لذة معاشرته ومؤانسته، أو خدمته، بل ربما أدى عدم قبوله لشفاعته، أن يلحقه بعض الاذى، والضرر من جانب الشفيع، والملاحظ أن المشركين الذين إعتقدوا بإتصاف خالق الكون ببعض الصفات الإنسانية البشرية، من قبيل الحاجة للمؤانسة والمعاشرة مع الزوجة والندمان، أو الحاجة للمساعدين والمعينين المشاركين له في العمل، أو الخوف من النظراء والشركاء، إن أمثال هؤلاء المشركين، من أجل إسترحام الخالق الكبير عليهم، وإستعطافه، أو من أجل التخلص من سخطه، كانوا يتوسلون اليه بآلهة اسطورية موهومة، أو يفزعون لعبادة الملائكة والجن، أو التذلل أمام الأوثان وكانوا يقولون: "هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه" (يونس:18, وكذلك: الروم:13, الانعام:94, الزمر:43).
ويقولون أيضا: "مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى"(الزمر:3).
ويقول القرآن الكريم حول هذه المعتقدات الجاهلية: "لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيّ وَلاَ شَفِيع"(الانعام:51، وايضا: الانعام:70، السجدة:4، الزمر:44).
ولكن يلزم التأكيد على هذه الحقيقة: أن إنكار أمثال هؤلاء الشفعاء، أو نفي مثل هذه الشفاعة لا يعني إنكار مطلق الشفاعة، وفي القرآن الكريم نفسه آيات تدل على ثبوت (الشفاعة بإذن الله)، وقد ذكرت فيها شروط الشفعاء والمشفوع لهم، ويجدر أن نعلم أن قبول الله لشفاعة الشفعاء المأذونين ليس بسبب الخوف أو الحاجة اليهم، بل إنه طريق فتحه الله تعالى لأولئك الذين لا يملكون إلا أدنى وأقل مراتب الإستحقاق للتزود من الرحمة الأبدية وقد عين لهذه الشفاعة بعض الشروط والضوابط.
وفي الواقع إن الفرق بين الشفاعة الصحيحة والشفاعة الباطلة هو الفرق بين الإعتقاد بالولاية والتدبير بإذن الله، والولاية والتدبير المستقل.
وقد تستخدم لفظة الشفاعة أحيانا في معنى أوسع من ذلك، لتشمل ظهور أي تأثير خير حسن في الإنسان بواسطة آخر، كما هو الملاحظ في شفاعة الوالدين لأولادهم أو بالعكس، والمعلمين والمرشدين لتلاميذهم بل حتى المؤذن بالنسبة لأولئك الذين تذكروا الصلاة عند سماع صوته، وإتجهوا للمساجد، وفي الواقع إن هذا الأثر الخير الحسن نفسه الذي وجد في الدنيا، بتأثير هؤلاء، يظهر في القيامة بصورة الشفاعة والاعانة.
والملاحظة الأخرى: أن الإستغفار للعصاة في هذه الدنيا نوع من الشفاعة ايضا، وحتى الدعاء للآخرين، والتوسل إلى الله لقضاء حوائجهم، يعتبر في الواقع، من قبيل (الشفاعة عند الله) لانها كلها من قبيل الوساطة عند الله تعالى من أجل إيصال خير للشخص، أو دفع شر عنه.
ضوابط الشفاعة
تقدم أن الشرط الأساس لشفاعة الشفيع، أو قبول الشفاعة في حق المشفوع له، هو الإذن الإلهي، كما جاء ذلك في الآية (255) من سورة البقرة: "مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه". ويقول في الآية (3) من سورة يونس: "مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِه". ويقول ايضا في الآية (109) من سورة طه: "يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا". ويقول في الآية (23) من سورة سبأ: "وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه".
ويثبت من هذه الآيات اجمالا اشتراط الإذن الإلهي، ولكن لا يستفاد منها خصائص المأذونين ومميزاتهم، ولكن هناك آيات أخرى يمكن التوصل من خلالها إلى شروط أكثر وضوحا يلزم توفرها في الطرفين: الشفعاء والمشفوع لهم، ومنها الآية (86) من سورة الزخرف، حيث تقول: "وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون".
وربما كان المراد من قوله (من شهد بالحق) شهداء الأعمال، الذين يعلمون، وبتعليم من الله، أعمال العباد ونواياهم، ويمكنهم أن يشهدوا على كيفية أعمالهم وقيمتها. كما أنه، بمناسبة الحكم والموضوع يمكن القول أن الشفعاء يلزم أن يتمتعوا بمثل هذا العلم، بحيث يمكنهم أن يحددوا الأفراد الذين يستحقون التشفع لهم. ثم إن القدر المتيقن من الشفعاء الذين يتوفر فيهم هذان الشرطان، هم المعصومون عليهم السلام.
ومن جانب آخر: يستفاد من بعض الآيات أن المشفوع لهم لا بد أن يكونوا مرضيين عند الله، كما جاء ذلك في الآية (28) من سورة الأنبياء حيث تقول: "وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى".
ويقول في الآية (26) من سورة النجم: "وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى".
ومن الواضح أنه: ليس المراد من كون المشفوع مرضيا عند الله، أن تكون أعماله كلها مرضية، فإنه لو كان كذلك لما إحتاج للشفاعة بل المراد أن يكون الشخص نفسه مرضيا من حيث دينه وإيمانه، كما فسر في الروايات بهذا المعنى.
ومن جانب آخر، ذكرت بعض الآيات صفات أولئك الذين لا تشملهم الشفاعة، أمثال ما ورد في الآية (100) من سورة الشعراء، حيث أوردت على لسان المشركين: "فَمَا لَنَا مِن شَافِعِين". وفي سورة المدثر من الآية (40) حتى الآية (48)، حيث يسأل المجرمون عن سبب دخولهم النار، أمثال ترك الصلاة1وعدم إطعام المساكين، وتكذيب يوم الجزاء، ثم يقول القرآن الكريم بعد ذلك "فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين". ويستفاد من هذه الآيات أن المشركين والمنكرين للقيامة، الذين لا يعبدون الله، ولا يساعدون المساكين، ولم يلتزموا أصولا صحيحة، لن يشفع لهم أبدا، وكذلك مع ملاحظة أن إستغفار الرسول صلى الله عليه وآله في الدنيا يعتبر نوعا من الشفاعة، ولا يقبل إستغفاره لأولئك الذين يستكبرون ويمتنعون عن طلب الإستغفار والشفاعة منه2، يستفاد من ذلك، أن منكر الشفاعة لا تشمله الشفاعة أيضا، وقد ورد هذا المعنى في الروايات أيضا3.
والحاصل: أن الشفيع المطلق والأصلي، يلزم بالاضافة لإذن الله له بالشفاعة أن لا يكون هو بنفسه من أهل المعصية، وأن يكون قادرا على تقييم درجات إطاعة الآخرين وعصيانهم وأن الاتباع الحقيقيين لمثل هذا الشفيع، يمكنهم وفي ضوئه أن يملكوا مراتب ادنى من الشفاعة حيث يحشر أمثال هؤلاء الاتباع في زمرة الشهداء والصديقين4، ومن جانب آخر: إن من يستحق التشفع له، يلزم بالاضافة للإذن الإلهي أن يكون مؤمنا حقا بالله والأنبياء ويوم القيامة وكل ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله، ومنها الإيمان بالشفاعة ذاتها وانها على حق، وأن يبقى ثابتا على إيمانه حتى نهاية عمره.
*دروس في العقيدة الاسلامية
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1-قال الإمام الصادق عليه السلام في آخر لحظات عمره الشريف:"ان شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصلاة"1 بحار الانوار، ج4، ص 2.
2- سورة المنافقون, الآيتان: 5-6.
3- عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يؤمن بشفاعتي فلا انا له الله شفاعتي) (بحار الانوار، ج 8، ص 58، ح 84).
4- ?وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِم?ْ (الحديد:19).